الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البلد
ويقال سورة: لا أقسم، هي عشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مثله.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قَوْلُهُ: لَا أُقْسِمُ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «1» ، وَمِنْ زِيَادَةِ «لَا» فِي الْكَلَامِ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ
…
وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَصَدَّعُ «2»
أَيْ: يتصدّع، ومن ذلك قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «3» أَيْ: أَنَّ تَسْجُدَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا قَسَمٌ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَهُوَ مَكَّةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا أُقْسِمُ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ «لَأُقْسِمُ» مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ «لَا» رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ أُقْسِمُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَحْسَبُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ الَّذِي أَنْتَ حِلٌّ فِيهِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَدِينَةُ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِكَوْنِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً لَا مَدَنِيَّةً، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمِنَ الْمَكَابِدِ أَنَّ مِثْلَكَ عَلَى عَظِيمِ حُرْمَتِهِ يُسْتَحَلُّ بِهَذَا الْبَلَدِ كَمَا يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْحِلُّ وَالْحَلَالُ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُحَرَّمِ، أَحَلَّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يوم
(1) . القيامة: 1.
(2)
. في تفسير القرطبي: لا يتقطع.
(3)
. الأعراف: 12.
الْفَتْحِ حَتَّى قَاتَلَ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» . قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الْقَسَمَ بِمَكَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهَا مَعَ كَوْنِهَا حَرَامًا، فَوَعَدَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ فِيهَا وَيَفْتَحَهَا عَلَى يَدِهِ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُحِلَّهَا لَهُ حَتَّى يَكُونَ بِهَا حِلًّا، انْتَهَى. فَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي قوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ حِلٌّ. قَالَ قَتَادَةُ: أَنْتَ حِلٌّ له لَسْتَ بِآثِمٍ، يَعْنِي: أَنَّكَ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِي هذه الْبَلَدِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ ارْتِكَابُهُ، لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ فِيهِ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حَالٌّ بِهِ وَمُقِيمٌ فِيهِ وَهُوَ مَحَلُّكَ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا نَافِيَةٌ غَيْرُ زَائِدَةٍ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهِ وَأَنْتَ حَالٌّ بِهِ، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِالْإِقْسَامِ بِكَ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ يَكُونُ الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي أَنْتَ مُقِيمٌ بِهِ تَشْرِيفًا لَكَ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِقَامَتِكَ فِيهِ عَظِيمًا شَرِيفًا، وَزَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْعِظَمِ، وَلَكِنَّ هَذَا إِذَا تَقَرَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ لفظ حلّ يجيء بمعنى حلّ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ عَطْفٌ عَلَى الْبَلَدِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ وَوالِدٍ أَيْ: آدَمَ وَما وَلَدَ أَيْ: وَمَا تَنَاسَلَ مِنْ وَلَدِهِ أَقْسَمَ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَعْجَبُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْبَيَانِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ، وَفِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: الْوَالِدُ: إِبْرَاهِيمُ وَمَا وَلَدَ: ذُرِّيَّتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ «مَا» عِبَارَةٌ عَنِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ «2» وَقِيلَ: الْوَالِدُ: إِبْرَاهِيمُ، وَالْوَلَدُ: إِسْمَاعِيلُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَوالِدٍ يَعْنِي الَّذِي يُولَدُ لَهُ وَما وَلَدَ يَعْنِي الْعَاقِرَ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَأَنَّهُمَا جَعَلَا «مَا» نَافِيَةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِضْمَارِ الْمَوْصُولِ: أَيْ: وَوَالِدٍ وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ الْمَوْصُولِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ، وَالْكَبَدُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ، يُقَالُ: كَابَدْتُ الْأَمْرَ: قَاسَيْتُ شِدَّتَهُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَزَالُ فِي مُكَابَدَةِ الدُّنْيَا وَمُقَاسَاةِ شَدَائِدِهَا حَتَّى يَمُوتَ، وَأَصْلُ الْكَبَدِ: الشِّدَّةُ، وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَنُ: إِذَا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَيُقَالُ: كَبِدَ الرَّجُلُ إِذَا وُجِعَتْ كَبِدُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَصْبَغِ:
لِي ابْنُ عَمٍّ لو أن النّاس في كبد
…
لظلّ محتجرا بِالنَّبْلِ يَرْمِينِي
قَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ، وَيُكَابِدُ الصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ «3» ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ وَيَجْعَلُهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كذا، فيجذبه
(1) . الزمر: 30.
