الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الانشقاق
وهي ثلاث وعشرون آية، وقيل خمس وعشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الِانْشِقَاقِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَنَحْوَهَا» .
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ هُوَ كَقَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «1» فِي إِضْمَارِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى انْشِقَاقُهَا: انْفِطَارُهَا بِالْغَمَامِ الْأَبْيَضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «2» وَقِيلَ: تَنْشَقُّ مِنَ الْمَجَرَّةِ، وَالْمَجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ إِذَا، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ أَذِنَتْ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ أَلْقَتْ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا مَعَ حَتَّى إِذَا كَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» وَمَعَ لَمَّا كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «4» وَلَا تُقْحَمُ مَعَ غَيْرِ هَذَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ الجواب
(1) . التكوير: 1.
(2)
. الفرقان: 25.
(3)
. الزمر: 73. [.....]
(4)
. الصافات: 103- 104.
قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ أَيْ: فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، أَيْ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدَ أَيْضًا: إِنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَحُكْمُهُ كَذَا، وَقِيلَ: هُوَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بُعِثْتُمْ، أَوْ لَاقَى كُلُّ إِنْسَانٍ عَمَلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، أَيْ: عَلِمَتْ نَفْسٌ هَذَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ إِذَا شَرْطِيَّةٌ، وَقِيلَ:
لَيْسَتْ بِشَرْطِيَّةٍ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ، أَوْ هِيَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا إِذَا الثَّانِيَةُ وَالْوَاوُ مَزِيدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقْتُ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أَنَّهَا أَطَاعَتْهُ فِي الِانْشِقَاقِ، مِنَ الْإِذْنِ، وَهُوَ: الِاسْتِمَاعُ لِلشَّيْءِ وَالْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ وَحُقَّتْ أَيْ: وَحَقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَتَنْقَادَ وَتَسْمَعَ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْإِذْنِ فِي الِاسْتِمَاعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ
…
وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا
…
مِنِّي وَمَا أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دُفِنُوا
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَحَقَّقَ اللَّهُ عَلَيْهَا الِاسْتِمَاعَ لِأَمْرِهِ بِالِانْشِقَاقِ، أَيْ: جَعَلَهَا حَقِيقَةً بِذَلِكَ. قَالَ الضَّحَّاكُ:
حَقَّتْ: أَطَاعَتْ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا لِأَنَّهُ خَلَقَهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، وَمَعْنَى طَاعَتُهَا: أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: حَقَّ لَهَا أَنَّ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلٌ كُثَيِّرٌ:
فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا
…
وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتِ
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أَيْ: بُسِطَتْ كَمَا تُبْسَطُ الْأُدْمُ وَدُكَّتْ جِبَالُهَا حَتَّى صَارَتْ قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: سُوِّيَتْ كَمَدِّ الْأَدِيمِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، وَقِيلَ:
مُدَّتْ: زِيدَ فِي سِعَتِهَا، مِنَ الْمَدَدِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَأَلْقَتْ مَا فِيها أَيْ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ وَطَرَحَتْهُمْ إِلَى ظَهْرِهَا وَتَخَلَّتْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «1» وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أَيْ:
سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ لِمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ الْإِلْقَاءِ وَالتَّخَلِّي وَحُقَّتْ أَيْ: وَجُعِلَتْ حَقِيقَةً بِالِاسْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ قَبْلَ هَذَا يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ الْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي مِنَ التَّفْصِيلِ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً الْكَدْحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: السَّعْيُ فِي الشَّيْءِ بِجُهْدٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَالْمَعْنَى:
(1) . الزلزلة: 2.
