الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ قَرَعَ سَمْعَهُ تُوَجُّهُ خِطَابِ التَّكْذِيبِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْحِكَايَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى تَخْيِيلِ الْمَحْكِيِّ وَاقِعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَر: 48] . فَجُمْلَةُ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ هُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يُوسُف: 29] .
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما تَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ تَكْذِيبًا وَاقِعًا فِيمَا تَقُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ بِسَبَبِ مَا تَقُولُونَ.
و (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَالَّذِي قَالُوهُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ دَعَوْهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوهُمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْإِعْلَانِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ تَأْيِيسُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا، أَيْ صَرْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ، وَلَا نَصْرًا، أَيْ إِلْحَاقَ ضُرٍّ بِمَنْ يَغْلِبُهُمْ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلهم سُبْحانَكَ [الْفرْقَان: 18] الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَطِيعُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً.
تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَشْمَلُ عُمُومُهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَيَكُونُ خِطَابُ مِنْكُمْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ مُعَذَّبُونَ عَذَابًا كَبِيرًا: وَالْعَذَابُ الْكَبِيرُ هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
[20]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ.
هَذَا رَدٌّ على قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان:
7] بَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: 8] بِقَوْلِهِ:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: 10]، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ حَالَةً لَمْ تُعْطَ للرسل فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا كَانَ رَدُّ قَوْلِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.
وَأما قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فَقَدْ تَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى إِبْطَالِ رِسَالَتِهِ بِثُبُوتِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَهُ، فَكَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِصِفَاتِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ مُنْكِرِينَ وُجُودَ رُسُلٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ قَالُوا:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: 5]، وَإِذ كَانُوا مَوْجُودِينَ فَبِالضَّرُورَةِ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ إِذْ هُمْ مِنَ الْبَشَرِ وَيَمْشُونَ فِي أَسْوَاقِ الْمُدُنِ وَالْبَادِيَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَكُونُ فِي مَجَامِع النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ مُوسَى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] . وَكَانَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو قُرَيْشًا فِي مَجَامِعِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ وَيَدْعُو سَائِرَ الْعَرَبِ فِي عُكَاظٍ وَفِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ.
وَجُمْلَةُ: لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عُمُومُ الْأَحْوَالِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ.
وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْحَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَنَاسِيهِمْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَلَمْ تَقْتَرِنْ جُمْلَةُ الْحَالِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ وُجُودَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَافٍ فِي الرَّبْطِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ الرَّبْطُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فَلَا يُزَادُ حَرْفٌ آخَرُ فَيَتَوَالَى أَرْبَعَةُ حُرُوفٍ وَهِيَ: إِلَّا، وَإِنَّ، وَاللَّامُ، وَيُزَادُ الْوَاوُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحجر: 4]، وَقَوْلِهِ:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: 208] .
وَإِنَّمَا أَبْقَى اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلْبَشَرِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي تَغْيِيرِ حَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ اللَّهُ حَيَاتَهُمُ
النَّفْسِيَّةَ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِهَا
إِعْدَادَ نُفُوسِهِمْ لِتَلَقِّي الْفَيُوضَاتِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَلِلَّهِ تَعَالَى حِفَاظٌ عَلَى نَوَامِيسِ نِظَامِ الْخَلَائِقِ وَالْعَوَالِمِ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهَا عَبَثًا فَهُوَ لَا يُغَيِّرُهَا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ مِنْ تَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً.
تَذْيِيلٌ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: بَعْضَكُمْ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَكِلَا الْبَعْضَيْنِ مُبْهَمٌ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَحَالُ الْفِتْنَةِ فِي كِلَا الْبَعْضَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْعَقِيدَةِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَمْنِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَبْدَانِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ فِتْنَةً مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَشَمِلَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَالُ الرَّسُولِ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِلرِّسَالَةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَعْفِهِمْ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يُسَوِّيهِمْ بِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بن الْمُغيرَة والعاصي بْنُ وَائِلٍ وَأَضْرَابُهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ أَسْلَمْنَا وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ تَرَفَّعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِالسَّابِقَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِ صَنَادِيدِ قَوْمِ نُوحٍ لَا نُؤْمِنُ حَتَّى تَطْرُدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ فَقَالَ:
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 29، 30] .
وَقَالَ تَعَالَى لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: 52، 53] .
وَالْكَلَامُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
أَتَصْبِرُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة:
91] .
وَمَوْقِعُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً مَوْقِعُ الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِالصَّابِرِينَ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ جَزَاءَ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ إِلْمَاعٌ إِلَى هَذَا الْوَعْدِ فَإِنَّ
الرَّبَّ لَا يُضَيِّعُ أَوْلِيَاءَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: 97- 99] أَيِ النَّصْر الْمُحَقق.