الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَن النبيء صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَحَدًا مِنَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْإِفْكِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَاتِ: إِمَّا لِعَفْوِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْإِفْكِ كَانَ تَخَافُتًا وَسِرَارًا وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ وَلَكِنَّهُمْ أَشَاعُوهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَكَيْفَ سَمِعَتِ الْخَبَرَ مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ وَقَوْلَهَا: أَوَ قَدْ تُحُدِّثَ بِهَذَا وَبَلَغَ النَّبِيءَ وَأَبَوَيَّ؟!. وَقِيلَ: حَدَّ حَسَّانَ وَمِسْطَحًا وَحِمْنَةَ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَرِيقٌ: إِنَّهُ لَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُبَيًّا جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ أَيْضًا.
وَالْإِفَاضَةُ فِي الْقَوْلِ مُسْتَعَارٌ مِنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، أَيْ كَثْرَتِهِ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: مَا أَكْثَرْتُمُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ بَيْنكُم.
[15]
[سُورَة النُّور (24) : آيَة 15]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ ب أَفَضْتُمْ [النُّور: 14] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَمِنَ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهَا اسْتِحْضَارُ صُورَةِ حَدِيثِهِمْ فِي الْإِفْكِ وَبِتَفْظِيعِهَا.
وَأَصْلُ تَلَقَّوْنَهُ تَتَلَقَّوْنَهُ بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا. وَأَصْلُ التَّلَقِّي أَنَّهُ التَّكَلُّفُ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 37] أَيْ عَلِمَهَا وَلَقَّنَهَا، ثُمَّ يُطْلَقُ التَّلَقِّي عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ بِالْيَدِ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ
…
تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا تَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ..»
الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ بِتَشْبِيهِ التَّهَيُّؤِ لِأَخْذِ الْمُعْطَى
بِالتَّهَيُّؤِ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ هُوَ
إِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ. فَفِي قَوْلِهِ: بِأَلْسِنَتِكُمْ تَشْبِيهُ الْخَبَرِ بِشَخْصٍ وَتَشْبِيهُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ بِمَنْ يَتَهَيَّأُ وَيَسْتَعِدُّ لِلِقَائِهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ فَجُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي عَلَى طَرِيقَةٍ تَخْيِيلِيِّةٍ بِتَشْبِيهِ الْأَلْسُنِ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرِ بِالْأَيْدِي فِي تَنَاوُلِ الشَّيْءِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي مَعَ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأَخْبَارِ بِالْأَسْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّلَقِّي غَايَتُهُ التَّحَدُّثُ بِالْخَبَرِ جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ مَكَانَ الْأَسْمَاعِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَيْلُولَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحِرْصِهِمْ عَلَى تَلَقِّي هَذَا الْخَبَرِ فَهُمْ حِينَ يَتَلَقَّوْنَهُ يُبَادِرُونَ بِالْإِخْبَارِ بِهِ بِلَا تَرَوٍّ وَلَا تَرَيُّثٍ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ فَوَجْهُ ذِكْرِ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ أَنَّهُ أُرِيدَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ هُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ عَنْ مُجَرَّدِ تَصَوُّرٍ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْعِلْمِ قَائِمَةٌ بِنَقِيضِ مَدْلُولِ هَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ تَجْرِي عَلَى الْأَفْوَاهِ.
وَفِي هَذَا مِنَ الْأَدَبِ الْأَخْلَاقِيِّ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِلَّا مَا يَعْلَمُهُ وَيَتَحَقَّقُهُ وَإِلَّا فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: أَفِنُ الرَّأْيِ يَقُولُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقُولَ الْكَذِبَ فَيَحْسَبُهُ النَّاسُ كَذَّابًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: بِ «حَسْبُ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»
، أَوْ رَجُلٌ مُمَوِّهٌ مُرَاءٍ يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: 204] وَقَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: 3] .
هَذَا فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي الْوَعْدِ فَلَا يَعِدُ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ بِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخلف، وَإِذا ائْتمن خَانَ»
. وَزَادَ فِي تَوْبِيخِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، أَيْ تَحْسَبُونَ الْحَدِيثَ بِالْقَذْفِ أَمْرًا هَيِّنًا. وَإِنَّمَا حَسِبُوهُ هَيِّنًا لِأَنَّهُمُ اسْتَخَفُّوا الْغِيبَةَ وَالطَّعْنَ فِي النَّاسِ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