الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ شَرًّا فَاعْلَمُوا أَنَّهُ النَّارُ.
وَجُمْلَةُ وَعَدَهَا اللَّهُ حَالٌ مِنَ النَّارِ، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، أَيْ وَعَدَهَا اللَّهُ إِيَّاكُمْ لِكُفْرِكُمْ.
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيْ بِئْسَ مَصِيرُهُمْ هِيَ، فَحَرْفُ التَّعْرِيفِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِنْشَاءَ ذَمٍّ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ بِئْسَ الْمَصِيرُ هِيَ لِمَنْ صَارَ إِلَيْهَا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا
لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ وَتَكُونُ الْوَاوُ اعتراضية تذييلية.
[73]
[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 73]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
أُعْقِبَتْ تَضَاعِيفُ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْإِنْذَارَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِمَّا فِيهِ مُقْنِعٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ إِلَهَ النَّاسِ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ بَاطِلٌ، أُعْقِبَتْ تِلْكَ كُلُّهَا بِمَثَلٍ جَامِعٍ لِوَصْفِ حَالِ تِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ وَعَابِدِيهَا.
وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ.
فَالْمُرَادُ بِ النَّاسُ هُنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِينَ.
وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَتَنْهِيَتِهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ شِبْهٌ بِرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمِمَّا يَزِيدُهُ حُسْنًا أَنْ يَكُونَ الْعَجُزُ جَامِعًا لِمَا فِي الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالْخُلَاصَةِ لِلْخُطْبَةِ وَالْحَوْصَلَةِ لِلدَّرْسِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَبَيَانُهُ اسْتُعِيرَ الضَّرْبُ لِلْقَوْلِ وَالذِّكْرِ تَشْبِيهًا بِوَضْعِ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيْكُمْ مَثَلٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] .
وَبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ فَاعِلٌ بِعَكْسِ مَا فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخْرَى الَّتِي صُرِّحَ فِيهَا بِفَاعِلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 26] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 75] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: 29] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ:
76] . إِذْ أُسْنِدَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَغَيْرِهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 74] . وضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ فِي [سُورَةِ يس: 78] ، إِذْ أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا نَسْجُ التَّرْكِيبِ عَلَى إِيجَازٍ صَالِحٍ لِإِفَادَةِ احْتِمَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ تَشْبِيهًا تَمْثِيلِيًّا، أَيْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَمْثِيلًا يُوَضِّحُ حَالَ الْأَصْنَامِ فِي فَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمَثَلُ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلُ، أَيْ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ مُمَاثِلَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ ضُرِبَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: 9] ، أَيْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِفِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي التَّقْدِيرِ، أَيْ بُيِّنَ تَمْثِيلٌ عَجِيبٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلَّفْظِ مَثَلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَى مُفَادِ هَذَا الْمَثَلِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الشَّرِكَةِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَيِ اسْتَمِعُوا اسْتِمَاعَ تَدَبُّرٍ.
فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي فَاسْتَمِعُوا لَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَفِي التَّعْجِيبِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَثَلَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَعَائِدٌ عَلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] ، أَيِ اسْتَمِعُوا لِلضَّرْبِ، أَيْ لِمَا يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَيُقَدَّرُ مُضَاف بِقَرِينَة فَاسْتَمِعُوا لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا أَلْفَاظًا، أَيِ اسْتَمِعُوا لِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ فِي حَمَاقَةِ ضَارِبِيهِ.
وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي ضُرِبَ مَعَ أَنَّهُ لَمَّا يُقَلْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: 9] ، أَيْ لَوْ قَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ للسامعين بِأَن يتهيأوا لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَى الْبُلَغَاءِ مِنِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِلْأَمْثَالِ وَمَوَاقِعِهَا.
وَالْمَثَلُ: شَاعَ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا
فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 17]، فَالتَّشْبِيهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضمني خفيّ ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. فَشُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَفِي مَكَّةَ بِالْخُصُوصِ بِعُظَمَاءَ، أَيْ عِنْدَ عَابِدِيهَا. وَشُبِّهَتْ هَيْئَتُهَا فِي الْعَجْزِ بِهَيْئَةِ نَاسٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ خَلْقُ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الذُّبَابُ، بَلْهَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ دَلَّ إِسْنَادُ نَفْيِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ عَلَى تَشْبِيهِهِمْ بِذَوِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّ نفي الْخلق يَقْتَضِي مُحَاوَلَةِ إِيجَادِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 21] . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الذُّبَابَ سَلَبَهُمْ شَيْئًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَخْذَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ عَدَمِ تَحَرُّكِهِمْ، فَكَمَا عَجَزَتْ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْخَلْقِ وَعَنْ دَفْعِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهَا فَكَيْفَ تُوسَمُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِذِكْرِ لَوَازِمِ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً إِلَى آخِرِهِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْأَصْنَامِ فِي عَجْزِهَا بِمَا دُونَ هَيْئَةِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَانَتْ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً.
وَفَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَثَلَ هُنَا بِالصِّفَةِ الغريبة تَشْبِيها لما بِبَعْضِ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا اسْتِعْمَالَ يُعَضِّدُهُ اقْتِصَادًا مِنْهُ فِي الْغَوْصِ عَنِ الْمَعْنَى لَا ضَعْفًا عَنِ اسْتِخْرَاجِ حَقِيقَةِ الْمَثَلِ فِيهَا وَهُوَ جذيعها الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ وَلَكِنْ أَحْسَبُهُ صَادَفَ مِنْهُ وَقْتَ سُرْعَةٍ فِي التَّفْسِيرِ أَوْ شُغْلًا بِأَمْرٍ خَطِيرٍ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْأَخِيرِ.
وَفُرِّعَ عَلَى التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ لِوَعْيِهِ وَتَرَقُّبِ بَيَانِ إِجْمَالِهِ تَوَخِّيًا لِلتَّفَطُّنِ لِمَا يُتْلَى بَعْدُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ إِلَخْ بَيَانٌ لِ مَثَلٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي مَعْنَى ضُرِبَ مَثَلٌ، فَإِنَّ الْمَثَلَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ فَصَحَّ بَيَانُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ.
وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ (إِنَّ) ، وَأُكِّدَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْيِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ (لَنْ) لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُمُ الْخَلْقَ إِلَيْهَا وَقَدْ نُفِيَ عَنْهَا الْخَلْقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِقْحَامِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهَا الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ تَخْلُقَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقْتَضِي نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي بِالْأَحْرَى لِأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا يَكُونُ فِعْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ
خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يُقْصَدَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِحَالِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ هُمْ فَرِيقٌ مِنْكُمْ.
وَالذُّبَابُ: اسْمُ جَمْعِ ذُبَابَةٍ، وَهِيَ حَشَرَةٌ طَائِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى ذِبَّانٍّ- بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَلَا يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلْوَاحِدَةِ ذِبَّانَةٌ.
وَذِكْرُ الذُّبَابِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْقَرِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَيَاةُ الْمُشَاهَدَةُ. وَأَمَّا مَا
فِي الْحَدِيثِ فِي الْمُصَوِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً»
فَهُوَ فِي سِيَاقِ التَّعْجِيزِ لِأَنَّ الْحَبَّةَ لَا حَيَاةَ فِيهَا وَالذَّرَّةُ فِيهَا حَيَاةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَمَوْقِعُ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ مَوْقِعُ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَ (لَوِ) فِيهِ وَصْلِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَتِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: