الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالدُّعَاءِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَجَاءَ جَوَابُ دُعَاءِ هَذَا الرَّسُولِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ
الْمُحَاوَرَاتِ الَّذِي بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] .
وعَمَّا قَلِيلٍ أَفَادَ حَرْفُ (عَنْ) الْمُجَاوَزَةَ، أَيْ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا. وَيَكْثُرُ أَنْ تُفِيدَ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا فَيَنْشَأُ مِنْهَا مَعْنَى (بَعْدَ) نَحْوَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى (بَعْدَ) كَمَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَهُمْ جَرَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى إِذْ لَا يَكُونُ حَرْفٌ بِمَعْنَى اسْمٍ، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْحُرُوفِ نَاقِصَةٌ وَمَعَانِيَ الْأَسْمَاءِ تَامَّةٌ. فَمَعْنَى عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ: أَنَّ إِصْبَاحَهُمْ نَادِمِينَ يتَجَاوَز زَمنا قَلِيلا: أَيْ مِنْ زَمَانِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ تَجَاوُزٌ مَجَازِيٌّ بِحَرْفِ (عَنْ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى (بَعْدَ) اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ.
وقَلِيلٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ فِعْلُ الْإِصْبَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّمَنِ فَوَعَدَ اللَّهُ هَذَا الرَّسُولَ نَصْرًا عَاجِلًا.
وَنَدَمُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَبْدَأِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نَدَمُهُمْ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْإِصْبَاحُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الصَّبَاحِ لَا مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
[41]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 41]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(41)
تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْجِيلَ إِجَابَةِ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ.
وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ.
وَالصَّيْحَةُ: صَوْتُ الصاعقة، وَهَذَا يرجع أَوْ يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَرْنُ هُمْ ثَمُودُ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ سَبَبُ الْأَخْذِ أَوْ مُقَارَنَةُ سَبَبِهِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ مِنْ تَمَزُّقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخَذَتْهُمْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، أَيْ لَا اعْتِدَاءَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ.
وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ وَالْوَرَقِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِلْهَيْئَةِ فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ كَالْغُثَاءِ فِي الْبِلَى وَالتَّكَدُّسِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَلَكُوا هَلْكَةً وَاحِدَةً.
وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ دُعَاءَ شَتْمٍ وَتَحْقِيرٍ بِأَنْ يُبْعَدُوا تَحْقِيرًا لَهُمْ وَكَرَاهِيَةً، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الدُّعَاءِ لِأَن هَؤُلَاءِ قد بُعِدُوا بِالْهَلَاكِ.
وانتصب فَبُعْداً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ مِثْلَ: تَبًّا وَسُحْقًا، أَيْ أَتَبَّهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ.
وَعَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْعَرَبِ لَا تَبْعَدْ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تُفْقَدْ. قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:
يَقُولُونَ لَا تَبْعَدُ وَهُمْ يَدْفِنُونِي
…
وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] . وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ هُنَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَظَلَمُوا هُودًا لِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِذْ قَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْمُؤْمِنُونَ: 38] .
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمَلَهُمْ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.