الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة هود
1 -
قوله تعالى (وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أجَلٍ مُسَمَّىً. .) .
" ثُمَّ " للترتيب " الإِخباري لا الوجودي " إذِ التوبةُ سابقة على الاستغفار.
أو المعنى: استغفروا ربكم من الشِّرك، " ثُمَّ تُوبُوا " أي ارجعوا إليه بالطاعة.
إن قلتَ: نجدُ من لم يستغفرِ اللَّهَ ولم يَتُبْ، يمتِّعُه اللَّهُ متاعاً حسناً إلى أجلِهِ، أي يرزُقُه ويوسِّعُ عليهِ كما قال ابنُ عباس، أو يُعمِّره كما قال ابن قتيبة، فما فائدةُ التقييدِ بالاستغفار والتوبة؟!
قلتُ: قال غيرهما: المتاعُ الحسنُ - المقيَّدُ بالاستغفارِ والتوبةِ - هو الحياةُ في الطَّاعةِ والقناعة، ولا
يكونانِ إلّاَ للمستغفِر التَّائب.
2 -
قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا. .) الآية.
لم يقل " على الأرض " مع أنه أنسبُ بتفسير الدابة لغةً، لأنها ما يدبُّ على الأرض، لأنَّ " في " أعمُّ مِنْ " عَلَى " لأنها تتناول من الدوابِّ ما على ظهرِ الأرض، وما في بطنها.
وقيل: " في " بمعنى " على " كما في قوله تعالى (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوع النَّخْلِ) وقولِهِ (أمْ لهمْ سُلَّمٌ يَسْتمعُونَ فِيهِ) وظاهرٌ أنَّ تفسير الدابة بما يَدبُّ على الأرض، يتناول الطير، فلا يَرِدُ أنَّ الآية، لا تتناول الطير في ضمان رزقه.
فإن قلتَ: " عَلَى " للوجوب، واللَّهُ تعالى لا يجبُ عليه شيءٌ؟
قلتُ: المرادُ بالوجوب هنا " وجوبُ اختيار لا وجوبُ إلزامِ " كقوله صلى الله عليه وسلم: ((غُسْلُ يومِ الجمعةِ واجبٌ علَى كلِّ محتَلم " وكقولِ الِإنسان لصاحبه: حقُّك واجبٌ عليَّ.
أو " عَلى " بمعنى " مِنْ " كما في قوله تعالى:
" الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ "
3 -
قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَن ذَهَبَ السّيِّئَاتُ عَنى) قاله هنا، وقال في " فصِّلت ":(وَلَئِنْ أذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بزيادة " منَّا " و " مِنْ "، لأنه ثَمَّ بَيَّن جهة الرحمة، بقوله:" لا يَسْأَمُ الِإنْسَانُ منْ دُعَاءِ الخَيْرِ " فنايسبَ ذكرُ " منَّا " وحذَفَه هنا اكتفاءً بقوله قبلُ: " وَلَئِنْ أذقْنَا الِإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ".
وزاد " من " ثَمَّ، لأنه لمَّا حدَّ الرحمة وجهَتَها، حدَّ ألظَّرْف بعدها لتَتَشَاكلا في التحديد، وهنا لمَّا أهمل
الأول، أهمل الثاني ليَتَشاكلا.
4 -
قوله تعالى: (فَلَعَلكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. .) الآية.
إنما قال " ضَائِقٌ " ولم يقل: ضيِّقٌ، لموافقة قوله قبلَه:" تاركٌ "، وليدلَّ على أنه ضِيقٌ عارضٌ لا ثابت، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أوسعَ النَّاسِ صدراً.
ونظيرُه قولُك: زيد سائدٌ وجائد، تريد حَدَثَ فيه السيادةُ والجودُ، فإنْ أردتَ وصفه بثبوتهما، قلتَ: زيد سيِّدٌ وجواد.
5 -
قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ. .) .
