الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحجرات
هي ثماني عشرة آية وهي مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُقَدِّمُوا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مَكْسُورَةً. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَوْ تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِلْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَازِمٌ نحو وجه توجه، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَيَعْقُوبَ «تَقَدَّمُوا» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَالدَّالِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَدَّمَ ها هنا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَهُوَ لَازِمٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ، أَيْ: لَا تُعَجِّلْ بِالْأَمْرِ دُونَهُ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَقَدَّمُوا قَبْلَ أمر هما وَنَهْيِهِمَا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِمَامِ لَا مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَقْطَعُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْنَى بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ: بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّ مَا يَحْضُرُهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي كُلِّ أُمُورِكُمْ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا التَّرْكُ لِلتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. ثُمَّ عَلَّلَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الِاحْتِشَامِ وَتَرْكِ الِاحْتِرَامِ لِأَنَّ خَفْضَ الصَّوْتِ وَعَدَمَ رَفْعِهِ مِنْ لَوَازِمِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَنْعَ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَمَزِيدِ اللَّغَطِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ فَوْقَ مَا يَبْلُغُهُ صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَعْظِيمُ النبي صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرُهُ وَأَنْ لَا يُنَادُوهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَيْ: لَا تَجْهَرُوا بِالْقَوْلِ إِذَا كَلَّمْتُمُوهُ، كَمَا تَعْتَادُونَهُ مِنَ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَلَّمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ بتبجيل نَبِيِّهِ وَأَنْ يَغُضُّوا أَصْوَاتَهُمْ وَيُخَاطِبُوهُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ لَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، وَيَا أَحْمَدُ، وَلَكِنْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَا رَسُولَ اللَّهِ، تَوْقِيرًا لَهُ، وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَهْرًا مِثْلَ جَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَبِالْجَهْرِ فِي الْقَوْلِ هُوَ مَا يَقَعُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِمَا يَقَعُ فِي مَوَاقِفِ مَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَتَوْقِيرُهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّهْيَ هُنَا وَقَعَ عَنْ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَا لَا يَأْذَنُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ الْبَالِغِ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ فَوْقَ صَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي خِطَابِهِ أَوْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: تَرْكُ الْجَفَاءِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَلُزُومُ الْأَدَبِ فِي مُجَاوَرَتِهِ لِأَنَّ الْمُقَاوَلَةَ الْمَجْهُورَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْأَكْفَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ تُوجِبُ احْتِرَامَهُ وَتَوْقِيرَهُ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ:
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ» التَّقْدِيرُ لِأَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، أَيْ: فَتَحْبَطَ، فَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ لَامُ الصَّيْرُورَةِ كَذَا قَالَ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلنَّهْيِ، أَيْ: نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الْجَهْرِ خَشْيَةَ أَنْ تَحْبَطَ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ، أَوْ عِلَّةً لِلْمَنْهِيِّ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا الْجَهْرَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْحُبُوطِ، فَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَفِيهِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ يُوجِبُ أَنْ يَكْفُرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَكَمَا لَا يَكُونُ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْكَافِرُ كَافِرًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَصْلُ الْغَضِّ النَّقْصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ نَقْصُ الصَّوْتِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قَالَ الْفَرَّاءُ:
أَخْلَصَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى كَمَا يُمْتَحَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، فَيَخْرُجُ جَيِّدُهُ مِنْ رَدِيئِهِ وَيَسْقُطُ خَبِيثُهُ. وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اخْتَصَّهَا لِلتَّقْوَى، وَقِيلَ: طَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ قبيح، وقيل: وسّعها وسرّحها، من منحت الأديم إذا أوسعته. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: كُلُّ شَيْءٍ جَهَدْتَهُ فَقَدْ مَحَنْتَهُ، وَاللَّامُ فِي «لِلتَّقْوَى» مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: صَالِحَةٌ لِلتَّقْوَى، كَقَوْلِكَ: أَنْتَ صَالِحٌ لِكَذَا، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ الْجَارِي مَجْرَى بَيَانِ السَّبَبِ، كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، أَيْ: لِيَكُونَ مَجِيئِي سَبَبًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ:
أُولَئِكَ لَهُمْ، فَهُوَ خَبَرٌ آخَرُ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لِبَيَانٍ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هُمْ جُفَاةُ بني تميم كما سيأتي بيانه، ووراء الْحُجُرَاتِ.
خَارِجَهَا وَخَلْفَهَا، وَالْحُجُرَاتُ: جَمْعُ حُجْرَةٍ، كَالْغُرُفَاتِ جَمْعُ غُرْفَةٍ، وَالظُّلُمَاتِ: جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَقِيلَ:
الْحُجُرَاتُ جَمْعُ حُجَرٍ، وَالْحُجَرُ جَمْعُ حُجْرَةٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْحُجْرَةُ: الرُّقْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَحْجُورَةُ بِحَائِطٍ يحوّط عليها، وهي فعلة بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُجُرَاتِ بِضَمِّ الْجِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ
بِفَتْحِهَا تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا، وهي لغات، ومِنْ فِي مِنْ وَراءِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ جَعْلِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ الْجَفَاءِ فِي طِبَاعِهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَيْ: لَوِ انْتَظَرُوا خُرُوجَكَ، وَلَمْ يُعَجِّلُوا بِالْمُنَادَاةِ، لَكَانَ أَصْلَحَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرِعَايَةِ جَانِبِهِ الشَّرِيفِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ من التعظيم والتبجيل. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا شُفَعَاءَ فِي أُسَارَى، فَأَعْتَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نِصْفَهُمْ وَفَادَى نِصْفَهُمْ، وَلَوْ صَبَرُوا لَأَعْتَقَ الْجَمِيعَ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ مُقَاتِلٌ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلِيغُهُمَا، لَا يُؤَاخِذُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِيمَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَبَيَّنُوا مِنَ التَّبَيُّنِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:«فَتَثَبَّتُوا» مِنَ التَّثَبُّتِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّبَيُّنِ التَّعَرُّفُ وَالتَّفَحُّصُ، وَمِنَ التَّثَبُّتِ: الْأَنَاةُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ، وَالتَّبَصُّرُ فِي الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْخَبَرِ الْوَارِدِ حَتَّى يَتَّضِحَ وَيَظْهَرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا، أَوْ لِئَلَّا تُصِيبُوا لِأَنَّ الْخَطَأَ مِمَّنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْأَمْرَ وَلَمْ يَتَثَبَّتْ فِيهِ هُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ جَهَالَةٌ، لِأَنَّهُ لم يصدر عن علم، والمعنى:
متلبسين بِجَهَالَةٍ بِحَالِهِمْ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ بِهِمْ مِنْ إِصَابَتِهِمْ بِالْخَطَأِ نادِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مُغْتَمِّينَ لَهُ مُهْتَمِّينَ بِهِ. ثُمَّ وَعَظَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا تَقُولُوا قَوْلًا بَاطِلًا وَلَا تَتَسَرَّعُوا عِنْدَ وُصُولِ الْخَبَرِ إِلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِ تَبَيُّنٍ، وَ «أَنَّ» وَمَا فِي حَيِّزِهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ «اعْلَمُوا» ، وَجُمْلَةُ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فِيكُمْ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى:
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا تُخْبِرُونَهُ بِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْبَاطِلَةِ، وَتُشِيرُونَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصَوَابٍ لَوَقَعْتُمْ فِي الْعَنَتِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَالْجَهْدُ، وَالْإِثْمُ، وَالْهَلَاكُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُطِيعُكُمْ فِي غَالِبِ مَا تُرِيدُونَ قَبْلَ وُضُوحِ وَجْهِهِ لَهُ، وَلَا يُسَارِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا يَبْلُغُهُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيهِ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أَيْ: جَعَلَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكُمْ، أَوْ مَحْبُوبًا لَدَيْكُمْ، فَلَا يَقَعُ مِنْكُمْ إِلَّا مَا يُوَافِقُهُ وَيَقْتَضِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ، وَتَرْكِ التَّسَرُّعِ فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدَمِ التَّثَبُّتِ فِيهَا، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ عَدَا الْأَوَّلِينَ لِبَيَانِ بَرَاءَتِهِمْ عَنْ أَوْصَافِ الْأَوَّلِينَ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ تَذْكِيرٌ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ وَتُوجِبُهُ مَحَبَّتُهُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: حَسَّنَهُ بِتَوْفِيقِهِ حَتَّى جَرَوْا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أَيْ:
جَعَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفُسُوقِ وَمِنْ جِنْسِ الْعِصْيَانِ مَكْرُوهًا عِنْدَكُمْ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الخروج على الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانُ جِنْسُ مَا يُعْصَى اللَّهُ بِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْكَذِبَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمُ الرَّاشِدُونَ. وَالرُّشْدُ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ، مِنَ الرَّشَادَةِ: وَهِيَ الصَّخْرَةُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أَيْ: لِأَجْلِ فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَالْمَعْنَى: أنه حبّب إليكم ما حبّب، وكرّه لِأَجْلِ فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ، أَوْ جَعَلَكُمْ رَاشِدِينَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ: أَيْ تَبْتَغُونَ فَضْلًا وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ ويقدّره لهم.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تميم عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أصواتهما، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: نُهُوا أَنْ يتكلموا بين يدي كلامه. وأخرج عَنْ عَائِشَةَ فِي الْآيَةِ قَالَتْ: لَا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أُنَاسٌ يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ يَعْنِي يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا أَيْضًا: أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الشَّهْرَ فيصومون قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قال: أنزلت هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ، وَفِي إِسْنَادِهِ حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى الله. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس قال: «لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ حَزِينًا، فَفَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ فَقَالُوا: فَقَدَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَكَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَأَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ، حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ قتل. وفي الباب أحاديث بمعناه.
أخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الْآيَةَ: قَالَ:
نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى: «مِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ: