الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ تَذْيِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ، أَيْ هُمْ بَاءُوا بِالْخَيْبَةِ فِيمَا ابْتَغَوْا مِمَّا عَمِلُوا وَقَدْ حَفَّهُمُ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ فِيمَا عَمِلُوا حَتَّى عَدِمُوا فَائِدَتَهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِي قُلُوبِهِمُ الْهُدَى حِينَ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَبَلَهُمْ غَيْرَ قَابِلِينَ لِلْهُدَى فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ قَبُولَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَا يَحُلُّ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَصَرِّفٌ بِالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَا
سَبَقَ مِنْ نِظَامِ تَدْبِيرِهِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي تَشْبِيهِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَالضَّلَالَاتُ تُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي اقْتَحَمَهَا الْكَافِرُ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا تُشْبِهُ الْبَحْرَ، وَمَا يُخَالِطُ أَعْمَالَهُ الْحَسَنَةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ كَالْبَحَيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ يُشْبِهُ الْمَوْجَ فِي تَخْلِيطِهِ الْعَمَلَ الْحَسَنَ وَتَخَلُّلِهِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْجُ الْأَوَّلُ. وَمَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ كَالذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ يُشْبِهُ الْمَوْجَ الْغَامِرَ الْآتِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّلِ وَالْإِفْسَادِ وَهُوَ الْمَوْجُ الثَّانِي، وَمَا يَحُفُّ اعْتِقَادَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ فِي تَمْيِيزِ الْحَسَنِ مِنَ الْعَبَثِ وَمِنَ الْقَبِيحِ يُشْبِهُ السَّحَابَ الَّذِي يَغْشَى مَا بَقِيَ فِي السَّمَاءِ مِنْ بَصِيصِ أَنْوَارِ النُّجُومِ، وَتَطَلُّبُهُ الِانْتِفَاعَ مِنْ عَمَلِهِ يُشْبِهُ إِخْرَاجَ الْمَاخِرِ يَدَهُ لِإِصْلَاحِ أَمْرِ سَفِينَتِهِ أَوْ تَنَاوُلِ مَا يَحْتَاجُهُ فَلَا يَرَى يَدَهُ بَلْهَ الشَّيْءَ الَّذِي يُرِيد تنَاوله.
[41]
[سُورَة النُّور (24) : آيَة 41]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)
أَعْقَبَ تَمْثِيلَ ضَلَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَكَيْفَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النُّور: 39، 40]
بِطَلَبِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ كَيْفَ هَدَى اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ الْمُقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهِ وَحْدَهُ، وَبِمَا أَلْهَمَ الطَّيْرَ إِلَى أَصْوَاتِهَا الْمُعْرِبَةِ عَنْ بَهْجَتِهَا بِنِعْمَةِ وَجُودِهَا وَرِزْقِهَا النَّاشِئَيْنِ عَنْ إِمْدَادِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهِمَا فَكَانَتْ أَصْوَاتُهَا دَلَائِلَ حَالٍ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، فَأَصْوَاتُهَا تَسْبِيحٌ بِلِسَانِ الْحَالِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَمُنَاسَبَتُهُ مَا عَلِمْتَ.
وَجُمْلَةُ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْعِبْرَةِ إِذْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ أُولَئِكَ مَا بِهِ مُلَازَمَتُهُمْ لِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ.
فَتَسْبِيحُ الْعُقَلَاءِ حَقِيقَةٌ، وَتَسْبِيحُ الطَّيْرِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فَعُبِّرَ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ مُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْعُقَلَاءِ. وَفَرِيقُ الطَّيْرِ وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا كَلِمَةُ كُلٌّ فَأُطْلِقَ عَلَى تَسْبِيحِ الْعُقَلَاءِ اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ. فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي أَحْوَال الطير مَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الدُّعَاء
عَلَيْهِ على وَجه الْمجَاز وأبقي لدلَالَة أصوات الطَّيْرِ اسْمُ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الدَّلَالَةِ بِالصَّوْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَى التَّوْزِيعِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَقِيلَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَهُ، أَوْ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صِلَاتَهُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ للنبيء صلى الله عليه وسلم. وَالْمُرَادُ مَنْ يَبْلُغُ إِلَيْهِ، أَوِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَمْثَالِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ حُرِمُوا الْهُدَى لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ فِيهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ الْهُدَى فِي الْعَجْمَاوَاتِ إِذْ جَبَلَهَا عَلَى إِدْرَاكِ أَثَرِ نِعْمَةِ الْوُجُودِ وَالرِّزْقِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 44] .