المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النور (24) : آية 33] - التحرير والتنوير - جـ ١٨

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌23- سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ

- ‌أغراض السُّورَة

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 5 إِلَى 7]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 10 إِلَى 11]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 12 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 18 إِلَى 20]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 21 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 23 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 26 إِلَى 27]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 28 إِلَى 29]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 31 إِلَى 32]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 33 إِلَى 38]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 39 إِلَى 40]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 42 إِلَى 43]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 45 إِلَى 48]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 51]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 52]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 57 إِلَى 61]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 63]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 64 إِلَى 67]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 68 إِلَى 70]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 71]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 76 إِلَى 77]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 78]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 79]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 80]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 81 إِلَى 83]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 84 إِلَى 85]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 86 إِلَى 87]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 88 إِلَى 89]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 90]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 91 إِلَى 92]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 93 إِلَى 95]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 96]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 97 إِلَى 98]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 99 إِلَى 100]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 101 إِلَى 104]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 105 إِلَى 107]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 108 إِلَى 111]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 112 إِلَى 114]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 115]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 116]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 117]

- ‌[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : آيَة 118]

- ‌24- سُورَةُ النُّورِ

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 4 إِلَى 5]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 6 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 23 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 26]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 27 إِلَى 28]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 36 إِلَى 38]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 39]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 46]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 47 إِلَى 50]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 51]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 52]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 55]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 56]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 57]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : الْآيَات 58 إِلَى 59]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 60]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 61]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 63]

- ‌[سُورَة النُّور (24) : آيَة 64]

- ‌25- سُورَةُ الْفُرْقَانِ

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 7 الى 9]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 12 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 20]

الفصل: ‌[سورة النور (24) : آية 33]

تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: 130] . أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ السِّعَةَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَيُرَادُ بِهَا الْإِحَاطَةُ فِيمَا تَمَيَّزَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الْأَعْرَاف: 89] .

وَذِكْرُ عَلِيمٌ بَعْدَ واسِعٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي فَضْلَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي مِقْدَارِ الْإِعْطَاءِ.

[33]

[سُورَة النُّور (24) : آيَة 33]

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.

أَمَرَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْكَاحِ بِأَنْ يُلَازِمُوا الْعَفَافَ فِي مُدَّةِ انْتِظَارِهِمْ تَيْسِيرَ النِّكَاحِ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِإِذْنِ أَوْلِيَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، أَيْ وَلْيَعِفَّ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا. وَوَجْهُ دِلَالَتِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْتِعَارَةٌ. جعل طَلَبَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ طَلَبِ السَّعْيِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ.

وَمَعْنَى لَا يَجِدُونَ نِكاحاً لَا يَجِدُونَ قُدْرَةً عَلَى النِّكَاحِ فَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ. وَقِيلَ النِّكَاحُ هُنَا اسْمُ مَا هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ النِّكَاحِ كَاللِّبَاسِ وَاللِّحَافِ. فَالْمُرَادُ الْمَهْرُ الَّذِي يُبْذَلُ لِلْمَرْأَةِ.

وَالْإِغْنَاءُ هُنَا هُوَ إِغْنَاؤُهُمْ بِالزَّوَاجِ. وَالْفَضْلُ: زِيَادَةُ الْعَطَاءِ.

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ.

لَمَّا ذُكِرَ وَعْدُ اللَّهِ مَنْ يُزَوَّجُ مِنَ الْعَبِيدِ الْفُقَرَاءِ بِالْغِنَى وَكَانَ مِنْ وَسَائِلِ غِنَاهُ أَنْ يَذْهَبَ يَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ

ص: 218

جَعَلَ اللَّهُ لِلْعَبِيدِ حَقًّا فِي الِاكْتِسَابِ لِتَحْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الرِّقِّ وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ غِنًى لِلْعَبْدِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَزْوَاجِ.

أَمَرَ اللَّهُ السَّادَةَ بِإِجَابَةِ مَنْ يَبْتَغِي الْكِتَابَةَ مِنْ عَبِيدِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ إِكْثَارِ النَّسْلِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقَامَةِ دِينِهَا.

وَالَّذِينَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَكاتِبُوهُمْ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ.

وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي فَكاتِبُوهُمْ لِتَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ ابْتَغَى الْكَتَابَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ، تَأْكِيدًا لترتب الْخَيْر عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِأَنْ يَكُونَ كَتَرَتُّبِ الشُّرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ.

وَالْكِتَابُ: مَصْدَرُ كَاتَبَ إِذَا عَاقَدَ عَلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ مِنَ الرِّقِّ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ يُدْفَعُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مُنَجَّمًا، أَيْ مُوَزَّعًا عَلَى مَوَاقِيتَ مُعَيَّنَةٍ، كَانُوا فِي الْغَالِبِ يُوَقِّتُونَهَا بِمَطَالِعِ نُجُومِ الْمَنَازِلِ مِثْلَ الثُّرَيَّا فَلِذَلِكَ سَمَّوْا تَوْقِيتَ دَفْعِهَا نَجْمًا وَسَمَّوْا تَوْزِيعَهَا تَنْجِيمًا، ثُمَّ غَلَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَوْقِيتٍ فَيُقَالُ فِيهِ: تَنْجِيمٌ. وَكَذَلِكَ الدِّيَّاتُ وَالْحَمَالَاتُ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا مُوَزَّعَةً عَلَى مَوَاقِيتَ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَنْجِيمًا وَكَانَ تَنْجِيمُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى السَّوَاءِ، قَالَ زُهَيْرٌ:

تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ

يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ

وَسَمَّوْا ذَلِكَ كِتَابَةً لِأَنَّ السَّيِّدَ وَعَبْدَهُ كَانَا يُسَجِّلَانِ عَقْدَ تَنْجِيمٍ عِوَضَ الْحُرِّيَّةِ بِصَكٍّ يَكْتُبُهُ كَاتِبٌ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْكُتُبِ حِفْظٌ لَحِقِّ كِلَيْهِمَا أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ التَّسْجِيلِ كِتَابَةٌ لِأَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ هُوَ عَقْدٌ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْكَاتِبُ وَاحِدًا وَالْكُتُبُ وَاحِدًا. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْف: كَاتب أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ.

وَمَعْنَى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ إِلَّا تَحْرِيرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَمَكُّنًا مِنَ الْإِبَاقِ، وَذَلِكَ الْخَيْرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَبِصِفَةِ الْأَمَانَةِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ دَوَامُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِكْمَالِ مَا عَلَيْهِ رَجَعَ عَبْدًا كَمَا كَانَ.

ص: 219

وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةً مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ عَلَى خِيَارِ السَّيِّدِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأْمُرُ السَّادَةَ بِذَلِكَ إِنْ رَغِبَهُ الْعَبْدُ أَوْ لِحَثِّهِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة فِي مَحْمَلِ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكاتِبُوهُمْ. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَسْرُوقٍ وَعَمْرِو بْنِ

دِينَارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا عَلِمَ خَيْرًا فِي عَبْدِهِ وَقَدْ وَكَلَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ حِفْظِ حَقِّ السَّادَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا عَرَضَ الْعَبْدُ اشْتِرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ سَيِّدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ. وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَضْرِبَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بِالدُّرَّةِ لَمَّا سَأَلَهُ سِيرِينُ عَبْدُهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى أَنَسٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ حَدِيثُ كِتَابَةِ بَرِيرَةَ مَعَ سَادَتِهَا وَكَيْفَ أَدَّتْ عَنْهَا عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَالَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَّاشِ وَمَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ غُلَامًا لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَوْ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اسْمُهُ صُبَيْحٌ الْقِبْطِيُّ أَوْ صُبْحٌ سَأَلَ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ يُكَنَّى أَبَا أُميَّة وَهُوَ أَوَّلُ عَبْدٍ كُوتِبَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ لِيَتَنَاسَقَ الْخِطَابَانِ وَهُوَ أَمْرٌ لِلسَّادَةِ بِإِعَانَةِ مُكَاتَبِيهِمْ بِالْمَالِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ مِقْدَارِ الْمَالِ الَّذِي وَقَعَ التَّكَاتُبُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ:

يُوضَعُ عَنِ الْمُكَاتَبِ مِنْ آخَرِ كِتَابَتِهِ مَا تَسْمَحُ بِهِ نَفْسُ السَّيِّدِ. وَحَدَّدَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِالرُّبْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُشْرِ.

وَهَذَا التَّخْفِيفُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ (الْإِيتَاءِ) وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِيتَاءٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ إِسْقَاطًا لِمَا وَجَبَ عَلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْطَاءِ كَمَا سُمِّيَ إِكْمَالُ الْمُطْلِقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِمُطَلَّقَتِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ عَفْوًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي

ص: 220

بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَة: 237] فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ فِي مَحْمَلِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ.

وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ الْقَاضِي: وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْكِتَابَةَ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِعْطَاءِ لِلْوُجُوبِ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ وَالْفَرْعَ وَاجِبًا وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَإِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُيَسِّرُ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شُكْرٌ وَالْإِمْسَاكَ جَحْدٌ لِلنِّعْمَةِ قَدْ يَتَعَرَّضُ بِهِ الْمُمْسِكُ لِتَسَلُّبِ النِّعْمَةِ عَنْهُ.

وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ الَّذِي آتاكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ مالِ اللَّهِ وَيَكُونُ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: آتَاكُمُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ وَيَكُونَ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ. وَيَكُونُ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم نِعَمًا كَثِيرَةً كَقَوْلِهِ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إِبْرَاهِيم: 34] .

وَأَحْكَامُ الْكِتَابَةِ وَعَجْزُ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ وَرُجُوعِهِ مَمْلُوكًا وَمَوْتُ الْمَكَاتِبِ وَمِيرَاثُ الْكِتَابَةِ وَأَدَاءُ أَبْنَاءِ الْمُكَاتِبِ نُجُومَ كِتَابَتِهِ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.

وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

ص: 221

انْتِقَالٌ إِلَى تشريع من شؤون الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ فِي الْأَنْسَاب وَمن شؤون حُقُوقِ الْمَوَالِي وَالْعَبِيدِ، وَهَذَا الِانْتِقَالُ لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ الِاكْتِسَابِ الْمُنْجَرِّ مِنَ الْعَبِيدِ لِمَوَالِيهِمْ وَهُوَ الْكِتَابَةُ فَانْتَقَلَ إِلَى حُكْمِ الْبِغَاءِ.

وَالْبِغَاءُ مَصْدَرُ: بَاغَتِ الْجَارِيَةُ، إِذَا تَعَاطَتِ الزِّنَى بِالْأَجْرِ حِرْفَةً لَهَا، فَالْبِغَاءُ الزِّنَى بِأُجْرَةٍ. وَاشْتِقَاقُ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا: بَاغَتِ الْأَمَةُ.

وَلَا يُقَالُ: بَغَتْ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَغْيِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْمَشَارِقِ» لِأَنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ بَغَى بِهَا كَسْبًا. وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ المحترفة بِهِ بَغِيًّا بِوَزْنِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَلِذَلِكَ لَا تَقْتَرِنُ بِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ. فَأَصْلُ بَغِيٍّ بَغُويٍ فَاجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ.

وَقَدْ كَانَ هَذَا الْبِغَاءُ مَشْرُوعًا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ 38: «فَخَلَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا وَتَغَطَّتْ بِبُرْقُعٍ وَتَلَفَّفَتْ وَجَلَسَتْ فِي مَدْخَلِ (عَيْنَائِمَ) الَّتِي عَلَى الطَّرِيقِ» ثُمَّ قَالَ فَنَظَرَهَا يَهُوذَا وَحَسِبَهَا زَانِيَةً لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهَا فَمَالَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: هَاتِي أَدْخُلُ عَلَيْكَ. فَقَالَتْ: مَاذَا تُعْطِينِي؟ فَقَالَ: أرسل لَك جدي مِعْزًى مِنَ الْغَنَمِ.. ثُمَّ قَالَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَحَبِلَتْ مِنْهُ» .

وَقَدْ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ إِمَاءٌ بَغَايَا مِنْهُنَّ سِتُّ إِمَاءٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَهُنَّ:

مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَأَرْوَى وَقَتِيلَةُ، وَكَانَ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى قُرَيْشٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ قَدْ جُعِلَ عِنْدَ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَكَانَ هَذَا الْأَسِيرُ يُرِيدُ مُعَاذَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا أَسْلَمَتْ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ (أَيْ مِنَ الْأَسِيرِ الْقُرَشِيِّ) فَيَطْلُبُ فِدَاءَ وَلَدِهِ، أَيْ فِدَاءَ رِقِّهِ مِنِ ابْنِ أُبَيٍّ. وَلَعَلَّ هَذَا الْأَسير كَانَ مؤسرا لَهُ مَالٌ بِمَكَّةَ وَكَانَ الزَّانِي بِالْأَمَةِ يَفْتَدِي وَلَدَهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ يَدْفَعُهَا

ص: 222

لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، وَأَنَّهَا شكته إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَقَالُوا إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ قَدْ أَعَدَّ مُعَاذَةَ لِإِكْرَامِ ضُيُوفِهِ فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعَهَا إِرَادَةَ الْكَرَامَةِ لَهُ. فَأَقْبَلَتْ مُعَاذَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِك للنبيء صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ النَّبِيءُ أَبَا بَكْرٍ بِقَبْضِهَا فَصَاحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَنْ يَعْذُرُنَا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمَالِيكِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَظَاهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِالْإِسْلَامِ. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآثَارِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَ بِهَا تَحْرِيمُ الْبِغَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْمَالِكَاتِ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ.

وَكَانَ بِمَكَّةَ تِسْعُ بَغَايَا شَهِيرَاتٍ يَجْعَلْنَ عَلَى بُيُوتِهِنَّ رَايَاتٍ مِثْلَ رَايَاتِ الْبَيْطَارِ لِيَعْرِفَهُنَّ الرِّجَالُ، وَهُنَّ كَمَا ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ: أُمُّ مَهْزُولٍ جَارِيَةُ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، وَأُمُّ غَلِيظٍ جَارِيَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحَيَّةُ الْقِبْطِيَّةُ جَارِيَةُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، وَمُزْنَةُ جَارِيَةُ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السَّبَّاقِ، وَجُلَالَةُ جَارِيَةُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرَةَ، وَأُمُّ سُوِيدٍ جَارِيَةُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ، وَشَرِيفَةُ جَارِيَةُ رَبِيعَةَ بْنِ أَسْوَدَ. وَقَرِينَةُ أَوْ قَرِيبَةُ جَارِيَةُ هِشَامِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقَرِينَةُ جَارِيَةُ هِلَالِ بْنِ أَنَسٍ. وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْمَوَاخِيرَ.

قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْبَغَايَا عِنَاقٌ وَلَعَلَّهَا هِيَ أُمُّ مَهْزُولٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ بِمَكَّةَ أسلمت وَأما اللائي كُنَّ بِالْمَدِينَةِ فَقَدْ أَسْلَمَتْ مِنْهُنَّ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَاءِ الثَّلَاثِ الْأُخَرِ فِي الصَّحَابَةِ فَلَعَلَّهُنَّ هَلَكْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ.

وَالْبِغَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْنَافِ النِّكَاحِ. فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ:

فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا.

ص: 223

وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمَثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ.

وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا اللَّيَالِي بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ. تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا.

وَنِكَاحٌ رَابِعٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ الرَّايَاتِ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ اهـ.

فَكَانَ الْبِغَاءُ فِي الْحَرَائِرِ بِاخْتِيَارِهِنَّ إِيَّاهُ لِلِارْتِزَاقِ. وَكَانَتْ عِنَاقُ صَاحِبَةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: 3] .

