الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعُطِفَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هِمَّةَ الرُّسُلِ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْمَائِدَة: 93] المُرَاد بِهِ مَا تَنَاوَلُوهُ مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التحريض.
[52]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 52]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الْمُؤْمِنُونَ:
51] إِلَخْ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا قِيلَ لِلرُّسُلِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَصَصِ الْإِرْسَالِ الْمَبْدُوءَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 23] لِأَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ إِنَّمَا قُصَّتْ عَلَيْهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهَا إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سِيَاقُهَا كَسِيَاقِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَتِلْكَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) . فَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلْمَقْصُودِينَ بِالنِّذَارَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَفَتْحُ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ لَامِ كَيْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُودَ الْفَاءِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِالْفَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَة النَّحْل
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَلِكَوْنِ دِينِكُمْ دِينًا وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْمَعْبُودُ. وَكَوْنِي رَبَّكُمْ فَاتَّقُونِ وَلَا تُشْرِكُوا بِي غَيْرِي، خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَالْمُرَادُ أُمَمُهُمْ. أَوْ خِطَابًا لِمَنْ خَاطَبَهُمُ الْقُرْآنُ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيٌّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَكَسْرُ هَمْزَةِ (إِنَّ) إِمَّا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. وَالْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ سَوَاءً.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُرَادٌ بِهِ شَرِيعَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) عَلَى الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أُمَمِ الرُّسُلِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا فَاتَّقُونِ وَهُنَاكَ
فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاء: 92] فَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَبِالتَّقْوَى وَلَكِنْ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ أَمْرًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ وَقَعَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، فَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَذُكِرَ مُعْظَمُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْحِكَايَةِ فِي كِلْتَا السُّورَتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى. قَدْ وَقَعَ فِي خِطَابٍ مُسْتَقِلٍّ تَمَاثَلَ بَعْضُهُ وَزَادَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخِطَابِ مِنْ قَصْدِ إِبْلَاغِهِ لِلْأُمَمِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الرُّسُلِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ خِطَابُ الرُّسُلِ بِالصَّرَاحَةِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فَوُجِّهَ ذَلِكَ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ فِيهَا رِسَالَاتُ الرُّسُلِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ عَدَا رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51]
ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَطَالَ الْبُعْدُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اتُّحِدَتْ فِيهِ الْأَدْيَانُ. أَوْلَى هُنَالِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ أَوْلَى بِالْمَقَامِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي حَظُّ الْأُمَمِ مِنْهُ أَكْثَرُ. إِذِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ لَمْ يَكُونُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ قَطُّ فَلَا يُقْصَدُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ إِذْ يَصِيرُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالدَّوَامِ.
وَأَمَّا آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ فَكَانَ حَظُّ الرُّسُلِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ [الْمُؤْمِنُونَ: 51] فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ التَّقْوَى لَا حَدَّ لَهَا، فَالرُّسُلُ مَأْمُورُونَ بِهَا وَبِالِازْدِيَادِ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 1- 4] ثُمَّ قَالَ فِي حق الْأمة فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا أَبْسَطُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ فَاتَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [92] أَنْ نُبَيِّنَ عَرَبِيَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ نُشْبِعَ الْقَوْلَ فِيهِ هُنَا. فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هذِهِ إِلَى أَمْرٍ مُسْتَحْضَرٍ فِي الذِّهْنِ بَيَّنَهُ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَلِذَلِكَ أُنِّثَ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَيْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هِيَ شَرِيعَتُكَ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّكَ تَلْتَزِمُهَا وَلَا تُنْقِصُ مِنْهَا وَلَا تُغَيِّرُ مِنْهَا شَيْئًا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمُرَادِ جُعِلَ الْخَبَرُ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُ اسْمِ الْإِشَارَةِ
بَلْ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ مَدْلُولَيِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَخَبَرِهِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ هُوَ لَا يُغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ لَطِيفِ النَّحْوِ وَغَامِضِهِ إِذْ لَا تَجُوزُ إِلَّا حَيْثُ يُعْرَفُ الْخَبَرُ. فَفِي قَوْلِكَ: هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا، لَا يُقَالُ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُهُ