الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَعْلِيلُ إِنْزَالِهِ كَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هَدْيَهُ أَيْ بِالْقُرْآنِ. فَلَامُ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٌ، وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَن) مطّرد.
[17]
[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَانَ ذَلِكَ مَثَارًا لِأَنْ يُتَسَاءَلَ عَنْ أَحْوَالِ الْفِرَقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مُخْتَلَفِ الْأَدْيَانِ، وَأَنْ يُسْأَلَ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرَهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَتُجَادِلُ فِي ذَلِكَ.
فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لم تفدهم الْحُجَجُ فِي الدُّنْيَا.
وَهَذَا الْكَلَامُ بِمَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالٍ هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّفْوِيضِ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَصْوِيبِ الْمُتَكَلِّمِ طَرِيقَتَهُ وَتَخْطِئَتِهِ طَرِيقَةَ خَصْمِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّفْوِيضِ لِلَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْوَاثِقِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ.
وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْعُقُودِ.
وَزَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرَ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ كَانَتَا فِي مَسَاقِ بَيَانِ فَضْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَزِيدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَالْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
فَأَمَّا الْمَجُوسُ فَهُمْ أهل دين يثبت إِلَهَيْنِ: إِلَهًا لِلْخَيْرِ، وَإِلَهًا لِلشَّرِّ، وَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ.
ثُمَّ هِيَ تَتَشَعَّبُ شُعَبًا تَأْوِي إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَأَقْدَمُ النِّحَلِ الْمَجُوسِيَّةِ أَسَّسَهَا (كِيُومَرْث) الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ بِفَارِسَ فِي أَزْمِنَةٍ قَدِيمَةٍ يُظَنُّ أَنَّهَا قَبْلَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلِذَلِكَ يُلَقَّبُ أَيْضًا بِلَقَبِ (جَل شَاهْ) (1) تَفْسِيرُهُ: مَلِكُ الْأَرْضِ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِوَجْهٍ عِلْمِيٍّ وَكَانَ عَصْرُ (كِيُومَرْث) يُلَقَّبُ (زُرْوَان) أَيِ الْأَزَلَ، فَكَانَ أَصْلُ الْمَجُوسِيَّةِ هُمْ أَهْلُ الدِّيَانَةِ الْمُسَمَّاةِ: الزُّرْوَانِيَّةُ وَهِيَ تُثْبِتُ إِلَهَيْنِ هُمَا (يَزْدَان) وَ (أَهْرُمُن) . قَالُوا: كَانَ يزذان مُنْفَرِدًا بِالْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ، وَأَنَّهُ كَانَ نُورَانِيًّا، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ثُمَّ حَدَثَ لَهُ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ: أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ لَهُ مُنَازِعٌ كَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ فَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْخَاطِرِ مَوْجُودٌ جَدِيدٌ ظُلْمَانِيٌّ سُمِّيَ (أَهْرُمُن) وَهُوَ إِلَهُ الظُّلْمَةِ مَطْبُوعًا عَلَى الشَّرِّ وَالضُّرِّ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ فِي لُزُومِيَّاتِهِ:
قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ
…
فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَلَا تَزْعُمُنْ
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ
…
فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ
فَحَدَثَ بَيْنَ (أَهْرُمُن) وَبَيْنَ (يَزْدَان) خِلَافٌ وَمُحَارَبَةٌ إِلَى الْأَبَدِ. ثُمَّ نَشَأَتْ عَلَى هَذَا الدِّينِ نِحَلٌ خُصَّتْ بِأَلْقَابٍ وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ التَّعَالِيمِ
(1) لَعَلَّ صَوَاب الْعبارَة «جهان شاه» .
أَشْهَرُهَا نِحْلَةُ (زَرَادَشْت) الَّذِي ظَهَرَ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، وَبِهِ اشْتُهِرَتِ الْمَجُوسِيَّةُ. وَقَدْ سَمَّى إِلَهَ الْخَيْرِ (أَهُورَا مُزْدَا) أَوْ (أَرْمُزْد) أَوْ (هُرْمُزَ) ، وَسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ (أَهْرُمُن) ، وَجَعَلَ إِلَهَ الْخَيْرِ نُورًا، وَإِلَهَ الشَّرِّ ظُلْمَةً. ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا مَظْهَرُ إِلَهِ الْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ.
وَوَسَّعَ شَرِيعَةَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَوَضَعَ لَهَا كِتَابًا سَمَّاهُ «زَنْدَافِسْتَا» . وَمِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ تَجَنُّبُ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ.
ثُمَّ ظَهَرَتْ فِي الْمَجُوسِ نِحْلَةُ «الْمَانَوِيَّةِ» ، وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى (مَانِي) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ سَابُور بْنِ أَرْدِشِير مَلِكِ الْفُرْسِ بَيْنَ سَنَةِ 238 وَسَنَةِ 271 م.
وَظَهَرَتْ فِي الْمَجُوسِ نِحْلَةُ (الْمَزْدَكِيَّةِ) ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى (مَزْدَك) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ قُبَاذ بَيْنَ سَنَةِ 487 وَسَنَةِ 523 م. وَهِيَ نِحْلَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ (الْمَانَوِيَّةِ) ، وَهِيَ آخِرُ نِحْلَةٍ ظَهَرَتْ فِي تَطَوُّرِ الْمَجُوسِيَّةِ قَبْلَ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ لِبِلَادِ الْفُرْسِ.
وَلِلْمَجُوسِيَّةِ شِبْهٌ فِي الْأَصْلِ بِالْإِشْرَاكِ إِلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُهُ بِمَنْعِ عِبَادَةِ الْأَحْجَارِ، وَبَأَنَّ لَهَا كِتَابًا، فَأَشْبَهُوا بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»
أَيْ فِي الِاكْتِفَاءِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يُكْرَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: 51] .
وَأُعِيدَتْ (إِنَّ) فِي صَدْرَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ (إِنَّ) الْأُولَى تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلْخَبَرِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا. وَكَوْنِ