أي مثله في الفصاحة والبلاغة، وإلَّا فما يأتون به مُفْترى، والقرآنُ ليس بمفترى.
أو معناه: مفترياتٍ كما أنَّ القرآنَ - في زعمكم - مُفْتَرى!!
فإِن قلتَ: كيف أفردَ في قوله " قُلْ " ثمَّ جَمَعَ في
قوله " فإن لم يستجيبوا لكم "؟
قلتُ: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم فيهما، لكنَّه جَمَعَ في " لكم " تعظيماً، وتفخيماً له، ويعضُده قولُه في سورة القصص:(فإنْ لمْ يَسْتَجيبُوا لكَ) .
أو الخطابُ في الثاني للمشركين، وفي " يَسْتَجِيبُوا "
لِـ " مَنِ اسْتَطَعْتُمْ " والمعنى: فأتُوا أيها المشركون بعشر سورٍ مثلِهِ، إلى آخره، فإن لم يستجبْ لكم من تدعونه، إلى المظَاهرةِ على معارضتِهِ لعجزهم " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " وبالنظر إلى هذا الجواب، جُمِعَ الضميرُ في " لم يستجيبوا لكم " هنا، وأفردَ في القَصَص.
فإن قلتَ: قال في سورة يونس " فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
وقد عجزوا عنه، فكيفَ قال هنا:" فَأتُوا بعشر سُوَرٍ مِثْلِهِ "؟!
قلت: قيل: نزلتْ سورةُ هودٍ أولَاَ، لكنْ أنكره المبرّد وقال: بل سورةُ يونس أولاً، قال: ومعنى قوله في سورة يونس " فأتوا بسورةٍ مثلِهِ " أي في الِإخبار عن الغيب، والأحكامِ، والوعدِ والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في
سورة هود: إنْ عجزتم عن ذلك، فأتوا بعشر سور مثلهِ في البلاغة، لا في غيره مما ذُكرَ، وما قاله هو المتَّجِه. هذا وتحريرُ الأول، مع زيادة أن يُقال: إنَّ الِإعجاز وقع أولاً بالتحدِّي بكل القرآن في آية " قُل لَئِن اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ " فلمَّا عجزوا تحدَّاهم - بعشر سورٍ، فلما عجزوا تحدَّاهم بسورة، فلما عجزوا تحدّاهم (1! - بدونها بقوله:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مثلِهِ ".
6 -
قوله تعالى: (لَا جَرَمَ أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ) . قال ذلكَ هنا، وقال في النَّحل:" هُمُ الخاسرون " لأنَّ ما هنا نزل في قومٍ صدُّوا عن سبيل الله، وصدُّوا غيرهم، فضلُّوا وأضلُّوا..
وما هناكَ نزل في قومِ صدُّوا عن سبيل الله، فناسب في الأول " الأخسرون " وفَي الثاني " الخاسرون ".
7 -
قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ. .) .
قال هنا بتقديم " رحمةً " على الجارّ والمجرور،
وعكس بعدُ في قوله " وآتاني منه رحمةً " وفي قوله " ورزقني منه رزقاً حسناً " ليوافق كلٌّ منهما ما قبله، إذِ الأفعال المتقدمة هنا وهي:" ترى، ونرى، ونظنُّ " لم يفصل بينها وبين مفاعيلها جار ومجرور، والفعلُ المتقدِّم بعدُ، وهو " كان " في الثاني و " نَفْعَلَ " في الثالث، فَصَل بينه وبين مفعوله جار ومجرور، إذ خبرُ " كان " كالمفعول.
فإن قلتَ: لمَ قال في الأوَّلَيْن " وآتاني " وفي الثالث
" ورزقني "؟!
قلتُ: لأنَّ الثالث تقدَّمه ذكرُ الأموال، وتأخَّر عنه قولُه " رزقاً حسناً " وهما خاصَّان، فناسبهما قولُه " ورزقني " بخلاف الأوَّليْن فإنه تقدَّمهما أمور عامة، فناسبها قوله، " وآتاني ".
8 -
قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أجْرِيَ إِلّاَ عَلَى اللَّهِ. .) .
إن قلتَ: لمَ قال هنا حكايةً عن نوحٍ بلفظ " مالاً "
وقاله بعدُ حكايةً عن هودٍ بلفظِ " أجراً "؟!
قلتُ: توسعةً في التعبير عن المراد بمتساوييْن، ولأن قصَّةَ نوحٍ وقع بعدها " خزائنُ " والمالُ بها أنسَبُ.
فإن قلتَ: لم قال في الأولى " ويا قوم " بالواو،
وفي الثانية " يا قوم " بدونها؟
قلتُ: لطول الكلام، الواقع بين الندائين في قصة نوح، وقصر ما بينهما في قصة هود، فناسب ذكرُ الواو في الأول لتوصيل ما بعدها بما قَبْلَها.
9 -
قوله تعالى: (قَالَ لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّهِ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ. .) الآية. الاستثناءُ فيه منقطعٌ، لأن من رحمه الله معصومٌ لا عاصم.
أو متَّصلٌ لأن معنى من رحمَ الراحمُ - وهو اللَّهُ - فكأنه قيل: لا عاصم إلا اللَّه.
أو لأنَّ عاصماً بمعنى معصوم، كـ " مَاءٍ دَافِقٍ "،
و (عيشةٍ راضية)
10 -
قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أقْلِعِي. .) الآية.
إن قلتَ: هما لا يعقلان فكيف أُمِرا؟
قلتُ: الأمرُ هنا أمرُ " إيجادٍ " لا أمرُ " إيجاب "،
فلا يُشترط فيه فهمٌ ولا عقل، لأنَّ الأشياء كلَّها منقادةٌ للَّهِ تعالى، ومنه قوله تعالى:" إِنَّما أمرُنا لِشَيْءٍ إذَا أرَدْنَاهُ أنْ نقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وقوله: " فَقَالَ لها وللأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتا أتَيْنَا طَائِعِينَ ".
11 -
قوله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي. .) الآية. قاله هنا بالفاء، وقال في مريم في قصة زكريا " إذْ نَادَى ربَّهُ نِدَاءً خفياً قال ربّ " بلا فاء. . لأنه أريد بالنداء هنا إرادتُه، فهي سببٌ له، فناسبت الفاء الدالة على السببيَّة، وهناك لم يُردْ ذلكَ، فناسب تركُ الفاء.
12 -
قوله تعالى: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ. .) الآية.
إن قلتَ: هود كان رسولًا، فكيف لم يُظْهِرْ معجزةً؟!
قلتُ: قد أظهرها وهي " الريحُ الصَّرْصَرُ " ولا يُقبل قولُ الكفَّار في حقه.
قال بعضهم: أو إنَّ الرسول إنما يَحْتاج إلى معجزة، إذا كان صاحب شَريعة، لتنقادَ أمتُه إليها، إذْ في كل شريعةٍ أحكام غير معقولة، فيحتاج الرسولُ الآتي بها إلى معجزةٍ، تشهد بصحة صدقه، وهودٌ لم يكن له شريعةٌ، وإِنَّما كان يأمر بالعقل، فلا يَحْتاج إلى معجزة، لأنَّ الناسَ ينقادون إلى ما يأمرهم به، لموافقته للعقل. والمعتمدُ الجوابُ الأول، ولا يلزم من عدم إظهاره معجزةً، عدمُها في نفس الأمر، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((مَا مِنْ نَبِيٍّ إلّاَ وقد أوتيَ منَ الآياتِ، ما مثلُه آمَن عليهِ البشرُ. .) .
وقولُهم " ما جئتنا ببيِّنةٍ " كقول غيرهم " إنْ هُوَ إلّاَ رجل بهِ جِنَّة "" إنَّ هذا لساحر عليم ".
