الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، الْيَوْمُ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ قَالَ: نَاظِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ قَالَ: كَثِيرٌ، لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا مِنَ السَّحَابِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ ذلك اليوم، فالتقى الماءان. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قَالَ: الْأَلْوَاحُ: أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَالدَّسُرُ: مَعَارِيضُهَا الَّتِي تُشَدُّ بِهَا السَّفِينَةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَدُسُرٍ قَالَ: الْمَسَامِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الدَّسْرُ: كَلْكَلُ السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِ الْآدَمِيِّينَ مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَالَ: هَلْ مِنْ متذكّر.
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 40]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَاّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ عادٌ هُمْ قَوْمُ عَادٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أَيْ: فَاسْمَعُوا كَيْفَ كَانَ عَذَابِي لَهُمْ وَإِنْذَارِي إِيَّاهُمْ، وَ «نُذُرِ» مَصْدَرٌ بِمَعْنَى إِنْذَارٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا أَجْمَلَهُ سَابِقًا مِنَ العذاب، والصرصر: شدة البرد، أي: ريح شَدِيدَةَ الْبَرْدِ، وَقِيلَ: الصَّرْصَرُ: شِدَّةُ الصَّوْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أَيْ: دَائِمِ الشُّؤْمِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِنُحُوسِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ:
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فِي يَوْمِ نَحْسٍ» بِإِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى نَحْسٍ مَعَ سُكُونِ الْحَاءِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: فِي يَوْمِ عَذَابِ نَحْسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَنْوِينِ يَوْمٍ عَلَى أَنَّ نَحْسٍ صِفَةٌ لَهُ. وَقَرَأَ هَارُونُ بِكَسْرِ الْحَاءِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مُرًّا عَلَيْهِمْ. وكذا
حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مِنَ الْمَرَارَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمِرَّةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَيْ: فِي يَوْمٍ قَوِيِّ الشُّؤْمِ مُسْتَحْكَمِهِ كَالشَّيْءِ الْمُحْكَمِ الْفَتْلِ الَّذِي لَا يُطَاقُ نَقْضُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ، لَا مِنَ الْمَرَارَةِ وَلَا مِنَ الْمِرَّةِ، أَيْ: دَامَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فِيهِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ، وَشَمَلَ بِهَلَاكِهِ كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، وَجُمْلَةُ تَنْزِعُ النَّاسَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أنها صفة لريحا أَوْ حَالٌ مِنْهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، أَيْ: تَقْلَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمُ اقْتِلَاعَ النَّخْلَةِ مِنْ أَصْلِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ تَقْلَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَتَرْمِي بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَتَدُقُّ أَعْنَاقَهُمْ، وَتُبَيِّنُ رُؤُوسَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَقِيلَ: النَّاسَ مِنَ الْبُيُوتِ، وَقِيلَ: مِنْ قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ حَفَرُوا حَفَائِرَ وَدَخَلُوهَا كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ الْأَعْجَازُ: جَمْعُ عَجُزٍ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَالْمُنْقَعِرُ: الْمُنْقَطِعُ الْمُنْقَلِعُ مِنْ أَصْلِهِ، يُقَالُ: قَعَّرْتُ النَّخْلَةَ إِذَا قَلَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا حَتَّى تَسْقُطَ. شَبَّهَهُمْ فِي طُولِ قَامَاتِهِمْ حِينَ صَرَعَتْهُمُ الرِّيحُ وَطَرَحَتْهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِالنَّخْلِ السَّاقِطِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا رُؤُوسٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ قَلَعَتْ رُؤُوسَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ كَبَّتْهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَتَذْكِيرُ مُنْقَعِرٍ مَعَ كَوْنِهِ صِفَةً لِأَعْجَازِ نَخْلٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى كما قال: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا، أَوْ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا. وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ وَالنَّخِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبَ عَادٍ أَتْبَعَهُ بِتَكْذِيبِ ثَمُودٍ فَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، أَيْ: كَذَّبَتْ بِالرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، أَيْ: كَذَّبَتْ بِالْإِنْذَارِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لِرَسُولِهِمْ وَهُوَ صَالِحٌ تَكْذِيبًا لِلرُّسُلِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَذَّبَ سَائِرَهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرَائِعِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نَتَّبِعُ بَشَرًا كَائِنًا مِنْ جِنْسِنَا مُنْفَرِدًا وَحْدَهُ لَا مُتَابِعَ لَهُ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ؟ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ «بَشَرًا» عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: أَنَتَّبِعُ بَشَرًا وَاحِدًا؟ وقرأ أبو السّمّال أنه قرأ برفع: «بشرا» ونصب بالرفع على الابتداء، وواحدا صفته، ونتبعه خبره. وروي عن أبي السّمّال أَنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِ:«بَشَرًا» وَنَصْبِ «وَاحِدًا» عَلَى الْحَالِ. إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أَيْ: إِنَّا إِذَا اتَّبَعْنَاهُ لَفِي خَطَأٍ وَذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَسُعُرٍ أَيْ: عَذَابٍ وَعَنَاءٍ وَشِدَّةٍ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ جَمْعُ سَعِيرٍ، وَهُوَ لَهَبُ النَّارِ، وَالسُّعُرُ:
