الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المعارج
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
نَزَلَتْ سُورَةُ سَأَلَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلَاّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
قَوْلُهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَأَلَ بِالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَةُ، وَهُوَ إِمَّا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ لِكَذَا، وَالْمَعْنَى: دَعَا دَاعٍ عَلَى نَفْسِهِ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، كَقَوْلِهِ: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ، فَهُوَ إِمَّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ، أَوْ يَكُونُ مِنَ السَّيَلَانِ، وَالْمَعْنَى: سَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ سَائِلٌ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَالَ سَيْلٌ وَقِيلَ: إِنَّ سَالَ بِمَعْنَى الْتَمَسَ، وَالْمَعْنَى: الْتَمَسَ مُلْتَمِسٌ عَذَابًا لِلْكُفَّارِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، كَقَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
يُقَالُ خَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَإِذَا كَانَ مِنَ السُّؤَالِ فَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهَذَا السَّائِلُ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» وَهُوَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا، وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ سَالَ سَالٌ مِثْلَ مَالَ مَالٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ سَائِلٌ، فَحُذِفَتِ الْعَيْنُ تَخْفِيفًا، كَمَا قِيلَ: شَاكٌ فِي: شَائِكِ السِّلَاحِ. وَقِيلَ: السَّائِلُ هُوَ نُوحٌ عليه السلام، سأل العذاب للكافرين، وقيل:
(1) . الفرقان: 59.
(2)
. الأنفال: 32.
هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ واقِعٍ يَعْنِي إِمَّا فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: لِلْكافِرينَ صِفَةٌ أُخْرَى لِعَذَابٍ، أَيْ: كَائِنٌ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِوَاقِعٍ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَوْ بِسَأَلَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى دَعَا، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى تَقْدِيرٍ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى: وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ بِعَذَابٍ لِلْكَافِرِينَ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَالْوَاقِعُ مِنْ نَعْتِ الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ صِفَةٌ أُخْرَى لِعَذَابٍ، أَوْ حَالٌ مِنْهُ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْوَاقِعُ بِهِ أَحَدٌ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاقِعٍ، أَيْ: وَاقِعٍ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ بِدَافِعٍ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى ذِي الْمَعارِجِ أَيْ: ذِي الدَّرَجَاتِ الَّتِي تَصْعَدُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ السَّمَاوَاتُ، وَسَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ فِيهَا، وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ مَرَاتِبُ نِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ: الْعَظَمَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْغُرَفُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «ذِي الْمَعَارِيجِ» بِزِيَادَةِ الْيَاءِ، يُقَالُ: مَعَارِجُ وَمَعَارِيجُ مِثْلُ مِفَاتِحَ وَمَفَاتِيحَ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أَيْ: تَصَعَدُ فِي تِلْكَ الْمَعَارِجِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرُجُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَالْكِسَائِيُّ وَالسُّلَمِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، والروح: جبريل، أفراد بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ لِشَرَفِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَقِيلَ: الرُّوحُ هُنَا مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمٌ غَيْرُ جبريل. وقال أبو صالح: إنّه خلق مِنْ خَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَهَيْئَةِ النَّاسِ وَلَيْسُوا مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: إِنَّهُ رُوحُ الْمَيِّتِ حِينَ تُقْبَضُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِلَى عَرْشِهِ، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي: حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ ووهب ابن منبه: أي: عروج الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّهَا فِي وَقْتٍ كَانَ مِقْدَارُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ لَوْ صَعِدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ مُدَّةَ عُمُرِ الدُّنْيَا هَذَا الْمِقْدَارُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي أَنَّ مِقْدَارَ الْأَمْرِ فِيهِ لَوْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْرَغُ مِنْهُ فِي سَاعَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ مَوْقِفِ الْعِبَادِ لِلْحِسَابِ هِيَ هَذَا الْمِقْدَارُ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ:
إِنَّ مِقْدَارَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ:
ذُكِرَ هَذَا الْمِقْدَارُ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ لِغَايَةِ ارْتِفَاعِ تِلْكَ الْمَعَارِجِ وَبُعْدِ مَدَاهَا، أَوْ لِطُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، كَمَا تَصِفُ الْعَرَبُ أَيَّامَ الشِّدَّةِ بِالطُّولِ وَأَيَّامَ الْفَرَحِ بِالْقِصَرِ، وَيُشَبِّهُونَ الْيَوْمَ الْقَصِيرَ بِإِبْهَامِ الْقَطَاةِ، وَالطَّوِيلَ بِظِلِّ الرُّمْحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ «1» :
وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ
…
دَمُ الزِّقِّ عَنَّا واصطفاق المزاهر»
(1) . هو شبرمة بن الطفيل.
