الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ وَسَاطَةِ التَّطَوُّرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ لِلتَّكْوِينِ النَّسْلِيِّ.
وَجَعْلُهَا وَابْنِهَا آيَةً هُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَشْرِيفِهِمَا وَالتَّنْوِيهِ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ وَسِيلَةً لِلْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَمُعْجِزَاتِ أَنْبِيَائِهِ كَمَا قَالَ فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَصَلَ تَشْرِيفُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا نَحْوَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل:
1] ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْس: 1- 2] .
وَإِفْرَادُ الْآيَةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ. وَحَيْثُ كَانَ الْمَذْكُورُ ذَاتَيْنِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا آيَةٌ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ آيَةٌ خَاصَّةٌ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْإِفْرَادِ أَنَّ بَيْنَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا حَالَةً مُشْتَرَكَةً هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا آيَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِاخْتِلَافِ حَالِ النَّاظر المتأمل.
[92]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى رَفْعِ أُمَّتُكُمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْخِطَابُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مَصُوغًا فِي صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ لَهُمْ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَالْمَقُولُ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى، أَيْ قَائِلِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُسُلِنَا وَأَنْبِيَائِنَا الْمَذْكُورِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ.
فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُرَاد بهَا التَّوْزِيع، وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً عَلَى أُسْلُوبِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِيهِ مَا يَزِيدُ هَذِهِ تَوْضِيحًا فَإِنَّهُ وَرَدَ هُنَالك ذكر عدَّة مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، كَمَا ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَأَنَّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
وَبِكَسْرِهَا- هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 52]، فَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي دُخُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْكَلَامِ الْمُخَاطَبِ بِهِ الرُّسُل، والتأكيد عَن هَذَا الْوَجْهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِيَتَلَقَّاهُ الْأَنْبِيَاءُ بِقُوَّةِ عَزْمٍ، أَوْ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِاتِّحَادِ الْحَالِ الْمُخْتَلِفَةِ غَرِيبٌ قَدْ يُثِيرُ تَرَدُّدًا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ فَأُكِّدَ بِرَفْعِ ذَلِكَ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ فَإِنَّ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ تَبْلِيغُ ذَلِكَ لِأَتْبَاعِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى قَبُولِ كُلِّ أُمَّةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهَا لِأَنَّهُ مَعْضُودٌ بِشَهَادَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا وَالْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، هِيَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِسَائِرِ الرُّسُلِ، أَيْ أُصُولُهَا وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَالتَّأْكِيدُ عَلَى هَذَا لِرَدِّ إِنْكَارِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ إِلَى مَا يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمَّتُكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: 78] . فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا يَعْنِي فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا هُوَ شَأْنُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. فَمَا أَفَادَتْهُ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّمْيِيزِ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ الرُّسُلُ مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22]، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً
…
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
وَأَصْلُ الْأُمَّةِ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي حَالُهَا وَاحِدٌ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الدِّينِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأُمَمَ لَيْسَتْ وَاحِدَةً.