الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَاصِلِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِانْتِفَاءِ اسْتِنَادِهِ إِلَى دَلِيلٍ.
وَصِيغَةُ نَفْيِ الْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ صِيغَةُ تَأْكِيدٍ، لِأَنَّ (لَا) النَّافِيَةَ لِلْجِنْسِ فِي مَقَامِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي مَقَامِ الْإِثْبَاتِ وَلِذَلِكَ حُمِلَتْ عَلَيْهَا فِي الْعَمَل.
[8- 10]
[سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 8 إِلَى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الْحَج: 5] كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الْحَج: 1] . وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ وُقُوعِ الْبَعْثِ فَإِنَّا نُزِيلُ رَيْبَكُمْ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ السَّاطِعَةِ، فَالنَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يُوقِنُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَلَا يَبْقَى فِي رَيْبٍ، وَفَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهَؤُلَاء هم أيّمة الشِّرْكِ وَزُعَمَاءُ الْبَاطِلِ.
وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَج: 7] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، أَيْ لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ يَرْتَابَ فِيهَا، فَلِذَلِكَ نَفَى جِنْسَ الرَّيْبِ فِيهَا، أَيْ فَالرَّيْبُ.
المعنيّ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: 3] ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ فَرِيقَ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ الْإِنْذَارُ مِنْ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، فَهُمْ كَذَلِكَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَعْدَ أَنْ وُضِّحَتْ لَهُمُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ.
وَدَافِعُهُمْ إِلَى الْجِدَالِ فِي اللَّهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ بِالسَّاعَةِ عَدَمُ عِلْمِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ فِيهِ وَاتِّبَاعُهُمْ وَسْوَاسَ الشَّيَاطِينِ.
وَدَافِعُهُمْ إِلَى الْجِدَالِ فِي اللَّهِ عِنْدَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ على الْبَعْث علم عِلْمِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، وَانْتِفَاءُ الْهُدَى، وَانْتِفَاء تلقي شَرِيعَة مِنْ قَبْلُ، وَالتَّكَبُّرُ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْحُجَّةِ، وَمَحَبَّةُ إِضْلَالِ النَّاسِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى أَنَّ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ مُخْتَلِفَةٌ وَأَصْحَابَهَا فَرِيقٌ وَاحِدٌ هُوَ فَرِيقُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ. وَمِنْ أَسَاطِينِ هَذَا الْفَرِيقِ مَنْ عُدُّوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِثْلُ: النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ.
وَقيل: المُرَاد من هَذِهِ الْآيَةِ بِمَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. كَرَّرَ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَبْيِينًا لِحَالَتَيْ جِدَالِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِمَنْ يُجَادِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَجُعِلَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِسَبَبِ نُزُولِهَا فِي نَظَرِ هَذَا الْقَائِلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: 3] الْمُقَلِّدُونَ- بِكَسْرِ اللَّامِ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ سَادَةُ الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ بِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً الْمُقَلَّدُونَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَئِمَّةُ الْكُفْرِ.
وَالْهُدَى مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ وَلَا هُدًى هُوَ مَهْدِيٌّ بِهِ. وَتِلْكَ مُجَادَلَةُ الْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا هَادِيًا لِلْحَقِّ مِثْلَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، فَهَذَا دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِعِلْمٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْتَغْنَ بِذِكْرِ السَّابِقِ عَنْ ذِكْرِ هَذَا.
وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ: كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا كَمَا يُجَادِلُ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ فَهُوَ جِدَالٌ بِكِتَابٍ مُنِيرٍ.
وَالْمُنِيرُ: الْمُبَيِّنُ لِلْحَقِّ. شُبِّهَ بِالْمِصْبَاحِ الْمُضِيءِ فِي اللَّيْلِ.
وَيَجِيءُ فِي وَصْفِ كِتابٍ بِصِفَةِ مُنِيرٍ تَعْرِيضٌ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِذْ كَانَ يُجَادِلُ فِي شَأْنِ الْإِسْلَامِ بِالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ كِتَابِ الله الْمُنِير وَبَين كتاب أَخْبَارِ رُسْتَمَ، وَكِتَابِ أَخْبَارِ أَسْفِنْدِيَارَ الْمُظْلِمَةِ الْبَاطِلَةِ.
وَالثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيْءِ. يُقَالُ: ثَنَى عِنَانَ فَرَسِهِ، إِذَا لَوَاهُ لِيُدِيرَ رَأْسَ فَرَسِهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَيْهَا. وَيُطْلَقُ أَيْضًا الثَّنْيُ عَلَى الْإِمَالَةِ.
وَالْعِطْفُ: الْمَنْكِبُ وَالْجَانِبُ. وثانِيَ عِطْفِهِ تَمْثِيلٌ لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ. وَيُقَالُ: لَوَى جِيدَهُ، إِذَا أَعْرَضَ تَكَبُّرًا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ تنطبق على حَالَة أَبِي جَهْلٍ فَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُضِلَّ لِتَعْلِيلِ الْمُجَادَلَةِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يُجادِلُ أَيْ غَرَضُهُ مِنَ الْمُجَادَلَةِ الْإِضْلَالُ.
وَسَبِيلُ اللَّهِ: الدِّينُ الْحَقُّ.
وَقَوْلُهُ لِيُضِلَّ- بِضَمِّ الْيَاءِ- أَيْ لِيُضَلِّلَ النَّاسَ بِجِدَالِهِ. فَهَذَا الْمُجَادِلُ يُرِيدُ بِجَدَلِهِ أَنْ يُوهِمَ الْعَامَّةَ بُطْلَانَ الْإِسْلَامِ كَيْلَا يَتَّبِعُوهُ.
وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ عِطْفِهِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ (مَنْ) وَإِنْ كَانَ مَعْنَى تِلْكَ الضَّمَائِرِ الْجَمْعَ.
وَخِزْيُ الدُّنْيَا: الْإِهَانَةُ، وَهُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بَعْدُ. وَيَنْطَبِقُ الْخِزْيُ عَلَى مَا حَصَلَ لِأَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَتْلِهِ بِيَدِ غُلَامَيْنِ مِنْ شَبَابِ الْأَنْصَار وهما ابْنا عَفْرَاءَ. وَبِاعْتِلَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى صَدْرِهِ وَذَبْحِهِ وَكَانَ فِي عَظَمَتِهِ لَا يَخْطُرُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِخَاطِرِهِ.
وَيَنْطَبِقُ الْخِزْيُ أَيْضًا عَلَى مَا حَلَّ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَتْلِهِ صَبْرًا فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْأُثَيْلُ قُرْبَ الْمَدِينَة عقب وقْعَة بَدْرٍ كَمَا وَصَفَتْهُ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ فِي رِثَائِهِ مِنْ قَصِيدَةِ:
صَبْرًا يُقَادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبَا
…
صَبْرَ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ
وَإِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرَتُهَا الَّتِي سَبَقَتْ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ لَا مَحَالَةَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ.
وإذاقة الْعَذَاب تخييل لِلْمَكْنِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَنُذِيقُهُ.