الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حديث المستورد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل برجل مسلم أكله فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة.
فإنهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده، كما أن «من تواضع لله رفعه الله فجعل العباد متواضعين له» .
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
[*] • وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
«الجزاء مماثل للعمل» من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلماً ستره الله، ومن يَسّر على مُعْسر يَسّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومن نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن ضارَّ مسلماً ضارَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه، ومن خَذَلَ مسلماً في موضع يحب نُصرته فيه خَذَلَهُ اللهُ في موضع يحب نصرته فيه، ومن سَمَحَ سَمَحَ الله له، والراحمون يرحمهم الرحمن، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ومن أنفق أُنفِقَ عليه، ومن أَوْعَى أُوعِيَ عليه، ومن عفا عن حقه عفا اللهُ له عن حقه، ومن تجاوز تجاوز اللهُ عنه، ومن استقصى استقصى اللهُ عليه».
«إعلام الموقعين» (1/ 196).
•
العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من جنسها:
[*] • قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
«
…
فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته: أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزَّجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرَّدع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الرَّدع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شَرَعَ لهم في ذلك ما هو مُوجَبُ أسمائه وصفاته؛ من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعَدْله، لتزولَ النوائبُ، وتنقطعَ الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنعَ كلُّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه.
ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجاتٍٍ متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلُح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخَدْشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقَدْح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفَلْس بسرقة المال الخطير العظيم.
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بُدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقَدْراً لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مذهب، وتشعبت بهم الطرقُ كلَّ مَشْعَب، ولعَظُمَ الاختلاف واشتد الخَطبُ، فكفاهم أرحمُ الراحمين وأحكم الحاكمين مُؤنة ذلك، وأزال عنهم كُلفَتَه، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتَّبَ على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النَّكال، ثم بلغ من سَعَة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفاراتٍ لأهلها وطُهرةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قَدِمُوا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النَّصُوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قَتْل، وقَطْع، وجَلْد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس، فكانت عقوبته من جنسه، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاؤه بين أظْهُرِ عباده مَفسدةٌ لهم، ولا خير يُرجى في بقائه ولا مصلحة، فإذا حُبِسَ شره وأُمسك لسانُه وكُفَّ أذاه والتزم الذل والصَّغار وجرَيَان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظْهُرِ المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين.
وجَعَلَهُ أيضاً عقوبة الجناية على الفروج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام.
وأما القَطْع فجعله عقوبة مِثله عَدْلاً وعقوبةَ السارق، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجَلْد، ولم تبلغ جنايته حَدَّ العقوبة بالقتل، فكان أليقُ العقوبات به إبَانَةَ العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذِ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضَمَّ إلى قطع يده قطع رجله، ليَكُفَّ عدوانَه وشرَّ يده التي بطش بها ورجله التي سعى بها، وشَرَعَ أن يكون ذلك من خلاف لئلا يُفَوِّتَ عليه منفعة الشِّق بكماله، فكَفَّ ضرره وعدوانه ورَحِمه بأن أبقى له يداً من شِق ورجلاً من شِق.
وأما الجَلْد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يُوجبُ القتل ولا إبانَةَ طَرَفٍ، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سبباً لأشنع القتلات، ولكن عارَضَها في البكر شِدَّةُ الداعي وعدم المُعَوِّضِ، فانتهضَ ذلك المعارضُ سبباً لإسقاط القتل» «إعلام الموقعين» (2/ 95 - 97).
- وقال أيضاً: «وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً وأشدها فساداً للعالم، وهي الكفر الأصلي والطارئ، والقتل، وزِنى المُحصَن، وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث، وهذه هي الثلاث التي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّاً وهو خَلَقَك، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تقتل ولَدَكَ خشية أن يَطْعَمَ معك» ، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك» (1).
فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)[الفرقان:68].
ثم لما كان سرقة الأموال تَلِي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطَّرَف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجَلْد، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حَدَّه دون حَدِّ هذه الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعدُ متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة ـ وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة ـ جُعِلَتْ عقوباتُها راجعة إلى اجتهاد الأئمة ووُلاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم.
(1) متفق عليه.