الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبِهَذِهِ الْآيَاتِ انْتَهَتْ زَوَاجِرُ قصَّة الْإِفْك.
[27، 28]
[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 27 إِلَى 28]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَشْرِيعُ نِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ الْعَائِلِيَّةِ فِي التَّجَاوُرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَحْكَامِ التَّزَاوُرِ وَتَعْلِيمِ آدَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَتَحْدِيدِ مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَيْلَا يَكُونَ النَّاسُ مُخْتَلِفِينَ فِي كَيْفِيَّتِهِ عَلَى تَفَاوُتِ اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَالْمُفِيدِ.
وَقَدْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ شَكْلُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ فَكَانَ غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ. وَقَدْ يَتْرُكُهُ أَوْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَنْ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا قَضَاءُ وَطْرِهِ وَتَعْجِيلُ حَاجَتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ بِأَنْ يَكُونَ وُلُوجُهُ مُحْرِجًا لِلْمَزُورِ أَوْ مُثْقِلًا عَلَيْهِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِتَحْدِيدِ كَيْفِيَّتِهِ وَإِدْخَالِهِ فِي آدَابِ الدِّينِ حَتَّى لَا يُفَرِّطَ النَّاسُ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الِاحْتِشَامِ وَالْأَنَفَةِ وَاخْتِلَافِ أَوْهَامِهِمْ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ أَوْ فِي شِدَّتِهَا.
وَشُرِعَ الِاسْتِئْذَانُ لِمَنْ يَزُورُ أَحَدًا فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ النَّاسَ اتَّخَذُوا الْبُيُوتَ لِلِاسْتِتَارِ مِمَّا يُؤْذِي الْأَبْدَانَ مِنْ حَرٍّ وَقَرٍّ وَمَطَرٍ وَقَتَامٍ، وَمِمَّا يُؤْذِي الْعِرْضَ وَالنَّفْسَ مِنِ انْكِشَافِ مَا لَا يُحِبُّ السَّاكِنُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِي
بَيْتِهِ وَجَاءَهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَا يُدْخِلُهُ حَتَّى يُصْلِحَ مَا فِي بَيْتِهِ وليستر مَا يحب أَنْ يستره ثمَّ بأذن لَهُ أَوْ يَخْرُجُ لَهُ فَيُكَلِّمُهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ.
وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا تَطْلُبُوا الْأُنْسَ بِكُمْ، أَيْ تَطْلُبُوا أَنْ يَأْنَسَ بِكُمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَأُنْسُهُ بِهِ بِانْتِفَاءِ الْوَحْشَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ، أَيْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الدَّاخِلُ، أَيْ يَطْلُبَ إِذْنًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَكُونُ مَعَهُ اسْتِيحَاشُ رَبِّ الْمَنْزِلِ بِالدَّاخِلِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِئْنَاسُ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ الِاسْتِئْذَانُ. يُرِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ كِنَايَةً أَوْ مُرَادَفَةً فَهُوَ مِنَ الْأُنْسِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ. وَوَقَعَ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي «جَامع العتيبة» أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ التَّسْلِيمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقُلْتُ: أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ السَّلَامَ بِقَصْدِ الِاسْتِئْذَانِ فَيَكُونُ عَطْفُ وَتُسَلِّمُوا عَطْفَ تَفْسِيرٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ آنَسَ بِمَعْنَى عَلِمَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِطْلَاقٌ آخَرُ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ دَلَّ إِذْنُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ وَإِذَا كَرِهَ دُخُولَهُ لَا يَأْذَنُ لَهُ وَاللَّهُ مُتَوَلِّي عَلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِثْقَالِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الزَّائِرُ وَالْمَزُورُ مُتَوَافِقَيْنِ مُتَآنِسَيْنِ وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى تَوَفُّرِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَعُطِفَ الْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ وَجُعِلَ كِلَاهُمَا غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهِمَا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِمَا.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ على النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَأَدْخُلُ؟ فَأَمَرَ النَّبِيءُ رَجُلًا عِنْدَهُ أَوْ أَمَةً اسْمُهَا رَوْضَةُ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. فَقَالَ: ادْخُلْ»
، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: أَأَلِجُ. فَأَذِنَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ:
مَا لَكَ وَاسْتِئْذَانُ الْعَرَبِ؟ (يُرِيدُ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ) إِذَا اسْتَأْذَنْتَ
فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَقُلْ: أَأَدْخُلُ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ» .
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ وَأَنَّ السَّلَامَ وَاجِبٌ غَيْرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ الِاسْتِئْذَانِ. وَأَمَّا السَّلَامُ فَتَقَرَّرَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِحَالَةِ دُخُولِ الْبُيُوتِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَامِ اخْتِصَاصٌ هُنَا وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِئَلَّا يُلْهِيَ الِاسْتِئْذَانُ الطَّارِقَ فَيَنْسَى السَّلَامَ أَوْ يَحْسَبَ الِاسْتِئْذَانَ كَافِيًا عَنِ السَّلَامِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ «الْمُعْلِمِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ جَمَاعَةٌ: الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ سِوَى فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ فَلَا تَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَإِنْ أَذِنَ لَكَ وَإِلَّا رَجَعْتَ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ.
وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ فِي «شَرْحِ الرِّسَالَةِ» الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَهِيَ كَلِمَةُ الْمَازِرِيِّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» .
وَأَقُولُ: لَيْسَ قَرْنُ الِاسْتِئْذَانِ بِالسَّلَامِ فِي الْآيَةِ بِمُقْتَضٍ مُسَاوَاتَهُمَا فِي الحكم إِذا كَانَتْ هُنَالِكَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا وَتِلْكَ أَدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْمَعْنَى فَإِنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِئْذَانِ دَفْعُ مَا يُكْرَهُ عَنِ الْمَطْرُوقِ الْمَزُورِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْإِنْكَارِ أَوِ الشَّتْمِ أَوِ الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ مَعَ سَدِّ ذَرَائِعِ الرِّيبِ وَكُلُّهَا أَوْ مَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاسْتِئْذَانِ.
وَأَمَّا فَائِدَةُ السَّلَامِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ فَهِيَ تَقْوِيَةُ الْأُلْفَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ فَلَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ. فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِالْحَالَةِ الْكَامِلَةِ وَأَحَالَ تَفْصِيلَ أَجْزَائِهَا عَلَى تَبْيِينِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] .
وَقَدْ أُجْمِلَتْ حِكْمَةُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ ذَلِكُمْ الِاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لَكُمْ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ فَإِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ لَكُمْ كَمَا هُوَ الْمَرْجُوُّ مِنْكُمْ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الِاسْتِئْذَانَ وَالسَّلَامَ بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُفِيدِ التَّشْرِيكَ فَقَطْ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُدِّمَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السَّلَامِ أَوْ قُدِّمَ السَّلَامُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فَقَدْ جَاءَ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ الْأَمْرُ بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى وَلَا يُعَارِضُ الْآيَةَ.
وَلَيْسَ لِلِاسْتِئْذَانِ صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ. وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ فَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ أَجْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمُرَادِ. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ يُكَرِّرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ.
وَوَرَدَ فِي هَذَا حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَهُوَ مَا رُوِيَ: «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يَأْذَنْ لي فَرَجَعت (وَفَسرهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مُشْتَغِلًا بِبَعْضِ أَمْرِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَقَالَ: أَلَمْ
أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ قَالُوا: اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعَ) فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ عُمَرُ: مَا مَنَعَكَ؟ قَالَ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً. قَالَ أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمعه من النبيء؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُنَا فَكُنْتُ أَصْغَرَهُمْ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيءَ قَالَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ
. وَقَدْ عُلِمَ أَن الاسْتِئْذَان يَقْتَضِي إِذْنًا وَمَنْعًا وَسُكُوتًا فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فَذَاكَ وَإِنَّ مُنِعَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرُّجُوعِ الْمَفْهُومِ مِنَ ارْجِعُوا كَقَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] .
وَمَعْنَى أَزْكى لَكُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَأْذَنُوا عَلَى كَرَاهِيَةٍ. وَفِي هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ وَهُوَ تَعْلِيمُ الصَّرَاحَةِ بِالْحَقِّ دُونَ الْمُوَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى. وَتَعْلِيمُ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ أَطْمَنُ لِنَفْسِ قَابِلِهِ مِنْ تَلَقِّي مَا لَا يُدْرَى أَهُوَ حَقٌّ أَمْ مُوَارَبَةٌ، وَلَوِ اعْتَادَ النَّاسُ التَّصَارُحَ بِالْحَقِّ بَيْنَهُمْ لَزَالَتْ عَنْهُمْ ظُنُونُ السُّوءِ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ مَا بَيَّنَ حُكْمَهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى. وَفِعْلُ تُسَلِّمُوا مَعْنَاهُ تَقُولُوا:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجُمَلِ مِثْلُ: رَحَّبَ وَأَهَّلَ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَحَيَّا، إِذَا قَالَ: حَيَّاكَ الله، وجزّأ إِذْ قَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَسَهَّلَ، إِذَا قَالَ: سَهْلًا، أَيْ حَلَلْتَ سَهْلًا. قَالَ الْبُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ:
فَقُلْتُ لَهَا أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا
…
فَرَدَّتْ بِتَأْهِيلٍ وَسَهْلٍ وَمَرْحَبِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»
. وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّحْتِ مِثْلُ: بَسْمَلَ، إِذا قَالَ: باسم اللَّهِ، وَحَسْبَلَ، إِذَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ.
وعَلى أَهْلِها يَتَعَلَّقُ بِ تُسَلِّمُوا لِأَنَّهُ أَصْلُهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي صِيغَ مِنْهَا الْفِعْلُ الَّتِي أَصْلُهَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، كَمَا يُعَدَّى رَحَّبَ بِهِ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، وَكَذَلِكَ أَهَّلَ بِهِ وَسَهَّلَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب:
56] .
وَصِيغَةُ التَّسْلِيمِ هِيَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ علمهَا النبيء صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وَنَهَى أَبَا جُزَيٍّ الْهُجَيْمِيَّ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةَ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا، أَيِ
الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الرَّدُّ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ- بِوَاوِ الْعَطْفِ وَبِذَلِكَ فَارَقَتْ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ- وَرَحْمَةُ اللَّهِ. أَخْرَجَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَتَقَدَّمَ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