(2)
. النساء: 3.
(3)
. في الكشاف: أبو الأشدّ.
عَشَرَةٌ حَتَّى يَتَمَزَّقَ وَلَا تَزُولُ قَدَمَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ نَزَلَ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَعْنِي لِقُوَّتِهِ، وَيَكُونُ مَعْنًى فِي كَبَدٍ عَلَى هَذَا: فِي شِدَّةِ خَلْقٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى فِي كَبَدٍ أَنَّهُ جَرِيءُ الْقَلْبِ غَلِيظُ الْكَبِدِ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَيْ: يَظُنُّ ابْنُ آدَمَ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَقِمَ مِنْهُ أَحَدٌ، أَوْ يَظُنَّ أَبُو الأشدّين أن لن يقدر عليه أحد، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَقَالِ هَذَا الْإِنْسَانِ فَقَالَ: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً أَيْ: كَثِيرًا مُجْتَمِعًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ اللَّيْثُ: مَالٌ لُبَدٌ لَا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَقُولُ أَهْلَكْتُ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ مَالًا كَثِيرًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ أَذْنَبَ فَاسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَالَ: لَقَدْ ذَهَبَ مَالِي فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنَّفَقَاتِ مُنْذُ دَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ. قَرَأَ الجمهور «لبدا» بضم اللام وفتح الباء مخفّفا، وقرأ مجاهد وحميد بضم اللام والباء مخففا. وقرأ أبو جعفر بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ مُشَدَّدًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لُبَدٌ: فُعَلٌ مِنَ التَّلْبِيدِ، وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فُعَلٌ لِلْكَثْرَةِ، يُقَالُ رَجُلٌ حُطَمٌ: إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْحَطْمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدَتُهُ لُبَدَةٌ وَالْجَمْعُ لُبَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْجِنِّ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَيْ: أَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُعَايِنْهُ أَحَدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرَهُ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ، وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ كَاذِبًا لَمْ يُنْفِقْ مَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أنفق أو لَمْ يُنْفِقْ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر لهما وَلِساناً يَنْطِقُ بِهِ وَشَفَتَيْنِ يَسْتُرُ بِهِمَا ثَغْرَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ نَفْعَلْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يبعثه، والشفة محذوفة الهاء، وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا عَلَى شُفَيْهَةٍ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ النَّجْدُ: الطَّرِيقُ فِي ارْتِفَاعٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، مُبَيَّنَتَيْنِ كَتَبَيُّنِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَتَيْنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: النَّجْدَانِ: الثَّدْيَانِ لِأَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَدِ وَرِزْقِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَصْلُ النَّجْدِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَجَمْعُهُ نُجُودٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ نَجْدٌ لِارْتِفَاعِهَا عَنِ انْخِفَاضِ تِهَامَةَ، فَالنَّجْدَانِ: الطَّرِيقَانِ الْعَالِيَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ
…
وَآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الِاقْتِحَامُ: الرَّمْيُ بِالنَّفْسِ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، يُقَالُ مِنْهُ: قَحَمَ فِي الْأَمْرِ قُحُومًا، أَيْ: رَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَتَقْحِيمُ النَّفْسِ فِي الشَّيْءِ: إِدْخَالُهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَالْقُحْمَةُ بِالضَّمِّ:
الْمَهْلَكَةُ. وَالْعَقَبَةُ فِي الْأَصْلِ: الطَّرِيقُ الَّتِي فِي الْجَبَلِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِصُعُوبَةِ سُلُوكِهَا، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ سُبْحَانَهُ لِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَجَعَلَهُ كَالَّذِي يَتَكَلَّفُ صُعُودَ الْعَقَبَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ:
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هُنَا «لَا» مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْعَرَبُ لَا تَكَادُ تُفْرِدُ لَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَاضِي فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى يُعِيدُوهَا
فِي كَلَامٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «1» وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا هُنَا لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قَائِمًا مَقَامَ التَّكْرِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَلَا آمَنَ.
قَالَ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «لَا» هُنَا بِمَعْنَى لَمْ، أَيْ: فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَى التَّكْرِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ
…
فَلَا هُوَ أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ
أَيْ: فَلَمْ يُبْدِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَقِيلَ: هو جار مجرى الدعاء كقولهم: لا نجا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى الْكَلَامِ هُنَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، تَقْدِيرُهُ: أَفَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، أَوْ هَلَّا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْعَقَبَةَ فَقَالَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا اقْتِحَامُهَا فَكُّ رَقَبَةٍ أَيْ هِيَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ أَسَارِ الرِّقِّ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَطْلَقْتَهُ فَقَدْ فَكَكْتَهُ، وَمِنْهُ: فَكُّ الرَّهْنِ، وَفَكُّ الْكِتَابِ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَقَبَةَ هِيَ هَذِهِ الْقُرَبُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ عَقَبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي النَّارِ دُونَ الْجِسْرِ، فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الصِّرَاطُ الَّذِي يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هي نار دون الجسر. قيل: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ «فَكَّ رَقَبَةً» عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَنَصَبَ رَقَبَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَكَذَا قرءوا أو أَطْعَمَ: عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَكُّ أَوْ إِطْعَامٌ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ وَجَرِّ رَقَبَةٍ بِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَيْهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْفِعْلَانِ بَدَلًا مِنِ اقْتَحَمَ أَوْ بَيَانًا لَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا فَكَّ وَلَا أَطْعَمَ، وَالْفَكُّ فِي الْأَصْلِ: حَلُّ الْقَيْدِ، سُمِّيَ الْعِتْقُ فَكًّا لِأَنَّ الرِّقَّ كَالْقَيْدِ، وَسُمِّيَ الْمَرْقُوقُ رَقَبَةً لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ كَالْأَسِيرِ الْمَرْبُوطِ فِي رَقَبَتِهِ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ الْمَسْغَبَةُ: الْمَجَاعَةُ، وَالسَّغَبُ: الْجُوعُ، وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ. قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ مِنْهُ: سَغَبَ الرَّجُلُ سَغَبًا وَسُغُوبًا فَهُوَ سَاغِبٌ وَسَغْبَانُ، وَالْمَسْغَبَةُ مَفْعَلَةٌ مِنْهُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
فَلَوْ كُنْتَ حُرًّا يَا ابْنَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ
…
لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبًا
قَالَ النَّخَعِيُّ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أَيْ: عَزِيزٍ فِيهِ الطَّعَامُ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَيْ: قَرَابَةٍ، يُقَالُ:
فُلَانٌ ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرُبَتِي، وَالْيَتِيمُ فِي الْأَصْلِ: الضَّعِيفُ، يُقَالُ: يَتِمَ الرَّجُلُ: إِذَا ضَعُفَ، وَالْيَتِيمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ المللوّح:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا
…
إِلَى اللَّهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ أَيْ: لَا شَيْءَ لَهُ كَأَنَّهُ لُصِقَ بِالتُّرَابِ لِفَقْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَابُ، يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ يَتْرَبُ تَرَبًا وَمَتْرَبَةً: إِذَا افْتَقَرَ حَتَّى لُصِقَ بِالتُّرَابِ ضُرًّا. قَالَ مجاهد: هو الّذي لا يقيه
(1) . القيامة: 31.
