الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي بِالْأَبْصارِ لَامُ الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ سِوَى أَنْ هَذِهِ الْآيَةَ زِيدَ فِيهَا لَفَظُ سَنا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ الِاعْتِبَارِ بِتَكْوِينِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذَا الْبَرْقِ وَشِدَّةِ ضِيَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِأَمْرَيْنِ:
بِتَكْوِينِ الْبَرْقِ فِي السَّحَابِ. وَبِقُوَّةِ ضِيَائِهِ حَتَّى يَكَادَ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ. وَآيَةُ الْبَقَرَةِ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ التَّهْدِيدِ وَالتَّشْوِيهِ لِحَالِهِمْ حِينَ كَانُوا مُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ وَمُنْطَوِينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ فَكَانَتْ حَالُهُمْ كَحَالَةِ الْغَيْثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى صَوَاعِقَ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ فَظَاهِرُهُ مَنْفَعَةٌ وَفِي بَاطِنِهِ
قَوَارِعُ وَمَصَائِبُ.
وَمِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ وُضِعَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ:
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ لِأَنَّ فِي الْخَطْفِ مِنْ مَعْنَى النِّكَايَةِ بِهِمْ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ مَا لَيْسَ فِي يَذْهَبُ إِذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِاسْتِلَابِ.
وَأَمَّا التَّعْبِير هُنَا بِالْأَبْصارِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْبَرْقَ مُقَارِبٌ أَنْ يُزِيلَ طَائِفَةً مِنْ جِنْسِ الْأَبْصَارِ إِذِ اللَّامُ هُنَا لَامُ الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يُوسُف:
13] وَقَوْلُهُمْ: ادْخُلِ السُّوقَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى حَالَةِ الْبَرْقِ الشَّدِيدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ. بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهِ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الضُّرِّ بِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ لَفْظَ أَبْصَارٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ مَعَ مَا فِي هَذَا التَّخَالُفِ مَنْ تَفْنَيْنِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ الْكَلَامُ مُعَادًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا وَلَا تَجِدُ حَقَّ الْإِيجَازِ فَائِتًا فَإِنَّ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فِي حَدِّ التَّسَاوِي فِي الْحُرُوف وَالنُّطْقِ. وَهَكَذَا نَرَى بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازَهُ وَحَلَاوَةَ نَظْمِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَذْهَبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ يُذْهِبُ الْأَبْصَارَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ فَتَكُونُ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] .
[44]
[سُورَة النُّور (24) : آيَة 44]
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ
(44)
التَّقْلِيبُ تَغْيِيرُ هَيْئَةٍ إِلَى ضِدِّهَا وَمِنْهُ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف:
42] أَيْ يُدِيرُ كَفَّيْهِ مِنْ ظَاهِرٍ إِلَى بَاطِنٍ، فَتَقْلِيبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَغْيِيرُ الْأُفُقِ مِنْ حَالَةِ اللَّيْلِ إِلَى حَالَةِ الضِّيَاءِ وَمِنْ حَالَةِ النَّهَارِ إِلَى حَالَةِ الظَّلَامِ، فَالْمُقَلَّبُ هُوَ الْجَوُّ بِمَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَالَةُ ظُلْمَةِ الْجَوِّ تُسَمَّى لَيْلًا وَحَالَةُ نُورِهِ تُسَمَّى نَهَارًا عَبَّرَ عَنِ الْجَوِّ فِي حَالَتَيْهِ بِهِمَا، وَعُدِّيَ التَّقْلِيبُ إِلَيْهِمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّقْلِيبِ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَلِرَعْيِ تَكَرُّرِ التَّقَلُّبِ بِمَعْنَيَيْهِ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ. وَجِيءَ بِهِ مُسْتَأْنِفًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَى آيَات الِاعْتِبَار الْمَذْكُورَة قَبْلَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْأَبْصَارِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ كُلُّ ذِي بَصَرٍ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ شَهْرٍ فَهُوَ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي بَصَرٍ. وَهَذَا تَدَرُّجٌ فِي
مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النُّور: 43] كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَلِذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ جُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ، وَلَكِنْ بُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي تَقْلِيبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَعِبْرَةً.
وَالْإِشَارَةُ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ فِعْلُ يُقَلِّبُ مِنَ الْمَصْدَرِ. أَيْ إِنَّ فِي التَّقْلِيبِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَصْدَ ذِكْرُ الْعِبْرَةِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُنْكَرِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَرْكِهِمْ الِاعْتِبَارَ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً.