المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أما آن لك أن تنتبه من غفلتك: - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٣

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌باب التخويف من النار:

- ‌ أكثروا ذكر النار:

- ‌ صورٌ مشرقة لخوف السلف من النار:

- ‌ من السلف من منعه خوف النار من الضحك:

- ‌ من السلف من مَرِضَ من خوفه من النار:

- ‌ تخويف أصناف الخلق بالنار:

- ‌ غير الحيوان من الجمادات وغيرها تخشى الله تعالى:

- ‌ البكاء من خشية النار ينجي منها:

- ‌ أسباب عذاب النار:

- ‌ ذكر مكان جهنم:

- ‌ أسماء النار:

- ‌ وصف النار:

- ‌ سعة جهنم طولا وعرضا:

- ‌ ذكر قعر جهنم وعمقها:

- ‌ طبقات جهنم ودركاتها وصفتها:

- ‌ ذكر حجارة النار:

- ‌ ذكر حيات جهنم وعقاربها:

- ‌ ذكر سلاسل جهنم وأغلالها وأنكالها:

- ‌ سجن جهنم:

- ‌ ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها:

- ‌ ذكر أبواب جهنم وسرادقها:

- ‌ أبواب جهنم مغلقة:

- ‌ أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها إليها:

- ‌ إحاطة سرادق جهنم بالكافرين:

- ‌ ظلمة جهنم وسوادها وشررها:

- ‌ وقود النار:

- ‌ شدة حر جهنم وزمهريرها:

- ‌ زمهرير جهنم:

- ‌ ذكر سجر جهنم وتسعيرها:

- ‌ تسجر جهنم كل يوم نصف النهار:

- ‌ تسجر جهنم بخطايا بني آدم:

- ‌ تسجر جهنم على أهلها بعد دخولهم إليها:

- ‌ ذكر تغيظ النار وزفيرها:

- ‌ ذكر طعام أهل النار وشرابهم:

- ‌ ذكر كسوة أهل النار ولباسهم فيها:

- ‌ فراش أهل النار وغطاؤهم:

- ‌ ذكر عِظَمِ خَلْقِ أهل النار فيها وَقُبْحِ صُوَرِهم وهيئاتهم:

- ‌ تفاوت أهل النار في العذاب:

- ‌ أنواع عذاب أهل النار:

- ‌ أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله تعالى:

- ‌ ما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها:

- ‌ تخاصم أهل النار:

- ‌ ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم:

- ‌ طلب أهل النار الخروج منها:

- ‌ أهل النار لا يزالون في رجاء حتى يذبح الموت:

- ‌ ذكر نداء أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار وتكليم بعضهم بعضا:

- ‌ وصف خزنة جهنم وزبانيتها:

- ‌ مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم:

- ‌ ذكر ورود النار نجانا الله منه برحمته:

- ‌ إذا وقف العبد بين يدي ربه تستقبله النار:

- ‌ أهل النار الذين هم أهلها يخلدون فيها

- ‌ أول من يدخل النار من عصاة الموحدين:

- ‌ أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار:

- ‌ أنقذوا أنفسكم من النار:

- ‌باب معرفة‌‌ حقيقة الدنيا:

- ‌ حقيقة الدنيا:

- ‌ التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها:

- ‌ ذم الدنيا:

- ‌ أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل:

- ‌ الدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء:

- ‌ زوال الدنيا:

- ‌ فتنافسوها

- ‌ تحول حال الدنيا:

- ‌باب‌‌ حال المؤمن في الدنيا:

- ‌ حال المؤمن في الدنيا:

- ‌ رفض الدنيا:

- ‌باب ذم طول الأمل:

- ‌باب مجالسة الصالحين:

- ‌باب المواظبة على قراءة القرآن الكريم:

- ‌ فضائل تلاوة القرآن الكريم:

- ‌ فضل تعلم القرآن وتعليمه:

- ‌ فضائل حفظ القرآن الكريم:

- ‌ولا تستطيعها البطلة:

- ‌ عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:

- ‌ فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم

- ‌باب اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌ الحث على اغتنام أوقات العمر:

- ‌ اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌باب البكاء من خشية الله:

- ‌ كيفية اكتساب البكاء من خشية الله:

- ‌ نماذج من بكاء السلف من خشية الله:

- ‌ استحباب إخفاء البكاء:

- ‌باب‌‌ ذم المعاصيوقبح آثارها:

- ‌ ذم المعاصي

- ‌ قبح آثار المعاصي:

- ‌ توبيخ العاصي:

- ‌ كيفية الوقاية من الذنوب:

- ‌ الأدوية التي تزهدك في المعاصي:

- ‌ كيفية الوقاية من الذنوب:

- ‌ كيف أتخلص من المعاصي:

- ‌ التحذير من المجاهرة بالمعصية:

- ‌ مفاسد المجاهرة بالمعاصي:

- ‌باب ذم الهوى والشهوات:

- ‌ تعريف الهوى:

- ‌ مدح مخالفة الهوى:

- ‌ استحباب مخالفة الهوى وإن كان مباحاً:

- ‌باب استحضار سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ أثر استحضار قاعدة الجزاء من جنس العمل في ترقيق القلب:

- ‌ تأصيل سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ الأدلة على سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ الثواب والعقاب من جنس العمل:

- ‌ العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من جنسها:

- ‌ أروع القصص للجزاء من جنس العمل:

- ‌باب التحذير من الغفلةِ المُهْلِكة:

- ‌ حقيقة الغفلة:

- ‌ أما آن لك أن تنتبه من غفلتك:

- ‌باب أسباب شرح الصدور:

- ‌باب مجاهدة النفس:

- ‌باب ذكر الشيطان وكيده ومحاربته للإنسان:

- ‌ التحذير من كيد الشيطان:

- ‌ الشيطان لابن آدم بالمرصاد:

- ‌ كيف ندفع شر الشياطين:

- ‌ على من يتسلط الشيطان:

- ‌باب‌‌ المبادرة بالأعمال الصالحة:

- ‌ المبادرة بالأعمال الصالحة:

- ‌ ذم التسويف:

- ‌باب‌‌ ترويض النفس على خصال الخير:

- ‌ ترويض النفس على خصال الخير:

- ‌ تفاوت النفوس في الخير والشر:

- ‌باب حفظ الوقت:

- ‌ قيمة الوقت وأهميته:

- ‌ أهمية حفظ الوقت:

- ‌ وهاك بعض الأدلة على أهمية حفظ الوقت:

- ‌ أسباب تعين على حفظ الوقت:

- ‌ التحذير من إضاعة الوقت:

- ‌ التخلي عن إهدار أوقات الآخرين:

- ‌ الترويح عن النفس ليس مضيعةً للوقت:

- ‌ ضوابط الترويح عن النفس في الإسلام:

- ‌ تفاوت الناس في اغتناهم لأوقاتهم:

- ‌السبب في تفاوت أحوال الناس مع الوقت يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسة:

- ‌ واجب المسلم نحو وقته:

- ‌ وقت السالك جِدٌ كُلُه:

- ‌ من مظاهر حفظ الوقت:

- ‌ اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌ آفات تقتل الوقت:

- ‌ صورٌ مشرقة لحفظ السلف لوقتهم رحمهم الله:

الفصل: ‌ أما آن لك أن تنتبه من غفلتك:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.

فما ينفر طائر قلبه من (وسخ العزم على الذنب) ثم عام في (بحر الحياة) خجلاً مما هَمَّ به يخرج نقياً بعد الوسخ طاهراً بعد النجس لأن الأصل محفوظ بالصدق ومرهون بالإيمان، ولولا لطف الحق لكشف حجب الغفلة لبراقع الذنب غير أنه أراه برهان الهدى فرجع وأقام له هاتف التقوى فخشع، والقلوب تحن إلى ما اعتادت وألفت وتنازع إلى ما مرنت عليه وعرفت 0

• أخي الحبيب:

قف مع نفسك قليلأ وراجع نفسك وحاسبها وانظر كيف أنت في هذه الحياة، هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين أم لا؟ وهل أنت تسير في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته، أم أنك تسير وفق رغباتك وشهواتك حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاكك، انظر أخي في أي الطريقين تسير فإن المسألة والله خطيرة وإن الأمر جد وليس بهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك فاحرص على نجاتها وفكاكها من النار ومن غضب الجبار، انظر أخي الحبيب كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك أم أهملتها وتجاهلتها وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.

إن الدين أخي الحبيب كلٌ لا يتجزأ؛ لأن الإلتزام ببعض أمور الدين وترك الأمور الأخرى يعتبر استهتارا بأوامر الله وتلاعبا بها، وهذا لا يليق بمسلم أبداً وقد نهى الله عن ذلك وتوعد من فعله بوعيد شديد فقال عز من قائل: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].

إن المسلم الحق وقته كله عبادة والدين عنده ليس شعائر تعبدية فحسب يؤديها ثم يعيش بعد ذلك فيما بين الشعيرة والشعيرة بلا دين ولا عبادة!! فيأكل الحرام ويشرب الحرام ويسمع الحرام ويشاهد الحرام ويعمل الحرام ويتكلم بالحرام!! إن من يفعل ذلك لم يفهم حقيقة الإسلام الذي يحمله وينتمي إليه.

•‌

‌ أما آن لك أن تنتبه من غفلتك:

• أخي الحبيب:

ص: 490

يا من تعصي الله إلى متى هذه الغفلة؟ إلى متى هذا الإعراض عن الله؟ ألم يأن لك أخي أن تصحو من غفلتك؟ ألم يأن لهذا القلب القاسي أن يلين ويخشع لرب العالمين أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]

• يا مخدوعاً قد غُبِن، يا مفتوناً قد فُتِن، مَنْ لكَ إذا سُوِّيَ عليك اللَبِن.

• يا حليف النوم والوسادة، يا أسير الشهوات وقد نسي مَعَادَه، يا قليل الزاد مع قُربِ مماته، أما آن لك أن تفِيق من تلك الرُقَادة، لقد ربح القوم وأنت نائم، وَخِبْتَ ورجعوا بالغنائم، بالليل نائم وبالنهار هائم وتعيش عيش البهائم، ثم تدعي أنك فاهم وأنت لا شك واهم.

• يا مَنْ شاب وما تاب، أموقنٌ أنت أم مُرْتاب، مَنْ آمن بالسؤالِ فليُعدَّ له جواب، وللجواب صواب.

• يا مَنْ كلما طال عمره زاد ذنبه، يا مَنْ كلما ابيض شَعْرُه اسوَّدَ بالآثام قلبه.

• يا مَنْ ضيَّعَ عمرَه في غير طاعة، يا مَنْ بضاعته التسويف والتفريط فَبِئْسَت البضاعة، إلى متى هذا التسويف، ولا ينفعُ فيك وعظٌ ولا تعنيف، إذا وُعِظت لم تنتفع وإذا رُدِعْتَ لم ترتدع، وإذا لم تجد جواباً قلت لم أقتنع، هذا كتاب الله لو أُنزل على جبلٍ رأيته يتصدع، ومع ذلك فلا قلبٌ لك يخشع ولا عينُ تدمع، أين الخشوع والخضوع أين البكاء وجَرَيانُ الدموع أين التوبةُ والرجوع.

• أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نُصحه ريب، أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر 0

• إلى متى هذا التواني، يا مغروراً بالأماني.

• إلى متى هذا الإعراض والعمر في انقراض.

• إلى متى هذا التقصير، وإلى البلى المصير، أو ما علمت أن العمر قصير ولم يبق منه إلا اليسير، فتزود للسفر الطويل، ولا تتكلم بغير تفكير ولا تعمل بغير تدبير، ولا يشغلنك أحدٌ عن جد المَسِيْر، ولا تُضَيِّعُ الأوقات النفيسة في الأفعال الخسيسة، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة فَرَوِّضْهَا القناعة.

• أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر.

ص: 491

• يا غافلا ما يفيق، يا حاملاً ما لا يطيق، ألست الذي بارزت بالذنوب مولاك، ألست الذي عصيته وهو يرعاك، أسفاً لك ما الذي دهاك، حتى بعت هداك بهواك، يا ليت عينك أبصرت ذل الخطايا قد علاك.

• يا من لا يتعظ بأبيه ولا بابنه، يا مؤثراً للفاني على جودة ذهنه، يا متعوضا عن فرح ساعة بطول حزنه، يا مسخطاً للخالق لأجل المخلوق ضلالاً لإفنه، أمالك عبرة فيمن ضعضع مشيد ركنه، أما رأيت راحلاً عن الدنيا يوم ظعنه، أما تصرفت في ماله أكف غيره من غير إذنه، أما انصرف الأحباب عن قبره حين دفنه، أما خلا بمسكنه في ضيق سجنه، تنبه والله من وسنه لقرع سنه، ولقى في وطنه ما لم يخطر على ظنه، يا ذلة مقتول هواه يا خسران عبد بطنه.

• يا من يرجو الثواب بغير عمل، ويرجئ التوبة بطول الأمل، أتقول في الدنيا قول الزاهدين، وتعمل فيها عمل الراغبين، لا بقليل منها تقنع ولا بكثير منها تشبع، لا تثق من الرزق بما ضُمِنَ لك، ولا تعمل من العمل ما فرض عليك، تستكثر من معصية غيرك ما تحقره من نفسك، أما تعلم أن الدنيا كالحية لين لمسها والسم الناقع في جوفها، يهوى إليها الصبي

الجاهل ويحذرها ذو اللب العاقل، كيف تقر بالدنيا عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عنها من ألفها.

• كيف تصح الفكرة لقلب غافل، وكيف تقع اليقظة لعقل ذاهل، وكيف يحصل الفهم للب عاطل، عجباً لِمُفَرِطٍ والأيام قلائل، ولمائل إلى ركن مائل، لقد خاب الغافلون وفاز المتقون وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، مَنْ كُتِبَ عليه الشقاءُ كيف يَسْلَم، وَمَنْ عَمِيَ قَلْبُه كيف يفهم، ومن أمرضه طبيبه كيف لا يسقم، ومن اعوج في أصلِ وَضْعِه فبعيد أن يُتَقَوَّم، كم عملٍ رُدَّ على عَامِلِه، وكم أملٍ رَجَعَ بالخيبة على آمِلِه، وكم عامل بَالَغَ في إتعابِ مَفَاصِلِه، فهبت ريحُ الشقاءِ لتبديدِ حَاصِلِه.

• أيها النائم وهو منتبه، المتحير في أمر لا يشتبه، يا من قد صاح به الموت في سلب صاحبه، يا إخوان الغفلة تيقظوا، يا أقران البطالة تحفظوا، يا أهل المخالفة اقبلوا يا معرضين عنا أقبلوا يا مبارزين بالذنوب لا تفعلوا.

ص: 492

• عجبا لعينٍ أمست بالليل هاجعة، وَنَسِيَت أهوالَ يوم الواقعة، ولأذنٍ تقرعها المواعظ فتضحى لها سامعة، ثم تعود الزواجر عندها ضائعة، ولنفوسٍأضحت في كرم الكريم طامعة، وليست له في حال من الأحوال طائعة، ولأقدامٍ سعت بالهوى في طرق شاسعة، بعد أن وضحت لها سبل فسيحة واسعة، وَلِهِمَمٍ أسرعت في شوارع اللهو شارعة، لم تكن مواعظ العقول لها نافعة، ولقلوبٍ تُضْمِرُ التوبةَ عند الزواجر الرائعة، ثم يختل العزمُ بفعل ما لا يحل مراراً متتابعة.

• كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب، وكم ظلام أسبل ستره وأنت في عجائب، وكم أسبغت عليك نعمه وأنت للمعاصي توائب، وكم صحيفة قد ملأها بالذنوب الكاتب، وكم ينذرك سلب رفيقك وأنت لاعب، يا من يأمن الإقامة قد زُمت الركائب، أفق من سكرتك قبل حسرتك على المعايب، وتذكر نزول حفرتك وهجران الأقارب، وانهض على بساط الرقاد وقل أنا تائب، وبادر تحصيل الفضائل قبل فوت المطالب، فالسائق حثيث والحادي مجد والموت طالب.

• أسفا لغافل لا يفيق بالتعريض حتى يرى التصريح، ولا تبين له جلية الحال إلا في الضريح، كأنه وقد ذكره الموت فأفاق، فانتبه لنفسه وهو في السباق، واشتد به الكرب والتفت الساق بالساق، وتحير في أمره وضاق الخناق، وصار أكبر شهواته توبة من شقاق، هيهات مضى بأوزاره الثقيلة، وخلا بأعماله واستودع مقيله، وغيب في الثرى وقيل لا حيلة، فتفكروا إخواني في ذلك الغريب وتصوروا أسف النادم وقلق المريب فلمثل حاله فليحذر اللبيب وهذا أمر تبعده الآمال وهو والله قريب.

(أيها الغافل زاحم أهل العزم وبادر، فكأن قد نزل بك ما تخاف وتحاذر، فيختم الكتاب على الرذائل، ويفوت تحصيل الفضائل.

(إن مواعظ القرآن تذيب الحديد، وللفهوم كل لحظة زجر جديد وللقلوب النيرة كل يوم به عيد غير أن الغافل يتلوه ولا يستفيد.

• يا غافلاً في بطالته، يا من لا يفيق من سكرته، أين ندمك على ذنوبك أين حسرتك على عيوبك إلى متى تؤذي بالذنب نفسك وتضيع يومك تضييعك أمسك لا مع الصادقين لك قدم ولا مع التائبين لك ندم هلا بسطت في الدجى يداً سائلة وأجريت في السحر دموعاً سائلة.

• لله در أقوامٍ نظروا إلى الأشياء بعيبها، فكشفت لهم العواقب عن غيبها، وأخبرتهم الدنيا بكل عيبها، فشمروا للجد عن سوق العزائم، وأنت في الغفلة نائم.

• أفق من سكرتك أيها الغافل، وتحقق أنك عن قريب راحل، فإنما هي أيام قلائل، فخذ نصيبك من ظل زائل، واقض ما أنت قاض وافعل ما أنت فاعل.

ص: 493

• كم مأخوذ على الزلل، ختم له بسوء العمل، نزل به الموت فيا هول ما نزل، فأسكنه القبر فكأن لم يزل، وهذا مصير الغافل لو غفل (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ)

• يا غافلا عن نفسه أمرك عجيب، يا قتيل الهوى داؤك غريب، يا طويل الأمل ستدعى فتجيب، وهذا عن قليل وكل آت قريب، هلا تذكرت لحدك كيف تبيت وحدك، ويباشر الثرى خدك، وتقتسم الديدان جلدك، ويضحك المحب بعدك، ناسياً عنه بُعْدَك، والأهل مذ وجدوا المال ما وجدوا فقدك، إلى متى وحتى متى تترك رشدك، أما تحسن أن تحسن إلينا قصدك الأمر جد مجد فلازم جدك.

• يا سكران الهوى متى تفيق، رحل الأحباب وما عرفت الطريق، واتسعت الرحاب وأنت في المضيق، وقد بقي القليل وتغص بالريق، وتعاين زفير الموت وتعالج الشهيق، ويبطل القوى ويخرس المنطيق، وتغمس في بحر التلف ومن للغريق، ويخلو ببدنك الدود للتقطيع والتمزيق، وخرب الحصن وحطم الغصن الوريق، وخلوت بأعمالك وتجافاك الصديق، فإذا قمت من قبرك فما تدري في أي فريق.

• يا غافلا عن القيامة ستدري بمن تقع الندامة، يا معرضا عن الاستقامة أين وجه السلامة.

• يا مريضا ما يعرف أوجاعه، يا كثير الغفلة وقد دنت الساعة، يا ناسياً ذكر النار إنها لنزاعة، كأنه وملك الموت قد أزعجه وأراعه، وصاح بالنفس صيحة فقالت سمعاً وطاعة، ونهضت تعرض كاسد التوبة وهيهات غلق الباعة.

• أخي الحبيب:

• أما آن لك أن تنتبه من غفلتك.

• أما آن لك أن تُصْلِحَ الفاسدَ وتُرَقِّعَ الخَرْقَ وَتَسُدُ الثّغْر.

• أما آن لك أن تؤاخذ نفسك بتقصيرها وتحاسبها على تفريطها.

• أما آن لك أن تخلع عنك الكسل وترتدي ثوب الجد والنشاط.

• أما آن لك أن تخلع عنك الراحة وتستفرغ الوِسْعَ في الطاعة.

• أما آن لك أن تخشى الرحمن وتمتثل القرآن، وتنسلخ من العصيان واستحواذ الشيطان، وتُفيق من نومك قبل فوات الأوان.

• أما آن لك أن تُقبل على النصائح، وتتقرَّب إلى الله تعالى بالمنائح.

• أما آن لك أن تُقْلِعَ عن هواك وترجع إلى ربك الذي خلقك فسواك ويعلم سرك ونجواك.

• أما آن لك أن تحفظ لحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى وأن تتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا، أما اعتبرت بمن نُقِل إلى دار البِلى، أما اعتبرت بوضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.

ص: 494

• أما آن لك أن تفعل المأمور وتترك المحظور وتصبر على المقدور وتتذكر البعث والنشور، أما لو تفكرت في قبركِ المحفور، وما فيه من الدواهي والأمور، تحت الجنادلِ والصخور، لعلمت موقناً أنك ما كنت إلا في غرور، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور، ولا يُكْتَبُ بالسطور، لكنه ندمٌ لا يدفعُ ولا يمنع، ولا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور.

• أما آن لك أن تَصُون قلبك مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظ دينك مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُو رِضَا رَبكْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ وَالْحِسَابِ، أما كان لك عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب.

• أما آن لك أن تنتبه من غفلتك فإليك يوجه الخطاب، وتُفِيق من نومك قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِِّت الأحباب، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.

• فيا خَجَلة من سئل فَعُدِمَ الجواب، ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل يوم الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب.

• ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ،

• فيا ساكنا عن الصواب، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب، هل أعددت للسؤال جواب، ألم تخفْ سوء الحساب يوم المآب.

• ولله درُ من قال:

مضى العمر وفات

يا أسير الغفلات

حصّل الزاد وبادر

مسرعاً قبل الفوات

فإلى كم ذا التعامي

عن أمور واضحات

وإلى كم أنت غارق

في بحار الظلمات

لم يكن قلبك أصلا

بالزواجر والعظات

بينما الإنسان يسأل

عن أخيه قيل مات

وتراهم حملوه

سرعة للفلوات

أهله يبكوا عليه

حسرة بالعبرات

أين من قد كان يفخر

بالجياد الصافنات

ص: 495

وله مال جزيل

كالجبال الراسيات

سار عنها رغم أنف

للقبور الموحشات

كم بها من طول مكث

من عظام ناخرات

فاغنم العمر وبادر

بالتقى قبل الممات

واطلب الغفران ممن

ترتجي منه الهبات

• أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.

• يا إخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا، فبالله أخبروني: من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم؟ وما للجهالة قد ترت عنكم عيوبكم؟ أما ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة، وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامة بنواصيكم آخذة؟ فحتى م؟ والى م؟ وعلام التخلف والمقام؟ أتطمعون في بقاء الأبد؟ كلا والواحد والصمد. إن الموت لبالرّصد، ولا يبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم.

• إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار والله عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام.

• يا تائهًا في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا راحلة ولا زاد. ستندم إذ حان الرحيل، وأمسيت مريضًا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاد، تغدو عليك الحسرات وتروح إلى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد.

ص: 496

فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة 20ـ21].

• ولله درُ من قال:

دعوني على نفسي أنوح وأندب

بدمع غزيرٍ واكف يتصبب

دعوني على نفسي أنوح لأنني

أخاف على نفسي الضعيفة تعطب

فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا

إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب

فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي

إذا كنت في نار الجحيم أعذب

وقد ظهرت تلك القبائح كلها

وقد قرّب الميزان والنار تلهب

ولكنني أرجو الإله لعله

يحسن رجائي فيه لي يتوهب

ويدخلني دار الجنان بفضله

فلا عمل أرجو به أتقرّب

سوى حب طه الهاشمي محمد

وأصحابه والآل من قد ترهبوا

• إخواني: قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف العبر بألسنة الأفهام.

يا مَن أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحمًا على الجرائم أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها الغلام، فكل من قهر نفسه فهو الهمام. هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، والسلام.

• إخواني، انتبهوا من غفلتكم، فنوم الغفلة ثقيل، وشمّروا لآخرتكم، فإنما الدنيا منزل، وفي طريقها مقيل.

• خواني، إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة؟ فبالله عليكم، تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد، وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالأجل وبين أيديكم يوم الحساب. آه من ثقل الحمل. . آه من قلة الزاد وبعد الطريق.

فيا أيها المغرور بإقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عن الصواب، وهو في فعله كذاب.

يا بطال، إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور؟ أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركب النجب غدًا أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور. فاز والله المخفون، وخسر هنالك المبطلون، ألا إلى الله تصير الأمور.

ص: 497

• يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال. لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمم القوم رجال، يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، إن لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو، وما أبعد عثرة الشيخ أن تقال. ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال.

• واعجبًا! كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع. واها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع. عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو إذ قيل: فلان سافر وليس في رجوعه مطمع.

• يا من رواحله في طلب الدنيا لها اسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدًا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبًا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي وتقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل 75].

• يا من عمي عن طريق القوم، عليك بإصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقت التائب كله عمل: نهاره صوم، وليله سهر، ووقت البطال كله غفلة، وبصيرته عميت عن النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، إن تدرك المتجهدين في أول الليل، ففي أعقاب السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجر المشيب انفجر، وأذلة التخلف إذا تخلف عن الباب وما حضر!.

ص: 498

• يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟ متى يكون منك المتاب؟ جسمك باللهو عامر، وقلبك من التقوى خراب، ضيّعت الشباب في الغفلة، وعند الكبر تبكي على زمان الشباب. في المجلس تبكي على الفائت، وإذا خرجت عدت للانتهاب. لا حيلة لوعظي فيك وقد غلق في وجهك الباب. كم لي أحدّث قلبك، وأرى قلبك غائبًا مع الغيّاب، يا من قلبه مشغول، كيف تفهم الخطاب. وآفرحة إبليس إذا طردت عن الباب! هذا مأتم الحزان، هذا المجلس قد طاب. رحلت رفاق التائبين إلى رفاق الأحباب. يا وحشة المهجور المبعد عن الباب إذا لم يجد للقرب والدنو سببًا من الأسباب. يا منقطعًا عن الرفاق الأحباب، تعلق بأعقاب الساقة بذلّ وانكسار ودمع ذي اسكاب، وقل تائه في بريّة الحرمان، مقطوع فيه تيه الشقاء، مسبول دونه الحجاب، كلما رام القيام، أقعده وأبعده بذنوبه الحجّاب، لا زاد ولا راحلة ولا قوة، فأين الذهاب؟ عسى عطفة من وراء ستر الغيب تهون عليك صعاب المصاب.

لله درّ أقوام شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمؤوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!.