وَكَانَ فِي الْإِمَاءِ مَنْ يُلْزِمُهُنَّ سَادَتُهُنَّ عَلَيْهِ لِاكْتِسَابِ أُجُورِ بِغَائِهِنَّ فَكَمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْإِمَاءَ لِلْخِدْمَةِ وَلِلتَّسَرِّي كَانُوا يَتَّخِذُونَ بَعْضَهُنَّ لِلِاكْتِسَابِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَجْرَهُنَّ مَهْرًا كَمَا

جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ

وَلِأَجْلِ هَذَا اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْفَتَيَاتِ جَمْعِ فَتَاةٍ بِمَعْنَى الْأَمَةِ، كَمَا قَالُوا لِلْعَبْدِ: غُلَامٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْضَلٌ وَأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ مَا وَفَّوْهَا حَقَّ الْبَيَانِ وَمَا أَتَوْا إِلَّا إِطْنَابًا فِي تَكْرِيرِ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَسْمَاءِ مَنْ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي قَضِيَّتِهَا دُونَ إِفْصَاحٍ عَمَّا يَسْتَخْلِصُهُ النَّاظِرُ مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.

ص: 224

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسلمين، فَإِن كَانَتْ قِصَّةُ أَمَةِ ابْنِ أُبَيٍّ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ سَيِّدُهَا الْإِسْلَامَ كَانَ هُوَ سَبَبَ النُّزُولِ فَشَمِلَهُ الْعُمُومُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ حَدَثَتْ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْإِسْلَامُ فَهُوَ سَبَبٌ وَلَا يَشْمَلَهُ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا كَانَ تَذَمُّرُ أَمَتِهِ مِنْهُ دَاعِيًا لِنَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِكْرَاهِ فَتَيَاتِهِمْ عَلَى الْبِغَاءِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْفَتَيَاتُ مُسْلِمَاتٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكَاتِ لَا يُخَاطَبْنَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

وَقَدْ كَانَ إِظْهَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْإِسْلَامَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ زَمَنًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ دَخَلَ فِيهِ كَارِهًا مُصِرًّا عَلَى النِّفَاقِ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ قِصَّةَ أَمَتِهِ حَدَثَتْ فِي مُدَّةِ صَرَاحَةِ كُفْرِهِ لِمَا عَلِمْتَ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ نَزَلَتْ: مَنْ يَعْذُرُنَا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمَالِيكِنَا، وَنُزُولُ سُورَةِ النُّورِ كَانَ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ الَّذِي هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ اسْتَمَرَّ زَمَنًا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ يَمُتُّ إِلَى الزِّنَى بِشَبَهٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْأَنْسَابِ لِلِاخْتِلَاطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الزِّنَى فِي خَرْمِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ النَّسَبِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الزِّنَى سِرًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنِ اقْتَرَفَهُ وَكَانَ الْبِغَاءُ عَلَنًا، وَكَانُوا يَرْجِعُونَ فِي إِلْحَاق الْأَبْنَاء الَّذين تَلِدُهُمُ الْبَغَايَا بِآبَائِهِمْ إِلَى إِقْرَارِ الْبَغِيِّ بِأَنَّ الْحَمْلَ مِمَّنْ تُعَيِّنُهُ. وَاصْطَلَحُوا عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ فِي النَّسَبِ فَكَانَ شَبِيهًا بِالِاسْتِلْحَاقِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْبَغَايَا مَنْ لَا ضَبْطَ لَهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ فَيُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى عَدَمِ الْتِحَاقِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ.

وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الزِّنَى كَانَ مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ مَبْدَأِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ فُرِضَتْ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا. وَقَدْ أَثْبَتَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَمَ أَنْكِحَةَ الْجَاهِلِيَّةِ الثَّلَاثَةَ وَأَبْقَى النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعَيِّنْ ضَبْطَ زَمَانِ ذَلِكَ الْهَدْمِ.

