الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيُّ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ دَعْوَتِهِ فِي الْبُطْلَانِ وَالزَّيْفِ فَمَاذَا دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَصَابَهُ خَلَلٌ فِي عَقْلِهِ فَطَلَبَ مَا لَمْ يَكُنْ ليناله مثله من التفضل عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ فَقَدْ طَمِعَ فِيمَا لَا يَطْمَعُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ فَدَلَّ طَمَعُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَجْنُونٌ.
وَالتَّنْوِينُ فِي جِنَّةٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَهَذَا اقْتِصَادٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِ حَيْثُ احْتَرَزُوا مِنْ أَنْ يُوَرِّطُوا أَنْفُسَهَمْ فِي وَصْفِهِ بِالْخَبَالِ مَعَ أَنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ حَالِهِ يُنَافِي ذَلِكَ فَأَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّ بِهِ جُنُونًا خَفِيفا لَا يَبْدُو آثَارُهُ وَاضِحَةً.
وَقَصَرُوهُ عَلَى صِفَةِ الْمَجْنُونِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ أَمْرًا لِقَوْمِهِمْ بِانْتِظَارِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ أَمْرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ: إِمَّا شِفَاءٌ مِنَ الْجِنَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الرُّشْدِ، أَوِ ازْدِيَادُ الْجُنُونِ بِهِ فَيَتَّضِحُ أَمْرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنْ لَا اعْتِدَادَ بِكَلَامِهِ.
وَالْحِينُ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ.
وَالتَّرَبُّصُ: التَّوَقُّفُ عَنْ عَمَلٍ يُرَادُ عَمَلُهُ وَالتَّرَيُّثُ فِيهِ انْتِظَارًا لِمَا قَدْ يُغْنِي عَنِ الْعَمَلِ أَوِ انْتِظَارًا لِفُرْصَةٍ تُمَكِّنُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى أَتْقَنِ كَيْفِيَّةٍ لِنَجَاحِهِ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ وَمَعْنَاهَا السَّبَبِيَّةُ، أَيْ كَانَ تَرَبُّصُ الْمُتَرَبِّصِ بِسَبَبِ مَدْخُولِ الْبَاءِ. وَالْمُرَادُ: بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ حُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [98] فَانْظُرْهُ مَعَ مَا هُنَا.
[26، 27]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 26 إِلَى 27]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
(27)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ نُوحٍ وَمَا لَفَّقُوهُ مِنَ الْبُهْتَانِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّاذَا صَنَعَ نُوحٌ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي إِلَخْ.
وَدُعَاؤُهُ بِطَلَبِ النَّصْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَدَّ فِعْلَهُمْ مَعَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ بِوَصْفِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.
وَالنَّصْرُ: تَغْلِيبُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَدِي، فَقَدْ سَأَلَ نُوحٌ نَصْرًا مُجْمَلًا كَمَا حُكِيَ هُنَا، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيمَانِ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَلَا رَجَاءَ فِي أَنْ يَكُونَ نَصْرُهُ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، فَسَأَلَ نوح حينذاك نَصْرًا خَاصًّا وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [26، 27] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ
. فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ تَعْقِيبٌ بِتَقْدِيرِ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ
إِيجَازٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ إِلَخْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [63] .
وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ سَبَبِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّصْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ الدُّعَاءِ، أَيْ نَصْرًا كَائِنًا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَجَعَلَ حَظَّ نَفْسِهِ فِيمَا اعْتَدَوْا عَلَيْهِ مُلْغًى وَاهْتَمَّ بِحَظِّ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الرَّسُولِ اسْتِخْفَافٌ بِمَنْ أَرْسَلَهُ.
وَجُمْلَةُ أَنِ اصْنَعِ جُمْلَةٌ مفسره لجملة فَأَوْحَيْنا لِأَنَّ فِعْلَ أَوْحَيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فِي سُورَةِ هُودٍ
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ تَفْصِيلُ مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفُلْكِ فَوُقِّتَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ بِوَقْتِ الِاضْطِرَارِ إِلَى إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَيَوَانِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى فارَ التَّنُّورُ وَمَعْنَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي سُورَةِ هُودٍ [40] .
وَالزَّوْجُ: اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِهِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ شَفْعًا فِي حَالَةٍ مَا.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَإِنَّمَا عُبِّرَ هُنَالِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: 40] وَهُنَا بِقَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ وَذَلِكَ وَقْتٌ ضَيِّقٌ فَأُمِرَ بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَهُمْ، فَأُسْنِدَ الْحَمْلُ إِلَى نُوحٍ تَمْثِيلًا لِلْإِسْرَاعِ بِإِرْكَابِ مَا عُيِّنَ لَهُ فِي السَّفِينَةِ حَتَّى كَأَنَّ حَالَهُ فِي إِدْخَالِهِ إِيَّاهُمْ حَالُ مَنْ يَحْمِلُ شَيْئًا لِيَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِنْبَاءً بِمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ فَأَمَرَهُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مَنْ عَيَّنَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّة.
وَمعنى فَاسْلُكْ أَدْخِلْ، وَفِعْلُ (سَلَكَ) يَكُونُ قَاصِرًا بِمَعْنَى دَخَلَ وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَدْخَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] . وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [37] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالتَّنْوِينِ كُلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ فَاسْلُكْ، وَتَنْوِينُ كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٍّ. وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْمِلَهُ فِي السَّفِينَة.