(2)
. «الزق» : وعاء من جلد. ودم الزق: الخمر. «المزاهر» : العيدان. واصطفاق المزاهر: تجاوب بعضها بعضا.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ: إِنَّ مِنْ أَسْفَلِ الْعَالَمِ إِلَى الْعَرْشِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمِنْ أَعْلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ أَلْفَ سَنَةٍ، لِأَنَّ غِلَظَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ أَسْفَلِ السَّمَاءِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا عَرَجَتْ مِنْ أَسْفَلِ الْعَالَمِ إِلَى الْعَرْشِ كَانَ مَسَافَةُ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ عَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا إِلَى بَاطِنِ هَذِهِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا كَانَ مَسَافَةُ ذَلِكَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ فَقَالَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أَيِ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَكُفْرِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ صَبْرًا جَمِيلًا، لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ فِي الْقَوْمِ لَا يُدْرَى بِأَنَّهُ مُصَابٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً أَيْ:
يَرَوْنَ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ بِهِمْ، أَوْ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعِيدًا، أَيْ: غَيْرَ كَائِنٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَمَعْنَى بَعِيداً أَيْ: مُسْتَبْعَدًا مُحَالًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا غَيْرَ قَرِيبٍ. قَالَ الْأَعْمَشُ: يَرَوْنَ الْبَعْثَ بَعِيدًا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، كَأَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحَالَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنَاظِرُهُ: هَذَا بَعِيدٌ، أَيْ: لَا يَكُونُ وَنَراهُ قَرِيباً أَيْ: نَعْلَمُهُ كَائِنًا قَرِيبًا لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَنَرَاهُ هَيِّنًا فِي قُدْرَتِنَا غَيْرَ مُتَعَسِّرٍ وَلَا مُتَعَذِّرٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مَتَى يَقَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ، فَقَالَ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَاقِعٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ قوله: فِي يَوْمٍ على تقدير تعلّقه بواقع، أو متعلّق بقريبا، أَوْ مُقَدَّرٌ بَعْدَهُ: أَيْ يَوْمَ تَكُونُ إِلَخْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَرَاهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالتَّقْدِيرُ يَقَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَالْمُهْلُ: مَا أُذِيبُ مِنَ النُّحَّاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَيْحُ مِنَ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالدُّخَانِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أَيْ: كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ، وَلَا يُقَالُ لِلصُّوفِ عِهْنٌ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْبُوغًا. قَالَ الْحَسَنُ: تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وَهُوَ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ، وَقِيلَ: الْعِهْنُ: الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، فَشَبَّهَ الْجِبَالَ بِهِ فِي تَكَوُّنِهَا أَلْوَانًا كَمَا فِي قوله: جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَغَرابِيبُ سُودٌ «2» فَإِذَا بُسَّتْ وَطُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ المنقوض إذا طيّرته الريح. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أَيْ: لَا يَسْأَلُ قَرِيبٌ قَرِيبَهُ عَنْ شَأْنِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ الَّتِي أَذْهَلَتِ الْقَرِيبَ عَنْ قَرِيبِهِ، وَالْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَوُصِلَ الْفِعْلُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْئَلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، قِيلَ:
وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْأَلُهُ نَصْرَهُ وَلَا شَفَاعَتَهُ، وَقَرَأَ أَبُو جعفر وأبو حيوة وشيبة وابن كثير
(1) . السجدة: 5.
(2)
. فاطر: 27.
فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْبَزِّيُّ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ إِحْضَارَ حَمِيمِهِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، بَلْ كُلُّ إِنْسَانٍ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ، وَجُمْلَةُ يُبَصَّرُونَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: حَمِيماً أَيْ: يُبَصَّرُ كُلُّ حَمِيمٍ حَمِيمَهُ، لَا يَخْفَى مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْ أحد. وليس في القيامة مخلوق إلا وَهُوَ نُصْبُ عَيْنِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ وَلَا يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاشْتِغَالِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُبَصِّرُ اللَّهُ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمُ الرؤساء المتبوعون. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يُبَصَّرُونَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: يَعْرِفُونَ أَحْوَالَ النَّاسِ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي يُبَصَّرُونَهُمْ، وَهُمَا لِلْحَمِيمَيْنِ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُبَصَّرُونَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِالتَّخْفِيفِ. ثُمَّ ابْتَدَأَ سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ فَقَالَ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ الْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِ الْكَافِرُ، أَوْ كُلُّ مُذْنِبٍ ذَنْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّارَ، لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ بِبَنِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَكْرَمُهُمْ لَدَيْهِ، فَلَوْ قُبِلَ مِنْهُ الْفِدَاءُ لَفَدَى بِهِمْ نَفْسَهَ، وَخَلَصَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ اشْتِغَالَ كُلِّ مُجْرِمٍ بِنَفْسِهِ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ يُوَدُّ الِافْتِدَاءَ مِنَ الْعَذَابِ بِمَنْ ذُكِرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِإِضَافَةِ عَذَابِ إِلَى يَوْمِئِذٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِتَنْوِينِ عَذَابٍ وَقَطْعِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَوْمِئِذٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أَيْ:
عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَضُمُّونَهُ فِي النَّسَبِ أَوْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيَأْوِي إِلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْفَصِيلَةُ: دُونَ الْقَبِيلَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُمْ آبَاؤُهُمُ الْأَدْنَوْنَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَصِيلَةُ: الْقِطْعَةُ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ. وَسُمِّيَتْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ فَصِيلَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِالْبَعْضِ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْفَصِيلَةَ هِيَ الَّتِي تُرَبِّيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَيْ: وَيَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوِ افْتَدَى بِمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنَ الثَّقَلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْخَلَائِقِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْجِيهِ مَعْطُوفٌ عَلَى يَفْتَدِي، أَيْ: يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي ثُمَّ يُنْجِيهِ الِافْتِدَاءُ، وَكَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ لِدَلَالَتِهَا عَلَى اسْتِبْعَادِ النَّجَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ يَوَدُّ تَقْتَضِي جَوَابًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَالْجَوَابُ «ثُمَّ يُنْجِيهِ» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ:
كَلَّا رَدْعٌ لِلْمُجْرِمِ عَنْ تِلْكَ الْوَدَادَةِ، وَبَيَانُ امْتِنَاعِ ما ودّه من الافتداء، وكَلَّا يَأْتِي بِمَعْنَى حَقًّا، وَبِمَعْنَى لَا مَعَ تَضَمُّنِهَا لِمَعْنَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها لَظى عائد إلى النار المدلول عليها لذكر العذاب، أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده، و «لظى» علم لِجَهَنَّمَ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ التَّلَظِّي فِي النَّارِ وَهُوَ التَّلَهُّبُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ لَظَظٌ بِمَعْنَى دَوَامِ الْعَذَابِ، فَقُلِبَتْ إِحْدَى الظَّاءَيْنِ أَلِفًا، وَقِيلَ: لَظَى: هِيَ الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ نَزَّاعَةً لِلشَّوى قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَزَّاعَةً بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثان لإنّ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ تَكُونُ «لَظَى» بدلا من الضمير المنصوب، و «نزاعة» خَبَرُ إِنَّ، أَوْ عَلَى أَنَّ «نَزَّاعَةً» صِفَةٌ لِلَظَى عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ كَوْنِهَا عَلَمًا، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهَا لِلْقِصَّةِ، وَيَكُونُ «لَظًى» مبتدأ، و «نزاعة» خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ «نَزَّاعَةً» بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَمْلُهُ على الحال بعيد لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا
يَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَعْنَى التَّلَظِّي، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالشَّوَى: الْأَطْرَافُ، أَوْ جَمْعُ شَوَاةٍ، وَهِيَ جِلْدَةُ الرَّأْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
قالت قتيلة ماله
…
قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: نَزَّاعَةً لِلشَّوى: أَيْ: لِمْكَارِمِ الْوَجْهِ وَحُسْنِهِ، وكذا قال أبو العالية وقتادة. وقال قتادة: تَبْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ الْعَظْمِ حَتَّى لَا تَتْرُكَ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْمَفَاصِلُ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هِيَ أَطْرَافُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ أَيْ: تَدْعُو لَظَى مَنْ أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَتَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ وَجَمَعَ فَأَوْعى أَيْ: جَمَعَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ في وعاء، وقيل: إِنَّهَا تَقُولُ إِلَيَّ يَا مُشْرِكُ، إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَدْعُو: تُهْلِكُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَاكَ اللَّهُ، أَيْ: أَهْلَكَكَ، وَقِيلَ:
لَيْسَ هُوَ الدُّعَاءُ بِاللِّسَانِ، وَلَكِنْ دُعَاؤُهَا إِيَّاهُمْ تَمَكُّنُهَا مِنْ عَذَابِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَأَسْنَدَ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ مَا هُوَ لِلْحَالِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ، وَلَا دُعَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشاعر:
ولقد هبطنا الواديين فواديا
…
يدعو الأنيس به العضيض الأبكم
والعضيض الأبكم: الذباب، وهو لا يدعو «1» .
وَفِي هَذَا ذَمٌّ لِمَنْ جَمَعَ الْمَالَ فَأَوْعَاهُ، وَكَنَزَهُ وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، أَوْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ قَالَ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الحارث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» وَفِي قَوْلِهِ: بِعَذابٍ واقِعٍ قَالَ: كَائِنٌ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ- مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ قَالَ: ذِي الدَّرَجَاتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
سَأَلَ سائِلٌ قَالَ: سَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذِي الْمَعارِجِ قَالَ: ذِي الْعُلُوِّ وَالْفَوَاضِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ فَوْقِ سبع سموات مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَ «يَوْمٍ كَانَ مقداره ألف سنة» قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ يَنْزِلُ الْأَمْرُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَمِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَذَلِكَ مِقْدَارُ أَلْفَ سَنَةٍ لَأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: غِلَظُ كُلِّ أَرْضٍ خَمْسُمِائَةُ عَامٍ، وَغِلَظُ كُلِّ سماء خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أَرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء
(1) . في القرطبي (18/ 289) : وإنما طنينه نبّه عليه فدعا إليه.
(2)
. الأنفال: 32.