13 -
قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) .
قاله في قصة " هود " و " شعيب " بالواو، وفي قصة " صالح " و " لوط " بالفاء، لأن العذاب في قصة الأوَّليْن تأخَّر عن وقت الوعيد، فناسبَ الإِتيانُ بالواو، وفي قصة الأخيرين وقع العذابُ عقب الوعيد، فناسبَ الِإتيان بالفاء، الدَّالةِ على التعقيب.
14 -
قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ مَا أرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. .) الآية جوابُ الشرط محذوفٌ، إذِ الِإبلاع ليس هو الجواب، لتقدّمِه على تولِّيهم، وإنما هو متعلَّقُ الجوابِ، والتقديرُ: فقل لهم: قد أبلغتكُم.
15 -
قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِنْ عَذَابٍ
غَلِيظٍ) .
كرَّر التنجية، لأنَّ المراد بالأولى: تنجيتُهم من عذاب الدنيا، الذي نَزَلَ بقوم هود، وهي " سَمُومٌ " أرسلها اللَّهُ عليهم، فقطَّعتهم عُضْواً عُضْواً.
وبالثانية: تنجيتُهم من عذاب الآخرة (1) ، الذي استحقَّه قوم هودٍ بالكفر.
16 -
قوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ. .) الآية. قاله هنا بذكر " الدنيا " وقال في قصة موسى بعد " وَاتْبِعُوا في هذِهِ لَعْنَةً " بحذفها، اختصاراً واكتفاءً بما هنا.
17 -
قوله تعالى: (وَأخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) . قاله هنا في قصة صالح، بلا " تاء " وقاله بها بعدُ في قصة شعيب، وكلٌّ صحيح، لكنْ اختصَّ الثاني بها، لأنَّ قوم شعيب وقع الِإخبار عن عذابهم، بثلاثة ألفاظٍ مؤنثة
الأعراف، والعنكبوت " فأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " وهنا " الصيحةُ " وفي الشعراء " الظُلَّة " - وقعت لهم الثلاثة في ثلاثةِ أوقات.
18 -
قوله تعالى: (فَأسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ منَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحدٌ إلّاَ امرأتَكَ. .)
استثنى فيها " إلّاَ امْراتَكَ " ولم يستثنها منها في الحِجْر اكتفاءً باستثنائها ثَمَّ قبله في قوله: " إِنَّا لَمنَجُّوهُمْ أجْمَعِينَ إِلَّا امْراتَهُ ".
19 -
قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُصُوا المِكْيَالَ والمِيزَانَ إِنِّي أرَاكمْ بِخيْرٍ. .) الآية. هذا النَّهيُ يتضمَّن الأمر بالِإيفاء، وصرَّح به بعدُ في قوله (وَيَا قَوْمِ أوْفُوا المِكْيالَ والمِيزَانَ بِالقِسْطِ) وهو يتضمَّنُ النهي عن النقص، ففي ذلك تأكيدٌ على الحثِّ على عدم البَخْس، وعلى الحثَ على العدل، وقدَّمَ النَّهيَ على الأمر، لأنَّ دفع المفاسد آكدُ
من جلبِ المصالح.
20 -
قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بإِذْنِهِ. .) الآية. مُقَيدٌ لقوله تعالى: (يَوْمَ تَأتي كُل نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي بإذن الله، ولا يُنافي ذلك قوله تعالى (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) . لأنَ في يوم القيامة مواقفَ، ففي بعضها لا يُؤذن لهم في الكلام، فيُكفُّون عنه، وفي بعضها يُؤذنُ لهم فيه، فيتكلمون.
21 -
قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِى وَسَعِيد) .
إن قلتَ: " مِنْ " للتبعيض، ومعلومٌ أن الناس كلهم، إما شقى أوسعيد، فما معنى التبعيض؟!
