الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغير هما عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا. فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حَتَّى بَلَغَ فَوْزاً عَظِيماً» .
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 15]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَاّ قَلِيلاً (15)
قَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَيْ: عَلَى أُمَّتِكَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ لِلْمُطِيعِينَ وَنَذِيراً لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتُؤْمِنُوا بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأُمَّتِهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَانْتِصَابُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَفْعَالِ كَالْخِلَافِ فِي لِتُؤْمِنُوا كما سلف، ومعنى تعزّروه: تعظّموه وتفخّموه قال الحسن والكلبي، والعزيز: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ. وقال عكرمة: تقاتلون مَعَهُ بِالسَّيْفِ، وَمَعْنَى تُوَقِّرُوهُ: تُعَظِّمُوهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تسوّدوه، وقيل: وَالضَّمِيرَانِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُنَا وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ وَتُسَبِّحُوهُ، أَيْ: تُسَبِّحُوا اللَّهَ عز وجل بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَقِيلَ: الضَّمَائِرُ كُلُّهَا فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ عز وجل، فَيَكُونُ مَعْنَى تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ: تُثْبِتُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَتَنْفُونَ عَنْهُ الشُّرَكَاءَ، وَقِيلَ: تَنْصُرُوا دِينَهُ وَتُجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ. وفي التسبيح وجهان، أحد هما التَّنْزِيهُ لَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَالثَّانِي الصَّلَاةُ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُمْ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم هِيَ بَيْعَةٌ لَهُ،
كَمَا قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيلِ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَقْدَ الْمِيثَاقِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَعَقْدِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى: إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْهِدَايَةِ فَوْقَ مَا صَنَعُوا مِنَ الْبَيْعَةِ. وَقِيلَ: يَدُهُ فِي الثَّوَابِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الْوَفَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قُوَّةُ اللَّهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أَيْ: فَمَنْ نَقَضَ مَا عَقَدَ مِنَ الْبَيْعَةِ فَإِنَّمَا يَنْقُضُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لَا يُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ أَيْ:
ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور: فَسَيُؤْتِيهِ بالتحتية، وقرأ نافع وابن كَثِيرٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ الْفَرَّاءُ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ هُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِهِ حِينَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَعْرَابَ غِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَالدُّئِلِ، وَهُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ.
وَقِيلَ: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَافَرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَالْمُخَلَّفُ: الْمَتْرُوكُ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أَيْ: مَنَعَنَا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ مَا لَنَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، وَلَيْسَ لَنَا مَنْ يَقُومُ بِهِمْ وَيَخْلُفُنَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَغْفِرْ لَنا لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَنَا مَا وَقَعَ مِنَّا مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْكَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنِ اعْتِقَادٍ بَلْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَكَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ مُخَالِفَةً لِظَوَاهِرِهِمْ فَضَحَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: فَمَنْ يَمْنَعُكُمْ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَيْ: إِنْزَالَ مَا يَضُرُّكُمْ مِنْ ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ وَهَلَاكِ الْأَهْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضَرًّا بِفَتْحِ الضَّادِ، وَهُوَ مَصْدَرُ ضَرَرْتُهُ ضَرًّا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَهُوَ اسْمُ مَا يَضُرُّ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أَيْ: نَصْرًا وَغَنِيمَةً، وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدفع عنه الضَّرَّ، وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ، ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ: إِنَّ تَخَلُّفَكُمْ لَيْسَ لِمَا زَعَمْتُمْ، بَلْ كَانَ اللَّهُ خَبِيرًا بِجَمِيعِ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَخَلُّفُكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَخَلُّفَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ، بَلْ لِلشَّكِّ وَالنِّفَاقِ وَمَا خَطَرَ لَكُمْ مِنَ الظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْهَامِ، أَيْ:
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَأْصِلُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَرَّةِ فَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى أَهْلِهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تخلفتم لا لما ذكرتم من
(1) . النساء: 80.
الْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ الظَّنَّ فِي قُلُوبِكُمْ فَقَبِلْتُمُوهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَزُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَهَذَا الظَّنُّ إِمَّا هُوَ الظَّنُّ الْأَوَّلُ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَيَدْخُلُ الظَّنُّ الْأَوَّلُ تَحْتَهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أَيْ: هَلْكَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَالِكِينَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبُورُ: الرَّجُلُ الْفَاسِدُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْماً بُوراً هَلْكَى، وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ، مِثْلُ حَائِلٍ وَحُولٍ، وَقَدْ بَارَ فُلَانٌ، أَيْ: هَلَكَ، وَأَبَارَهُ اللَّهُ: أَهْلَكَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمَا كَمَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ، فَجَزَاؤُهُمْ مَا أعدّه الله لهم مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِمَا تَعَبَّدَهُمْ لِيُثِيبَ مَنْ أَحْسَنَ وَيُعَاقِبَ مَنْ أَسَاءَ، وَلِهَذَا قَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بَلِيغَهَا، يَخُصُّ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها الْمُخَلَّفُونَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ سَيَقُولُ وَالْمَعْنَى:
سَيَقُولُونَ عِنْدَ انْطِلَاقِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ إِلى مَغانِمَ يَعْنِي مَغَانِمَ خَيْبَرَ لِتَأْخُذُوها لِتَحُوزُوهَا ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أَيِ: اتْرُكُونَا نَتَّبِعْكُمْ وَنَشْهَدْ مَعَكُمْ غَزْوَةَ خَيْبَرَ. وَأَصْلُ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فَتْحَ خَيْبَرَ، وَخَصَّ بِغَنَائِمِهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْطَلَقُوا إِلَيْهَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أَيْ: يُغَيِّرُوا كَلَامَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يُبَدِّلُوهُ هُوَ مَوَاعِيدُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
يَعْنِي أَمْرَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ أَنْ لَا يَسِيرَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «2» واعترض على هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:
كَلامَ اللَّهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «كَلْمَ اللَّهِ» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَلَامُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، والكلام لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَلْمَةٍ، مِثْلُ نَبْقَةٍ وَنَبْقٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ فَقَالَ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا هَذَا النَّفْيُ هُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ رُجُوعِنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ خَاصَّةً لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَسَيَقُولُونَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:«لَنْ تَتَّبِعُونا» بَلْ تَحْسُدُونَنا أَيْ: بَلْ مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ خُرُوجِنَا مَعَكُمْ إِلَّا الْحَسَدُ لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك
(1) . الأنبياء: 23.
(2)
. التوبة: 83.