الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَخْشَوْنَ لَهُ عِقَابًا وَلَا تَرْجُونَ لَهُ ثَوَابًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نَاسًا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً لَيْسَ عَلَيْهِمْ أُزُرٌ، فَوَقَفَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وُجُوهُهُمَا قِبَلَ السَّمَاءِ وَأَقْفِيَتُهُمَا قِبَلَ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَقْرَأُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ آية مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ عبد الله ابن عُمَرَ قَالَ: تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ كَمَا تُضِيءُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْعَتَبِ فَتَعَاتَبَا فَذَهَبَ ذَلِكَ، فقال عبد الله بن عمرة لِكَعْبٍ: سَلْنِي عَمَّا شِئْتَ، فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكَ بِتَصْدِيقِ قَوْلِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَهُوَ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ كَمَا هُوَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قَالَ:
وَجْهُهُ فِي السَّمَاءِ إِلَى الْعَرْشِ وَقَفَاهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قال: خلق فيهنّ خَلَقَهُنَّ ضِيَاءً لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ مِنْ ضَوْئِهِ شَيْءٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا سُبُلًا فِجاجاً قَالَ: طُرُقًا مختلفة.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَاّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَاّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَاّ تَباراً (28)
قَوْلُهُ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أَيِ: استمرّوا على عصياني ولم يُجِيبُوا دَعْوَتِي، شَكَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وأخبره بأنهم عصوه ولم يَتَّبِعُوهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أَيِ: اتَّبَعَ الْأَصَاغِرُ رُؤَسَاءَهُمْ، وَأَهْلَ الثَّرْوَةِ مِنْهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَعَاصِمٌ «وَوَلَدُهُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمَعْنَى «وَاتَّبَعُوا» : أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ لَا أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا الِاتِّبَاعَ وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أَيْ: مَكْرًا كِبِيرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: كَبِيرٌ وَكُبَارٌ وَكُبَّارٌ، مِثْلُ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ، وَجَمِيلٍ وَجُمَالٍ وَجُمَّالٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كُبَّارًا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمِثْلُ كُبَّارًا:
قُرَّاءٌ لِكَثِيرِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
بَيْضَاءُ تَصْطَادُ الْقُلُوبَ وَتَسْتَبِي
…
بِالْحُسْنِ قَلْبَ الْمُسْلِمِ الْقُرَّاءِ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُبَّاراً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ جَمْعُ كَبِيرٍ كَأَنَّهُ جَعَلَ مَكْرًا مَكَانَ ذُنُوبٍ أَوْ أَفَاعِيلَ، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْجَمْعِ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَكْرِهِمْ هَذَا مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ تَحْرِيشُهُمْ سَفَلَتَهُمْ عَلَى قَتْلِ نُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَغْرِيرُهُمْ عَلَى النَّاسِ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى قَالَ الضَّعَفَةُ: لَوْلَا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أُوتُوا هَذِهِ النِّعَمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
هُوَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ قَوْلُ كُبَرَائِهِمْ لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَقِيلَ:
مَكْرُهُمْ: كُفْرُهُمْ وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا عِبَادَةَ آلِهَتِكُمْ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ وَالصُّوَرُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، ثُمَّ عَبَدَتْهَا الْعَرَبُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
أَيْ: لَا تَتْرُكُوا عِبَادَةَ هَذِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، فَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ كَانَ أَنْشَطَ لَكُمْ وَأَسْوَقَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ نَشَأَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَاعْبُدُوهُمْ، فَابْتِدَاءُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوهَا عَلَى صُورَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ أَسْمَاءً لِأَوْلَادِ آدَمَ، وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
فَأَمَّا وَدٌّ فَهُوَ أَوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ، سُمِّيَ وَدًّا لِوُدِّهِمْ لَهُ، وَكَانَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ، وَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
حَيَّاكَ وَدُّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لنا
…
لهو النّساء وإنّ الدّين قد عزما
وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَ لِهُذَيْلٍ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأَمَّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف مِنْ سَبَأٍ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لِمُرَادٍ ثُمَّ لِغَطَفَانَ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَ لِهَمْدَانَ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: كَانَ لِكَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، ثُمَّ تَوَارَثُوهُ حَتَّى صَارَ فِي هَمْدَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيُّ:
يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي
…
وَلَا يَبْرِي يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ
وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَ لِذِي الْكَلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَدًّا بِفَتْحِ الْوَاوِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّهَا. قَالَ اللَّيْثُ: وُدٌّ بِضَمِّ الْوَاوِ صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ، وَبِفَتْحِهَا صَنَمٌ كَانَ لِقَوْمِ نوح، وبه سمي عمور ابن وُدٍّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْوَدُّ بِالْفَتْحِ: الْوَتَدُ فِي لُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ، كَأَنَّهُمْ سَكَّنُوا التَّاءَ وَأَدْغَمُوهَا فِي الدَّالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ فَالْمَنْعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَا أعجميين فَلِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا بِالصَّرْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَذَلِكَ وَهْمٌ. وُوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ الْآلِهَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ أَصْنَامِهِمْ وَأَعْظَمَهَا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أَيْ: أَضَلَّ كُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْنَامِ،
أَيْ: ضَلَّ بِسَبَبِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا أَنَّهَا تَعْقِلُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا مَعْطُوفٌ عَلَى رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «قَدْ أَضَلُّوا» ، وَمَعْنَى «إِلَّا ضَلَالًا» : إِلَّا عَذَابًا، كَذَا قَالَ ابْنُ بَحْرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «2» ، وَقِيلَ: إِلَّا خُسْرَانًا، وَقِيلَ: إِلَّا فِتْنَةً بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَقِيلَ: الضَّيَاعُ، وَقِيلَ: ضَلَالًا فِي مَكْرِهِمْ. مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «مَا» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ، أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا أُغْرِقُوا بِالطُّوفَانِ فَأُدْخِلُوا نَارًا عَقِبَ ذَلِكَ، وَهِيَ نَارُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَطِيئاتِهِمْ عَلَى جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: خَطاياهُمْ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ «خَطِيئَتِهِمْ» عَلَى الْإِفْرَادِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: عُذِّبُوا بِالنَّارِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْغَرَقِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانُوا يَغْرَقُونَ فِي جَانَبٍ وَيَحْتَرِقُونَ فِي جَانِبٍ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُغْرِقُوا مِنْ أَغْرَقَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ غُرِّقُوا بِالتَّشْدِيدِ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أَيْ: لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَيَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً مَعْطُوفٌ عَلَى قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي لَمَّا أَيِسَ نُوحٌ عليه السلام مِنْ إِيمَانِهِمْ وَإِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. قَالَ قَتَادَةُ: دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَغْرَقَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَطِيَّةُ:
إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ النِّسَاءِ وَأَصْلَابَ الْآبَاءِ قَبْلَ الْعَذَابِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَقْتَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيةَ: لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَطْفَالَهُمْ مَعَهُمْ كَانَ عَذَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ وَعَدْلًا فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَهْلَكَ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ بِغَيْرِ عَذَابٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَعْنَى «دَيَّارًا» : مَنْ يَسْكُنُ الدِّيَارَ، وَأَصْلُهُ دَيْوَارٌ عَلَى فَيْعَالٍ، مِنْ دَارَ يَدُورُ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، مِثْلَ القيّام أصله قيوام، وقال القتبيّ: أَصْلُهُ مِنَ الدَّارِ أَيْ نَازِلٌ بِالدَّارِ، يُقَالُ: مَا بِالدَّارِ دَيَّارٌ، أَيْ: أَحَدٌ، وَقِيلَ: الدَّيَّارُ: صَاحِبُ الدِّيَارِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَدَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَهْلَكْتَهُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ إِنْ تَتْرُكْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ يُضِلُّوا عِبَادَكَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أَيْ: إِلَّا فَاجِرًا بِتَرْكِ طَاعَتِكَ كَفَّارًا لِنِعْمَتِكَ، أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ لَهَا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ سَيَفْجُرُ وَيَكْفُرُ. ثُمَّ لَمَّا دَعَا عَلَى الْكَافِرِينَ أَتْبَعَهُ بِالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ، وَأَبُوهُ: لَامَكُ بن متوشلخ كما تقدّم، وأمه شمخى بِنْتُ أَنُوَشَ، وَقِيلَ:
أَرَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ أَبَاهُ وَجَدَّهُ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلِوالِدَيَّ بِكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي مَسْجِدَهُ، وَقِيلَ: مَنْزِلَهُ الَّذِي هُوَ
(1) . إبراهيم: 36.
(2)
. القمر: 47.
سَاكِنٌ فِيهِ، وَقِيلَ: سَفِينَتَهُ، وَقِيلَ: لِمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ، وَانْتِصَابُ مُؤْمِناً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَيَخْرُجُ من دخله غير متصف بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَامْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ الَّذِي قَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ. ثُمَّ عَمَّمَ الدَّعْوَةَ، فَقَالَ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أَيْ: وَاغْفِرْ لِكُلِّ مُتَّصِفٍ بِالْإِيمَانِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أَيْ:
لَا تَزِدِ الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ إِلَّا هَلَاكًا وَخُسْرَانًا وَدَمَارًا، وَقَدْ شَمِلَ دُعَاؤُهُ هَذَا كُلَّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا شَمِلَ دُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قَالَ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ:
صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ. أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لَبَنِي غُطَيْفٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهِ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِخَ الْعِلْمُ فَعُبِدَتْ.