الْجُنُونُ يَذْهَبُ كَذَا وَكَذَا لِمَا يَلْتَهِبُ بِهِ مِنَ الْحِدَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «وَسُعُرٍ» وَبُعْدٍ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
فِي احْتِرَاقٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجُنُونُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ: كَأَنَّهَا مِنْ شِدَّةِ نَشَاطِهَا مَجْنُونَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يصف ناقة:
تخال بها سعرا إذ السّفر هَزَّهَا
…
ذَمِيلٌ وَإِيقَاعٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
ثُمَّ كرّروا الإنكار والاستبعاد، فقالوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أَيْ: كَيْفَ خُصَّ من بيننا بالوحي
(1) . الحاقة: 7.
وَالنُّبُوَّةِ، وَفِينَا مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ؟ ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنِ الِاسْتِنْكَارِ وَانْتَقَلُوا إِلَى الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ كَذَّابًا أَشِرًا، فَقَالُوا:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وَالْأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالنَّشَاطُ، أَوِ الْبَطَرُ وَالتَّكَبُّرُ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْبَطَرِ وَالتَّكَبُّرِ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَشِرْتُمْ بِلُبْسِ الْخَزِّ لَمَّا لَبِسْتُمُ
…
وَمِنْ قَبْلُ لَا تَدْرُونَ مَنْ فَتَحَ الْقُرَى
قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أُشِرْ» كَفَرِحْ. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ.
وَنَقَلَ الْكِسَائِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ الشِّينِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «غَدًا» وَقْتَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي التَّعْبِيرِ بِالْغَدِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَمْرِ وَإِنْ بَعُدَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
لِلْمَوْتِ فِيهَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ
…
مَنْ لَمْ يَكُنْ مَيْتًا فِي اليوم مات غدا
ومنه قول الطِّرِمَّاحِ:
أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ
…
وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الْجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ
…
إِذَا رَاحَ أَصْحِابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَيَعْلَمُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِصَالِحٍ عَنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مِنْ صالح لقومه، وجملة: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَ إِجْمَالُهُ مِنَ الْوَعِيدِ، أَيْ: إِنَّا مُخْرِجُوهَا مِنَ الصَّخْرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَرَحُوهُ فِتْنَةً لَهُمْ أَيِ: ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَانْتِصَابُ فِتْنَةً عَلَى الْعِلَّةِ فَارْتَقِبْهُمْ أَيِ: انْتَظِرْ مَا يَصْنَعُونَ وَاصْطَبِرْ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنَ ثَمُودَ وَبَيْنَ النَّاقَةِ، لَهَا يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «1» وَقَالَ: نَبِّئْهُمْ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ الشِّرْبُ: بِكَسْرِ الشِّينِ: الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ. وَمَعْنَى مُحْتَضَرٍ: أَنَّهُ يَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ لَهُ، فَالنَّاقَةُ تَحْضُرُهُ يَوْمًا وَهُمْ يَحْضُرُونَهُ يَوْمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ ثَمُودَ يَحْضُرُونَ الْمَاءَ يَوْمَ نَوْبَتِهِمْ، فَيَشْرَبُونَ، وَيَحْضُرُونَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا فَيَحْتَلِبُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:«قِسْمَةٌ» بِكَسْرِ الْقَافِ بِمَعْنَى مَقْسُومٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِفَتْحِهَا فَنادَوْا صاحِبَهُمْ أَيْ: نَادَى ثَمُودُ صَاحِبَهُمْ وَهُوَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ النَّاقَةِ يَحُضُّونَهُ عَلَى عَقْرِهَا فَتَعاطى فَعَقَرَ أَيْ: تَنَاوَلَ النَّاقَةَ بِالْعَقْرِ فَعَقَرَهَا، أَوِ اجْتَرَأَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْعَقْرِ فَعَقَرَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَمَنَ لَهَا فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ سَاقِهَا، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَسَرَ عُرْقُوبَهَا ثُمَّ نَحَرَهَا، وَالتَّعَاطِي: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِتَكَلُّفٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قد تقدّم
(1) . الشعراء: 155.
تَفْسِيرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا أَجْمَلَهُ مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً قَالَ عَطَاءٌ:
يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَفِي الْأَعْرَافِ فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الظَّاءِ، وَالْهَشِيمُ: حُطَامُ الشَّجَرِ وَيَابِسُهُ، وَالْمُحْتَظِرُ: صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ لِغَنَمِهِ حَظِيرَةً تَمْنَعُهَا عَنْ بَرْدِ الرِّيحِ، يُقَالُ: احْتَظَرَ عَلَى غَنَمِهِ إِذَا جَمَعَ الشَّجَرَ وَوَضَعَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمُحْتَظِرُ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِفَتْحِ الظَّاءِ، أَيْ: كَهَشِيمِ الْحَظِيرَةِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ أَرَادَ الْفَاعِلَ لِلِاحْتِظَارِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الحظيرة، وهي فعلية بِمَعْنَى مُفَعُولَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا كَالشَّجَرِ إِذَا يَبِسَ فِي الْحَظِيرَةِ وَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَثَرْنَ عَجَاجَهُ كَدُخَانِ نَارٍ
…
تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْعِظَامُ النَّخِرَةُ الْمُحْتَرِقَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الْمُتَنَاثِرُ مِنَ الْحِيطَانِ فِي يَوْمِ رِيحٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هُوَ مَا يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَظِيرَةِ إِذَا ضَرَبْتَهَا بِالْعِصِيِّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا فَيَبِسَ هَشِيمًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَرَى جِيَفَ الْمَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ
…
كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ كَمَا كَذَّبَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّذُرِ قَرِيبًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا عَذَّبَهُمْ بِهِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أَيْ: رِيحًا تَرْمِيهِمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْحَاصِبُ: الْحِجَارَةُ فِي الرِّيحِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْحَاصِبُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تُثِيرُ الْحَصْبَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُهَا
…
بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ يَعْنِي لُوطًا وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالسَّحَرُ: آخِرُ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَاطُ سَوَادِ اللَّيْلِ بِبَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَانْصَرَفَ سَحَرٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ سَحَرَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَوْ قَصَدَ معينا لامتنع. كذا قال الزجاج والأخفش وغير هما، وَانْتِصَابُ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: إِنْعَامًا مِنَّا عَلَى لُوطٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نِعْمَتَنَا وَلَمْ يَكْفُرْهَا وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أَيْ: أَنْذَرَ لُوطٌ قَوْمَهُ بَطْشَةَ اللَّهِ بِهِمْ، وَهِيَ عَذَابُهُ الشَّدِيدُ وَعُقُوبَتُهُ الْبَالِغَةُ فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أَيْ: شَكُّوا في الإنذار ولم يصدّقوه، وهو تفاعل مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أَيْ: أَرَادُوا مِنْهُ تَمْكِينَهُمْ مِمَّنْ أَتَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَفْجُرُوا بِهِمْ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ، يُقَالُ:
رَاوَدْتُهُ عَنْ كَذَا مُرَاوَدَةً وَرِوَادًا، أَيْ: أَرَدْتُهُ، وَرَادَ الْكَلَامَ يَرُودُهُ رَوْدًا: أَيْ طَلَبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُرَاوَدَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ هُودٍ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أَيْ: صَيَّرْنَا أَعْيُنَهُمْ مَمْسُوحَةً لَا يُرَى لَهَا شِقٌّ، كَمَا تَطْمِسُ الرِّيحُ الْأَعْلَامَ بِمَا تَسْفِي عَلَيْهَا مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَ أَبْصَارِهِمْ مَعَ بَقَاءِ الْأَعْيُنِ عَلَى صُورَتِهَا. قَالَ