الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الطّور
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتِ الطُّورُ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 20]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
قَوْلُهُ: وَالطُّورِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى. قال مجاهد: الطُّورُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الْجَبَلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ طُورُ سَيْنَاءَ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُمَا طُورَانِ: يُقَالُ لأحد هما طور سينا، وَلِلْآخَرِ طُورُ زَيْتَا، لِأَنَّهُمَا يُنْبِتَانِ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ مَدْيَنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الطُّورَ كُلُّ جَبَلٍ يُنْبِتُ، وَمَا لَا يُنْبِتُ فَلَيْسَ بطور، أقسم الله سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْجَبَلِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقِيلَ: أَلْوَاحُ مُوسَى، وَقِيلَ: مَا تَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً «1» وقوله:
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ «2» فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْطُورٍ، أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي رَقٍّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:
فِي رَقٍّ بِفَتْحِ الراء، وقرأ أبو السمال بِكَسْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّقُّ بِالْفَتْحِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ، وَهُوَ جِلْدٌ رَقِيقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّقُّ: مَا رَقَّ مِنَ الْجِلْدِ لِيُكْتَبَ فِيهِ، وَالْمَنْشُورُ:
الْمَبْسُوطُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَجَمْعُهُ رُقُوقٌ، وَمِنْ هَذَا قول المتلمّس:
(1) . الإسراء: 13.
(2)
. التكوير: 10.
فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا
…
رَقٌّ أُتِيحَ كِتَابُهَا مَسْطُورُ
وَأَمَّا الرِّقُّ بِالْكَسْرِ فَهُوَ الْمَمْلُوكُ، يُقَالُ عَبْدُ رِقٍّ وَعَبْدٌ مَرْقُوقٌ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
وَقِيلَ: فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وقيل: هو الكعبة، فعلى القولين الأوّلين كون وَصْفُهُ بِالْعِمَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَكُونُ وَصْفُهُ بِالْعِمَارَةِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنْ يَتَعَبَّدُ فِيهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يَعْنِي السَّمَاءَ، سَمَّاهَا سَقْفًا لِكَوْنِهَا كَالسَّقْفِ لِلْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «1» وَقِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أَيِ: الْمُوقَدِ، مِنَ السَّجْرِ:
وَهُوَ إِيقَادُ النَّارِ فِي التنور، ومنه قوله: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «2» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْبِحَارَ تُسَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فتكون نارا، وقيل: المسجور: المملوء، وقيل: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادُ، يُقَالُ: بَحْرٌ مَسْجُورٌ، أَيْ: مَمْلُوءٌ، وَبَحْرٌ مَسْجُورٌ، أَيْ: فَارِغٌ، وَقِيلَ: الْمَسْجُورُ: الْمَمْسُوكُ، وَمِنْهُ سَاجُورُ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَسْجُورُ الَّذِي ذَهَبَ مَاؤُهُ، وَقِيلَ: الْمَسْجُورُ الْمَفْجُورُ، وَمِنْهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ «3» وقال الربيع ابن أَنَسٍ: هُوَ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمْ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خبر ثان لأن، أو صفة لواقع، و «من» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْإِقْسَامِ بِهَا أَنَّهَا عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «لَوَاقِعٌ» أَيْ: إِنَّهُ لَوَاقِعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ دَافِعٍ. وَالْمَوْرُ:
الِاضْطِرَابُ وَالْحَرَكَةُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَارَ الشَّيْءُ يَمُورُ مَوْرًا إِذَا تَحَرَّكَ وَجَاءَ وَذَهَبَ، قاله الأخفش وأبو عبيدة، وأنشد بَيْتَ الْأَعْشَى:
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا
…
مَشْيُ «4» السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ
وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَاهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَيْتِ يُطْلَقُ الْمَوْرُ عَلَيْهَا لُغَةً.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمُوجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ دَوْرًا، وَقِيلَ: تَجْرِي جَرْيًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «5» :
وَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُورُ دِمَاؤُهَا
…
بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءَ دِجْلَةَ أَشْكَلُ «6»
وَيُطْلَقُ الْمَوْرُ عَلَى الْمَوْجِ، وَمِنْهُ نَاقَةٌ مَوَّارَةُ الْيَدِ، أَيْ: سَرِيعَةٌ تَمُوجُ فِي مَشْيِهَا مَوْجًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْعَذَابَ
(1) . الأنبياء: 32.
(2)
. التكوير: 6.
(3)
. الانفطار: 3.
(4)
. في تفسير القرطبي: مور.
(5)
. هو جرير.
(6)
. «الأشكل» : ما فيه بياض وحمرة.