مِنَ التُّرَابِ لِبَاسٌ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ ذُو الْعِيَالِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمَدْيُونُ. وَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحَدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْبَعِيدُ التُّرْبَةِ الْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ بِأَرْضِنَا
…
سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ذِي مسغبة» على أنه صفة ليوم، ويتيما هُوَ مَفْعُولُ إِطْعَامٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «ذَا مَسْغَبَةٍ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ إِطْعَامٌ، أَيْ: يُطْعِمُونَ ذا مسغبة، ويتيما بَدَلٌ مِنْهُ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِلَا، وَجَاءَ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْإِيمَانِ وَرِفْعَةِ مَحَلِّهِ. وَفِيهِ دليل على أن هذه القرب إنما نفع مَعَ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّ هَذَا نَافِعٌ لَهُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَبِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى آمَنُوا، أَيْ: أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعَاصِيهِ، وَعَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أَيْ: بِالرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَحِمُوا الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ، وَاسْتَكْثَرُوا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ بِالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيْ: أَصْحَابُ جِهَةِ اليمين، أو أصحاب اليمن، أَوِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أَيْ: بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ التَّنْزِيلِيَّةُ وَالْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أَيْ: أَصْحَابُ الشِّمَالِ، أَوْ أَصْحَابُ الشُّؤْمِ، أَوِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ، يُقَالُ:
أَصَدْتُ الْبَابَ وَأَوْصَدْتُهُ إِذَا أَغْلَقْتُهُ وَأَطْبَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي
…
وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَةُ
قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مُوصَدَةٌ» بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالْهَمْزَةِ مَكَانَ الْوَاوِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: مَكَّةُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يَعْنِي بِذَلِكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ شَاءَ وَيَسْتَحْيِيَ مَنْ شَاءَ، فَقَتَلَ لَهُ يَوْمَئِذٍ ابْنَ خَطَلٍ صَبْرًا، وَهُوَ آخِذٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا حراما حرّمه الله، فأحلّ الله له مَا صَنَعَ بِأَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ مَكَّةُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُقَاتِلَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُكَ فَلَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ- وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيّ، خرجت فوجدت عبد الله بن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن والمقام. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عباس لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ- وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا
الْبَلَدِ
قَالَ: أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قَالَ: يَعْنِي بِالْوَالِدِ: آدَمَ، وَمَا وَلَدَ: وَلَدَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ:
الْوَالِدُ: الَّذِي يَلِدُ، وَمَا وَلَدَ: الْعَاقِرُ لَا يَلِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والطبراني عنه أيضا [فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قال: مكة وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قَالَ: آدَمُ]«1» لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال: اعْتِدَالٍ وَانْتِصَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: فِي نَصَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال: في شدة. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: فِي شِدَّةِ خَلْقِ وِلَادَتِهِ وَنَبْتِ أَسْنَانِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَخِتَانِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّهُ خُلِقَ مُنْتَصِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: مُنْتَصِبًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ أنه قد وكل له مَلَكٌ إِذَا نَامَتِ الْأُمُّ أَوِ اضْطَجَعَتْ رَفَعَ رأسه، ولولا ذَلِكَ لَغَرَقَ فِي الدَّمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَالًا لُبَداً قَالَ: كَثِيرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: الْهُدَى وَالضَّلَالَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هُمَا نَجْدَانِ، فَمَا جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الْخَيْرِ» .
تَفَرَّدَ بِهِ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ: سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْجَوْزَجَانِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِاضْطِرَابِهِ، قَدْ رَوَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مُنْكَرَةً كُلَّهَا، مَا أَعْرِفُ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا، يُشْبِهُ حَدِيثُهُ حَدِيثَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ، فَذَكَرَهُ. وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَكَذَا رَوَاهُ قَتَادَةُ مُرْسَلًا. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ ويشهد له ما أخرج الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ، فَمَا جُعِلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ الْخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَلَا يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال: الثّديين.
(1) . ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدرك من الدر المنثور (8/ 519) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قَالَ: جَبَلٌ زُلَالٌ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعَقَبَةُ النَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميد عنه قال: عقبة بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَ أَحَدِنَا مَا يُعْتِقُ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ أَحَدِنَا الْجَارِيَةَ السَّوْدَاءَ تَخْدِمُهُ، فَلَوْ أَمَرْنَاهُنَّ بِالزِّنَا فَجِئْنَ بِالْأَوْلَادِ فَأَعْتَقْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَأَنْ أُمَتِّعَ بِسَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آمُرَ بِالزِّنَا ثُمَّ أَعْتِقَ الْوَلَدَ» . وأخرجه ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهَا بِلَفْظِ: «لَعِلَاقَةُ سَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ هَذَا» .
وَقَدْ ثَبَتَ التَّرْغِيبُ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قَالَ: مَجَاعَةٌ.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قَالَ: جُوعٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ قَالَ: ذَا قَرَابَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ: ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: بَعِيدُ التُّرْبَةِ، أَيْ: غَرِيبًا عَنْ وَطَنِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: هُوَ الْمَطْرُوحُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ. وَفِي لَفْظٍ لِلْحَاكِمِ: هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ. وَفِي لَفْظٍ: هُوَ اللَّازِقُ بِالتُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: «الَّذِي مَأْوَاهُ الْمَزَابِلُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يَعْنِي بِذَلِكَ رَحْمَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مُؤْصَدَةٌ قَالَ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُؤْصَدَةٌ قال: مطبقة.