الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِقَوْلِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُونَ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا عِلْمًا قَلِيلًا، وَهُوَ عِلْمُهُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: لَا يَفْقَهُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا فِقْهًا قَلِيلًا، وَهُوَ مَا يَصْنَعُونَهُ نِفَاقًا بِظَوَاهِرِهِمْ دُونَ بَوَاطِنِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُعَزِّرُوهُ يَعْنِي الْإِجْلَالَ وَتُوَقِّرُوهُ يَعْنِي التَّعْظِيمَ، يعني مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَتُعَزِّرُوهُ قَالَ: تَضْرِبُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:«لَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةُ وَتُعَزِّرُوهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا ذَاكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لِتَنْصُرُوهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَمَنْ وَفَى وَفَى اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» وَفِيهِمَا عَنْهُ أنهم كانوا أربعة عَشْرَةَ مِائَةً، وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَأَلَهُ كَمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ جَابِرًا قَالَ:
كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ رحمه الله: وَهِمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.
[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 24]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قَوْلُهُ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُمْ فَارِسُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ: هُمُ الرُّومُ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
هَوَازِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أَيْ: يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْمُقَاتَلَةُ، أَوِ الْإِسْلَامُ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَهَذَا حُكْمُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: أَوْ هُمْ يُسْلِمُونَ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ أَوْ يُسْلِمُوا أَيْ: حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَهُوَ الْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أَيْ: تُعْرِضُوا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ وَذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ فِي الدُّنْيَا وَبِعَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ لِتَضَاعُفِ جُرْمِكُمْ. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أَيْ: لَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ حَرَجٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَذَرَ اللَّهُ أَهْلَ الزَّمَانَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَرَجُ: الْإِثْمُ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَاهُ بِهِ وَنَهَيَاهُ عَنْهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُدْخِلْهُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ. وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الطَّاعَةِ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَذَابًا شَدِيدَ الْأَلَمِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا نِيَّاتِهِمْ وَشَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَقَالَ:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَيْ: رضي الله عنهم وَقْتَ تِلْكَ الْبَيْعَةِ، وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَالْعَامِلُ فِي «تَحْتَ» إِمَّا يُبَايِعُونَكَ، أَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقِيلَ: سِدْرَةٌ. وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا قُرَيْشًا وَلَا يَفِرُّوا. وَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ «1» عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَدَدِ أَهْلِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ قَرِيبًا، وَالْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يُبَايِعُونَكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الرضى بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعَةِ عَلَى الْمَوْتِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى رَضِيَ. وَالسَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ وَسُكُونُ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: الصَّبْرُ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ عِنْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وغير هما، وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها أَيْ: وَأَثَابَكُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، أَوْ: وَآتَاكُمْ، وَهِيَ غَنَائِمُ خَيْبَرَ، وَالِالْتِفَاتُ لِتَشْرِيفِهِمْ بِالْخِطَابِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ: غَالِبًا مُصْدِرًا أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ عَلَى أُسْلُوبِ الْحِكْمَةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فِي هَذَا وَعْدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَفْتَحُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الَّتِي قُدِّرَ وُقُوعُهَا فِيهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أَيْ: غَنَائِمَ خَيْبَرَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أَيْ: وَكَفَّ أَيْدِيَ قُرَيْشٍ عَنْكُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالصُّلْحِ، وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ أَهْلِ خَيْبَرَ وَأَنْصَارِهِمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الحديبية وخيبر،
(1) . في مسند أحمد (4/ 51) : فبايعوه.
وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: لِأَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يَعْنِي عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ، وَعَوْفَ بْنَ مَالِكٍ النَّضْرِيَّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، إذا جَاءُوا لِيَنْصُرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ عِنْدَ حِصَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بَعْدَهُ، أَيْ: فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنَ التَّعْجِيلِ وَالْكَفِّ لِتَكُونَ آيَةً، أَوْ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ تَقْدِيرُهَا: وَعَدَ فَعَجَّلَ وَكَفَّ لِتَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَلِتَكُونَ آيَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ مَزِيدَةٌ وَاللَّامُ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ أَيْ:
وَكَفَّ لِتَكُونَ وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْكَفُّ آيَةٌ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ: يَزِيدَكُمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ هُدًى، أَوْ يُثَبِّتَكُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها مَعْطُوفٌ عَلَى «هَذِهِ» ، أَيْ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ الْمَغَانِمَ، وَمَغَانِمَ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ الْفُتُوحُ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ كَفَارِسَ وَالرُّومِ وَنَحْوِهِمَا، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: هِيَ خَيْبَرُ وَعَدَهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَهَا وَلَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حُنَيْنٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأُخْرَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لَكُمْ حَتَّى تَفْتَحُوهَا وَتَأْخُذُوهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعَدَّهَا لَهُمْ وَجَعَلَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي قَدْ أُحِيطَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا فِي الْحَالِ فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ لَهُمْ لَا تَفُوتُهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَحَاطَ: عَلِمَ أَنَّهَا سَتَكُونُ لَهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا تَخْتَصُّ قُدْرَتُهُ بِبَعْضِ الْمَقْدُورَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ قَالَ قَتَادَةُ:
يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقِيلَ: أَسَدٌ وَغَطَفَانُ الَّذِينَ أَرَادُوا نَصْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يُوَالِيهِمْ عَلَى قِتَالِكُمْ وَلا نَصِيراً يَنْصُرُهُمْ عَلَيْكُمْ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: طَرِيقَتَهُ وَعَادَتَهُ الَّتِي قَدْ مَضَتْ فِي الْأُمَمِ مِنْ نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَانْتِصَابُ «سُنَّةَ» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَيَّنَ اللَّهُ سُنَّةَ اللَّهِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ:
لَنْ تَجِدَ لَهَا تَغْيِيرًا، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ ثَابِتَةٌ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أَيْ: كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءُوا يَصُدُّونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ: الْمُرَادُ بِبَطْنِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غرّة «1» النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم. وفي رواية اخْتِلَافٌ سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يَقُولُ: فَارِسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمُ الأكراد. وأخرج ابن مردويه عن
(1) . «الغرّة» : الغفلة. [.....]
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَارِسَ وَالرُّومَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: هَوَازِنَ وَبَنِي حَنِيفَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ- قَالَ السُّيُوطِيُّ- بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذْ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ لِي وَأَنَا ذَاهِبُ الْبَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الْآيَةَ. قَالَ هَذَا فِي الْجِهَادِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادٍ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ:«بَيْنَا نَحْنُ قَائِلُونَ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ القدس، فسرنا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةَ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعَ لِعُثْمَانَ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ها هنا، فقال رسول الله: لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حتى أطواف» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي «الْمُصَنَّفِ» عَنْ نَافِعٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا، فَأَمَرَ بِهَا. فَقُطِعَتْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَهُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
بَايَعْنَاهُ عَلَى ألّا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتِ السَّكِينَةُ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْوَفَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يَعْنِي الْفَتْحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يَعْنِي خَيْبَرَ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا حَرَمَ اللَّهِ، وَيُسْتَحَلَّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ قال: سنة من بَعْدَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَالَ: هَذِهِ الْفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ إِلَى الْيَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَالَ: هِيَ خَيْبَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ، هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ في السلاح من قبل جبال التَّنْعِيمِ يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأُخِذُوا فَعَفَا عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ أَسَرَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ:«أَنَّ ثَلَاثِينَ شَابًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السِّلَاحِ، فَثَارُوا فِي وُجُوهِهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ- وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: بِأَبْصَارِهِمْ- فَقَامَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ، أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: لَا، فخلّى سبيلهم، فنزلت هذه الآية» .