يَقَعُ بِالْعُصَاةِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ السَّمَاءُ هَكَذَا، وهو يوم القيامة. وقيل: إن السماء ها هنا الْفَلَكُ، وَمَوْرُهُ: اضْطِرَابُ نَظْمِهِ وَاخْتِلَافُ سَيْرِهِ وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أَيْ: تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَتَسِيرُ عَنْ مَوَاضِعِهَا كَسَيْرِ السَّحَابِ، وَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وقيل: ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتهما وخروجهما عن المعهود، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَيْلٌ: كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْهَالِكِ، وَاسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ، أَيْ: إِذَا وَقَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَوْرِ السَّمَاءِ وَسَيْرِ الْجِبَالِ فَوَيْلٌ لَهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أَيْ: فِي تَرَدُّدٍ فِي الْبَاطِلِ وَانْدِفَاعٍ فِيهِ يَلْهُونَ لَا يَذْكُرُونَ حِسَابًا وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَقِيلَ: يَخُوضُونَ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الدعّ: الدفع بعنف وجفوة، يقال: دعّته أَدُعُّهُ دَعًّا، أَيْ: دَفَعْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ دَفْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: تُغَلُّ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَتُجْمَعُ نَوَاصِيهِمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ يُدْفَعُونَ إِلَى جَهَنَّمَ دَفْعًا عَلَى وُجُوهِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَزَيْدُ بْنُ عليّ وابن السّميقع بِسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ مَفْتُوحَةً، أَيْ: يُدْعَوْنَ إلى النار من الدعاء. و «يوم» إِمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَمُورُ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَهِيَ هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، أَيْ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي تُشَاهِدُونَهَا هِيَ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْقَائِلُ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ خَزَنَةُ النَّارِ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ سُبْحَانَهُ أَوْ أَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِتَوْبِيخِهِمْ، فَقَالَ: أَفَسِحْرٌ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَ وَتُشَاهِدُونَ كَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِرُسُلِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ وَلِكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقُدِّمَ الْخَبَرُ هُنَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ وَتَوَجَّهَ التَّوْبِيخُ إِلَيْهِ أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ أَيْ: أَمْ أَنْتُمْ عُمْيٌ عَنْ هَذَا كَمَا كُنْتُمْ عُمْيًا عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا أَيْ: إِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إِنْكَارُهَا، وَتَحَقَّقْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَبْصَارِكُمْ خَلَلٌ، فَالْآنَ ادْخُلُوهَا وَقَاسُوا شِدَّتَهَا، فَاصْبِرُوا عَلَى الْعَذَابِ أَوْ لَا تَصْبِرُوا، وَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَالْأَمْرَانِ سَواءٌ عَلَيْكُمْ فِي عَدَمِ النفع، وقيل: أَيْضًا تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا الْقَوْلَ، وَسَوَاءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرَانِ سَوَاءٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْكُمُ الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ، وَجُمْلَةُ: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِوَاءِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ إِذَا كَانَ وَاقِعًا حَتْمًا كَانَ الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ حَالَ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ زِيَادَةً فِي غَمِّهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَالتَّنْوِينُ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لِلتَّفْخِيمِ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يُقَالُ رَجُلٌ فَاكِهٌ، أَيْ: ذُو فَاكِهَةٍ، كَمَا قِيلَ: لَابِنٌ، وَتَامِرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو فَاكِهَةٍ مِنْ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: ذَوُو نِعْمَةٍ وَتَلَذُّذٍ بِمَا صَارُوا فِيهِ مِمَّا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عز وجل مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فاكِهِينَ بِالْأَلِفِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ خَالِدٌ: «فَاكِهُونَ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَكِهِينَ»
بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْفَكِهُ: طَيِّبُ النَّفْسِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الدُّخَانِ، وَيُقَالُ لِلْأَشِرِ وَالْبَطِرِ، وَلَا يُنَاسِبُ التَّفْسِيرُ بِهِ هُنَا وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ مَعْطُوفٌ عَلَى آتَاهُمْ، أَوْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، أَوِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْهَنِيءُ: مَا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ وَلَا نَكَدَ وَلَا كَدَرَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ليهنئكم ما صرتم إليه هنيئا وَالْمَعْنَى: كُلُوا طَعَامًا هَنِيئًا، وَاشْرَبُوا شَرَابًا هَنِيئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَنِيئًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: مَعْنَى هَنِيئًا: أَنَّكُمْ لَا تَمُوتُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ كُلُوا، أَوْ مِنْ مَفْعُولِ آتَاهُمْ، أَوْ مِنْ مَفْعُولِ وَقَاهُمْ، أَوْ مِنَ الْضَمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاكِهِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ بِضَمِّ الرَّاءِ الْأُولَى. وقرأ أبو السمال: بِفَتْحِهَا، وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ. وَالْمَصْفُوفَةُ: الْمُتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ صَفًّا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ:
قَرَنَّاهُمْ بِهَا. قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ زَوَّجْتُهُ امْرَأَةً وَتَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ. قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ: قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُورِ الْعِينِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِحُورٍ عِينٍ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِإِضَافَةِ الْحُورِ إِلَى الْعِينِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطُّورِ قَالَ: جَبَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطُّورُ: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ» وَكَثِيرٌ: ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ قَالَ: فِي الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إليه حتى تقوم الساعة» ، وفي الصحيحين وغير هما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزه إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: «ثُمَّ رُفِعَ إِلَيَّ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيًّا عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَقَالَ: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تَحْتَ الْعَرْشِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وَرَفَعَهُ. قَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الْمُعْمُورَ لَبِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ لَسَقَطَ عَلَيْهَا، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ قَالَ:
السَّمَاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ:
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قَالَ: بَحْرٌ فِي السَّمَاءِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَسْجُورُ: الْمَحْبُوسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الْمَسْجُورُ: