الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَصِفُونَ وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا يَصِفُونَكَ، أَيْ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ. وَذَلِكَ تَعَهُّدٌ بِأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يعلم مِنْهُم قرب أَحَدٌ يَبْدُو مِنْهُ السُّوءُ يَنْطَوِي ضَمِيرُهُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْدُبُ عَلَى النَّبِيءِ فِي نَفْسِهِ، وَرُبَّ أَحَدٌ هُوَ بِعَكْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: 204] .
وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُرَادٌ بِهَا الْحَسَنَةُ الْكَامِلَةُ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يُوسُف: 33] .
وَالتَّخَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَتَوَلَّى الِانْتِصَارَ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ إِنْ قَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَانَ انْتِصَارُ اللَّهِ أَشَفَى لِصَدْرِهِ وَأَرْسَخَ فِي نَصْرِهِ، وَمَاذَا تَبْلُغُ قُدْرَةُ الْمَخْلُوقِ تِجَاهَ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ الْأَحْزَابَ بِلَا جُيُوشٍ وَلَا فَيَالِقَ.
وَهَكَذَا كَانَ خلق النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ يَدْعُو رَبَّهُ. وَذُكِرَ فِي
«الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَانِمٍ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ زُرْعَةَ كَانَ لَهُ جَاهٌ وَرِئَاسَةٌ وَكَانَ ابْنُ غَانِمٍ حَكَمَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ حَقٍّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، فَلَقِيَ ابْنَ غَانِمٍ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ فَشَتَمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ابْنُ غَانِمٍ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَهُ بِالطَّرِيقِ فَسَلَّمَ ابْنُ زُرْعَةَ عَلَى ابْنِ غَانِمٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ غَانِمٍ وَرَحَّبَ بِهِ وَمَضَى مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا فَلَمَّا أَرَادَ مُفَارَقَتَهُ قَالَ لِابْنِ غَانِمٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنْ خِطَابِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ غَانِمٍ: أَمَّا هَذَا فَلَسْتُ أَفْعَلُهُ حَتَّى أُوقِفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا أَنْ يَنَالَكَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ أَوْ عُقُوبَة فَلَا.
[97، 98]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (23) : الْآيَات 97 إِلَى 98]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
(98)
الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُوَالِيًا لِلْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 96] فَلَمَّا أَمَرَ الله رَسُوله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفَوِّضَ جَزَاءَهُمْ إِلَى رَبِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ حَيْلُولَةِ الشَّيَاطِينِ دُونَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّعَوُّذُ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّيْطَانِ دَاعِيَةَ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فِي نفس النبيء صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الشَّياطِينِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ:
تَصَرُّفَاتِهِمْ بِتَحْرِيكِ الْقُوَى الَّتِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ (أَيْ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّبْلِيغِ) مِثْلَ تَحْرِيكِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ كَمَا تَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ
فِي قَول النبيء صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ «وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ»
. وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُقْتَضِيًا تَكَفُّلَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِجَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [الْبَقَرَة: 286]، أَوْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُرَادًا بِهِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهُمْ. قَالَ فِي «الشِّفَاءِ» : الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ (أَيْ مُجَمَّعَةٌ) عَلَى عصمَة النبيء صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّيْطَانِ لَا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا عَلَى خَاطِرِهِ بِالْوَسَاوِسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 93] بِأَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ بِطَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نبيء عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: 112] وَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: 1- 6] فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَوْ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مِنْهُمْ.
وَالْهَمْزُ حَقِيقَتُهُ: الضَّغْطُ بِالْيَدِ وَالطَّعْنُ بِالْإِصْبَعِ وَنَحْوُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَم: 11] وَقَوْلُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: 1] .