أَنَّكَ سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ فِي عَمَلِكَ، أَوْ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا
…
أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: عَامِلٌ لِرَبِّكَ عَمَلًا فَمُلاقِيهِ أَيْ: فَمُلَاقٍ عَمَلَكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ مُلَاقٍ لِجَزَاءِ عَمَلِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عليه من الثواب والعقاب. قال القتبي: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّكَ كَادِحٌ، أَيْ:
عَامِلٌ نَاصِبٌ فِي مَعِيشَتِكَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، وَالْمُلَاقَاةُ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ، أَيْ: تَلْقَى رَبَّكَ بِعَمَلِكَ، وَقِيلَ: فَمُلَاقٍ كِتَابَ عَمَلِكَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدِ انْقَضَى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً لَا مُنَاقَشَةَ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّهَا تُغْفَرُ ذُنُوبُهُ وَلَا يُحَاسَبُ بِهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ ثُمَّ يَغْفِرُهَا اللَّهُ، فَهُوَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ: وَيَنْصَرِفُ بَعْدَ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، أَوْ إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَقَدْ سَبَقُوهُ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى مَنْ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ هَؤُلَاءِ مَسْرُورًا مُبْتَهِجًا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ، وَتَكُونُ يَدُهُ الْيُسْرَى خَلْفَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: تُفَكُّ أَلْوَاحُ صَدْرِهِ وَعِظَامُهُ، ثُمَّ تَدْخُلُ يَدُهُ وَتَخْرُجُ مِنْ ظهره فيأخذ كتابه كذلك فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أَيْ: إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ قَالَ: يَا وَيْلَاهُ! يَا ثُبُورَاهُ! وَالثُّبُورُ:
الْهَلَاكُ وَيَصْلى سَعِيراً أَيْ: يَدْخُلُهَا وَيُقَاسِي حَرَّ نَارِهَا وَشِدَّتَهَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا، وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَكَذَلِكَ خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَكَذَلِكَ رَوَى إِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ قرءوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ مِنْ أَصْلَى يُصْلِي إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ فِي الدُّنْيَا مَسْرُورًا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وركوب شهوته بطرا أشرا لعدم حضور الْآخِرَةِ بِبَالِهِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ السُّرُورِ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُبْعَثُ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ لِتَكْذِيبِهِ بِالْبَعْثِ وَجَحْدِهِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَحُورَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ سَادَّةٌ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَّ، وَالْحَوْرُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، يُقَالُ: حَارَ يَحُورُ إِذَا رَجَعَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ:
الْحَوْرُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ، وَمِنْهُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، أَيْ: مِنَ التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْمُضِيِّ فِيهِ، وَمُحَاوَرَةُ الْكَلَامِ مُرَاجَعَتُهُ، وَالْمَحَارُ: الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: يَحُورُ كَلِمَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَمَعْنَاهَا يَرْجِعُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الرُّجُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» يَعْنِي مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى النُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ بِالضَّمِّ، وَفِي الْمَثَلِ:«حُورٌ فِي محارة» أَيُّ: نُقْصَانٌ فِي نُقْصَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
والذّمّ يبقى وزاد القوم في حور «2»
(1) . هو سبيع بن الخطيم.
(2)
. وصدر البيت: واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا.
وَالْحُورُ أَيْضًا الْهَلَكَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1» :
فِي بئر لا حور سرى وَمَا شَعَرَ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ فِي بِئْرِ حُورٍ، وَلَا زَائِدَةٌ بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً «بَلَى» إِيجَابٌ لِلْمَنْفِيِّ بِلَنْ، أَيْ: بَلَى لَيَحُورَنَّ وَلَيُبْعَثَنَّ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أَيْ: كَانَ بِهِ وَبِأَعْمَالِهِ عَالِمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ بِهِ بَصِيرًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ «لَا» زَائِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَالشَّفَقُ:
الْحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ جَمِيعًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ عمرو وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ الْبَيَاضُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُ لَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا مِنَ الشَّرْعِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الشَّفَقُ:
الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. قال في الصحاح: الشفق: بقية ضوء الشَّمْسِ وَحُمْرَتُهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى قَرِيبِ الْعَتَمَةِ، وَكُتُبُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مُطْبِقَةٌ عَلَى هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّي غَيْرَ مُرْتَبِكٍ
…
عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ
وقال آخر:
وأحمر اللّون كمحمرّ الشَّفَقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّفَقُ: النَّهَارُ كُلُّهُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا قَالَا هَذَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ: الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وروي عن أسد بن عمرو الرُّجُوعُ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ الْوَسَقُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، يُقَالُ: اسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَالرَّاعِي يَسِقُهَا، أَيْ: يَجْمَعُهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ وَحَوَى وَلَفَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ مُنْتَشِرًا بِالنَّهَارِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ آوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ضَابِئِ بْنِ الحارث البرجميّ:
فإنّي وإيّاكم وشوقا إِلَيْكُمْ
…
كَقَابِضٍ شَيْئًا لَمْ تَنَلْهُ أَنَامِلُهُ «2»
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا سَاقَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى حَيْثُ يَأْوِي، فَجَعَلَهُ مِنَ السَّوْقِ لَا مِنَ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا جَنَّ وَسَتَرَ، وَقِيلَ:«وَمَا وَسَقَ» أَيْ: وما حمل، وكل شيء حملته فقد
(1) . هو العجاج.
(2)
. في تفسير القرطبي: كقابض ماء لم تسقه أنامله.
وَسَقْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا أَحْمِلُهُ مَا وَسَقَتْ عَيْنِي الْمَاءَ، أَيْ: حَمَلَتْهُ، وَوَسَقَتِ النَّاقَةُ تَسِقُ وَسْقًا، أَيْ:
حَمَلَتْ. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَما وَسَقَ: وَمَا حَمَلَ مِنَ الظُّلْمَةِ، أَوْ حَمَلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَعْنَى حَمَلَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَاللَّيْلُ يَحْمِلُ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا عُمِلَ فِيهِ مِنَ التَّهَجُّدِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي: اجتمع وتكامل. وقال الْفَرَّاءُ: اتِّسَاقُهُ امْتِلَاؤُهُ وَاجْتِمَاعُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْلَةَ ثَالِثَ عَشَرَ وَرَابِعَ عَشَرَ إِلَى سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَدِ افْتَعَلَ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ. قَالَ الْحَسَنُ: اتَّسَقَ: امْتَلَأَ وَاجْتَمَعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَدَارَ، يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ، كَمَا يُقَالُ: وَصَلْتُهُ فَاتَّصَلَ، وَيُقَالُ: أَمْرُ فُلَانٍ مُتَّسِقٌ، أَيُّ: مُجْتَمِعٌ مُنْتَظِمٌ، وَيُقَالُ:
اتَّسَقَ الشَّيْءُ إِذَا تَتَابَعَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَتَرْكَبُنَّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَسْرُوقٍ وَأَبِي وَائِلٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ خِطَابًا لِلْجَمْعِ وَهُمُ النَّاسُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي تَصْعَدُ فِيهَا، وَهَذَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ، فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَتَرْكَبَنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كُلُّ حَالَةٍ مِنْهَا مُطَابِقَةٌ لِأُخْتِهَا فِي الشِّدَّةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ كَوْنِكَ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ قَالَا: لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَرَأَ عُمَرُ «لَيَرْكَبُنَّ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَرَآ بِالْغَيْبَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ، وَرُوِيَ عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قَرَآ بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّفْسِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَيَرْكَبَنَّ الْقَمَرُ أَحْوَالًا مِنْ سِرَارٍ وَاسْتِهْلَالٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَعْنِي الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شَابٌّ ثُمَّ شَيْخٌ.
وَمَحَلُّ عَنْ طبق النصب على أنه صفة لطبقا أَيْ طَبَقًا مُجَاوِزًا لِطَبَقٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَتَرْكَبُنَّ، أَيْ:
مُجَاوِزِينَ، أَوْ مُجَاوِزًا فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ لِلْكُفَّارِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ وُجُودِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَجَوَابُهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ لَهُمْ حَالَ عَدَمِ سُجُودِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَا لَهُمْ لَا يُصَلُّونَ؟ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
الْمُرَادُ الْخُضُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ عِنْدَ التِّلَاوَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الدَّلِيلُ عَلَى السُّجُودِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أَيْ: يُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ
وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أَيْ: بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَجْمَعُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِي يُجْمَعُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْخَيْرُ أَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
…
وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ
وَيُقَالُ: وَعَاهُ: حَفِظَهُ، وَوَعَيْتُ الْحَدِيثَ أَعِيهِ وَعْيًا، وَمِنْهُ: أُذُنٌ واعِيَةٌ
. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيِ: اجْعَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبِشَارَةِ لَهُمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مُوجِبٌ لِتَعْذِيبِهِمْ، وَالْأَلِيمُ: الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرَ مَمْنُونٍ، أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، يُقَالُ: مَنَّنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ
…
عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَنِينُ: الْغُبَارُ لأنها تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا، وَكُلُّ ضَعِيفٍ مَنِينٌ وَمَمْنُونٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى غَيْرُ مَمْنُونٍ أَنَّهُ لَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا إِنْ أُرِيدَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ قَالَ: تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قَالَ: سَمِعَتْ حِينَ كَلَّمَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قَالَ: أَطَاعَتْ وَحُقَّتْ بِالطَّاعَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ قَالَ: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَلْقَتْ مَا فِيها قَالَ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَأَلْقَتْ مَا فِيها قَالَ: سِوَارِي الذَّهَبِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدَّ الْأَدِيمِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لِابْنِ آدَمَ فِيهَا إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً قَالَ: عَامِلٌ عَمَلًا فَمُلاقِيهِ قَالَ: فَمُلَاقٍ عَمَلَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟
قَالَ: أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ
بِرَحْمَتِهِ: تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يَدْعُوا ثُبُوراً قَالَ: الْوَيْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ قَالَ: يُبْعَثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنْ لَنْ يَحُورَ قَالَ: أَنْ لَنْ يَرْجِعَ. وَأَخْرَجَ سَمَّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الشَّفَقُ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا دَخَلَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا جَمَعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ: إِذَا اسْتَوَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا جَمَعَ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ:
إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا نَقَانِقًا
…
مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ: لَيْلَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عن عمر ابن الخطاب لَتَرْكَبُنَّ قال: حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقِرَاءَاتِ وَسَعِيدُ بن منصور وابن منيع وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَعْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ تَرْكَبَنَّ. وَقَالَ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَتَرْكَبُنَّ يَا مُحَمَّدُ السَّمَاءَ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَتَرْكَبُنَّ يَعْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: يَعْنِي السَّمَاءُ تَنْفَطِرُ، ثُمَّ تَنْشَقُّ، ثُمَّ تَحْمَرُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّمَاءُ تَكُونُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وَتَكُونُ وَاهِيَةً، وَتُشَقَّقُ فَتَكُونُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ قال: يسرّون.