قلتُ: التبعيضُ صحيح لأنَ أهلَ القيامة ثلاثةُ أقسام:
أ - قسم شقى، وهم أهلُ النَار.
ب - وقسمٌ سعيدٌ، وهم أهلُ الجنَة.
ج - وقسمٌ لا شقي ولا سعيدٌ، وهم أهل
الأعراف، وإن كان مصيرُهم إلى الجنة، كما قاله قتادة وغيره.
22 -
قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموَاتُ وَالأرْض. .) الآية.
إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ السمواتِ والأرضَ يَفْنيان، وذلكَ يُنافي الخلودَ الدائم؟!
قلتُ: هذا خرج مَخْرج الألفاظ، التي يُعَبِّر العرب فيها عن إرادة الدوام، دون التأقيت، كقولهم: لا أفعل هذا ما اختلفَ الليلُ والنَّهارُ، وما دامتِ السمواتُ والأرضُ، يريد لا يفعلُه أبداً.
أو أنهم خوطبوا على معتقدهم أنَّ السمواتِ والأرضَ لا يفنيان.
أو أن المراد سمواتُ الآخرة وأرضُها، قال تعالى:
" يوم تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرضِ والسَّمواتُ " وتلك دائمة لا تفنى.
إن قلتَ: إذا كان المرادُ بما ذُكر الخلودُ الدائم،
فما معنى الاستثناء في قوله " إلَّا ما شاء ربُّك "؟
قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النار
(1)
،
ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، لأن أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبون بالزمهرير، وبأنواع أخَرَ من العذابِ، وبما هو أشدُّ من ذلك، وهو سَخَطُ اللَّهِ عليهم. وأهلُ الجنة لا يُخلَّدون في نعيمها وحده، بل يُنعَّمون بالرضوان، والنظرِ إلى وجهِه الكريم، وغير ذلك، كما دلَّ عليه قوله تعالى (عَطَاءً غيرَ مَجْذُوذٍ) .
أو " إلّاَ " بمعنى غير، أي خالدين فيها ما دامت السَّمواتُ والأرضُ، غير ما شاء اللَّهُ من الزيادة عليهما، إلى ما لا نهاية له.
أو " إلَّا " بمعنى الواو، كقوله تعالى (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ) .
23 -
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأهْلُهَا مُصْلِحُونَ) . قاله هنا بصيغة " لِيُهْلِكَ " لأنه لمَّا ذكر قولَه " بِظُلْمٍ " نفى الظُّلم عن نفسه، بأبلغ لفظٍ يُستعمل في النفي، لأنَّ اللام فيه لام الجحود، والمضارعُ يُفيد الاستمرار، فمعناه: ما فعلتُ الظُّلمَ فيما مضى، ولا
أفعله في الحال، ولا في المستقبل، فكان غايةً في النفي.
وقاله في القصص، بدون ذكر " بظلمٍ "، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، المفيد للحال فقط، وإن كان يُستعمل في الماضي، والمستقبل مجازاً.
24 -
قوله تعالى: (وَكلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. .) الآية.
إن قلتَ: ما الجمعُ بينه وبينِ قوله تعالى " وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ "؟
قلتُ: معناه كلُّ نبأٍ نقصُّه عليك من أنباء الرسل، هو ما نثبت به فؤادك، ف " ما " في موضع رفعٍ خبر مبتدأ محذوف، فلا يقتضى اللفظُ قصَّ أنباء جميع الرسل.
25 -
قوله تعالى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ. .) .
أي في هذه الأنباءِ، أو الآيات، أو السورة.
خَصَّها بالذِّكر، تشريفاً لها، وإن كان قد جاءه الحقُّ في جميع السُّوَر، كقوله تعالى:(حَافِطوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى. .) .
والتعريف ب " في هذه الحقُّ " إما للجنس، أو للعهد، والمرادُ به: البراهينُ الدالة على التوحيد، والعدل، والنُبُوَّة.
" تَمَّتْ سُورَةُ هود "