ص: 225

وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْبِغَاءُ مُحَرَّمًا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَهَا شَيْءٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ حُدُوثُ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إِذْ لَا سَبِيلَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى مُحَرَّمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالِهِمْ.

وَلِذَلِكَ فَالْآيَةُ نَزَلَتْ تَوْطِئَةً لِإِبْطَالِهِ كَمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: 43] تَوْطِئَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَلْبَتَّةَ. وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِثْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْفَخْرِ بِظَاهِرِ عِبَارَاتِهِمْ دُونَ صَرَاحَةٍ بَلْ بِمَا تَأَوَّلُوا بِهِ مَعَانِي الْآيَةِ إِذْ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ بِهِ عَدَمُ النَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ إِذَا انْتَفَتْ إِرَادَتُهُنَّ التَّحَصُّنَ بَلْ كَانَ الشَّرْطُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِأَنَّ إِرَادَةَ التَّحَصُّنِ هِيَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْإِمَاءِ الْبَغَايَا الْمُؤْمِنَاتِ إِذْ كُنَّ يُحْبِبْنَ التَّعَفُّفَ، أَوْ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مَعَهَا إِرَادَةُ التَّحَصُّنِ.

وَالدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ الْقَيْدِ تَشْنِيعُ حَالَةِ الْبِغَاءِ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ عَنْ إِكْرَاهٍ وَعَنْ مَنْعٍ مِنَ التَّحَصُّنِ. فَفِي ذِكْرِ الْقَيْدَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ وَخَبَاثَةِ الِاكْتِسَابِ بِهِ.

وَذَكَرَ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِحَالَةِ الْإِكْرَاهِ إِذْ إِكْرَاهُهُمْ إِيَّاهُنَّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا وَهُنَّ يَأْبَيْنَ وَغَالِبُ الْإِبَاءِ أَنْ يَكُونَ عَنْ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ. هَذَا تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ وَرَجَعُوا فِي الْحَامِلِ عَلَى التَّأْوِيلِ إِلَى حُصُولِ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى حُرْمَةِ الْبِغَاءِ سَوَاءً كَانَ الْإِجْمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَاءِ وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ هَلْ كَانَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْإِكْرَاهِ جَرَى عَلَى النَّظَرِ لِحَالِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَدْ نَحَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبِغَاءِ بِقَيْدِ إِرَادَةِ الْإِمَاءِ التَّحَصُّنَ.

ص: 226

فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ تَوْطِئَةً لِتَحْرِيمِ الْبِغَاءِ تَحْرِيمًا بَاتًّا. فَحَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكْرِهُوا إِمَاءَهُمْ عَلَى الْبِغَاءِ لِأَنَّ الْإِمَاءَ الْمُسْلِمَاتِ يَكْرَهْنَ ذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ لَهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ

حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِهِ يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْبِغَاءِ.

وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَعْضُودًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ كَمَا يَأْتِي.

وَفِي «تَفْسِيرِ الْأَصْفَهَانِيِّ» (1) : «وَقِيلَ إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَا عَنِ الْبِغَاءِ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا نَزَلَ بَعْدَ هَذَا» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا.

وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِ تُكْرِهُوا أَيْ لَا تُكْرِهُوهُنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْعِلَّةَ لِزِيَادَةِ التَّبْشِيعِ كَذِكْرِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.

وعَرَضَ الْحَياةِ هُوَ الْأَجْرُ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْمَوَالِي مِنْ إِمَائِهِمْ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَهْرِ أَيْضًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ

حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ إِكْرَاهٍ.

وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْخَبَرُ جَانِبَانِ: جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ وَجَانِبُ الْمُكْرَهَاتِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) ، فَأَمَّا جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْإِكْرَاهِ إِذْ لَيْسَ لِمِثْلِ هَذَا التَّبْشِيرِ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الْإِمَاءُ الْمُكْرَهَاتُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. وَقَدْ قَرَأَ بِهَذَا الْمُقَدَّرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ

(1) شمس الدَّين مَحْمُود بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة/ 749/ هـ. [.....]

ص: 227