• يا من أقعده الحرمان، هذه رفاق التائبين عليك عبور. لا رسالة دمع ولا نفس آسف، وما أراك إلا مهجور. هذا نذير الشيب ينذر بالرحلة تهيأ لها منذور. كم أعذار؟ كم كسل؟ كم غفلة؟ ما أجدك يوم الحساب معذور. بيت وصلك خراب، وبيت هجرك معمور. بدّر عساك تجبر بالتوبة وتعود مجبور، سجدة واحدة واصل بها السحر وتنجو من الأهوال، {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد 15].

• لله در أقوام قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، إن نطقوا فبذكره، وإن تحرّكوا فبأمره، وإن فرحوا فبقربه، وإن ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة.

ص: 499

• يا غافلًا عن نصيره، يا واقفًا مع تقصيره، سبقك أهل العزائم، وأنت في بحر الغفلة عائم، بالليل نائم وبالنهار هائم وتعيش عيش البهائم، ثم تدعي أنك فاهم وأنت لا شك واهم، قف على الباب وقوف نادم، ونكّس رأس الذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار: مذنب وراحم، وتشبّه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، وقم في الدجى نادبًا، وقف على الباب تائبًا، واستدرك من العمر ذاهبه، ودع اللهو جانبًا، وطلّق الدنيا إن كنت للآخرة طالبًا، يا نائمًا طوال الليل سارت الرفقة، ورحل القوم كلهم، وما انتبهت من الرقدة.

• يا من تحدّثه الآمال، دع عنك هذه الوساوس، متى تنتبه لصلاحك أيها الناعس، متى تطلب الأخرى، يا من على الدنيا يتنافس. متى تذكر وحدتك إذا انفردت عن كل مؤانس، يا من قلبه قد قسا وجفنه ناعس.

• يا راحلًا بلا زاد والسفر بعيد، العين جامدة والقلب أقسى من الحديد. من أولى منك بالضراء وأنت تغرق في بحر المعاصي في كل يوم جديد. ما أيقظك الشباب ولا أنذرك الاكتهال، ولا نهاك المشيب، ما أرى صلاحك إلا بعيد، فديت أهل العزائم، لقد نالوا من الفضل المزيد، طووا فراش النوم، فلهم بكاء وتعديد، دموعهم تجري على خدودهم، خدّدت في الخدود أي تخديد، ما أنت من أهل المحبة ولا من العشاق يا قليل الهمة يا طريد.

• يا أخي، أفنيت عمرك في اللعب، وغيرك فاز بالمقصود وأنت منه بعيد، غيرك على الجادة، وأنت من الشهوات في أوجال وتنكيد، ترى متى يقال: فلان استقال ورجع. يا له من وقت سعيد، متى تخرج من الهوى وترجع إلى مولاك العزيز الحميد، يا مسكين، لو عاينت قلق التائبين، وتململ الخائفين من أهوال الوعيد، جعلوا قرّة أعينهم في الصلاة، والزكاة، والتزهيد، وأهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة، والشيب في الحرص والأمل المديد، لا بالشباب انتفعت، ولا عند تمشيب ارتجعت، يا ضيعة الشباب والمشيب:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ 51].

• أخي، مالك لا تفيق من غفلتك، وتنتهي من نومتك، وتصحو من سكرتك.

• إلى متى الصدود عن طاعة المعبود، والغفلة عن بحر الموت المورود.

• فارحم نفسك قبل التلف، وابك عليها قبل الأسف،

• فإن السفر بعيد والزاد قليل.

• فاعمل للموت قبل الفوت.

[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:

ص: 500

كان " الفضيل " ميتاً بالجهل و " ابن أدهم " مقتولاً بالهوى و " السبتي " هالكاً بالمال و " الشبلي " من جند " الجنيد " فنفخ في صور التوفيق فانشقت عنهم قبور الغفلة فصاح " إسرافيل " الاعتبار (كَذِلِكَ يُحيي اللَهُ المَوتى)

[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:

• يامن مطية عمره قد أنضاها الحرص هلا كففتها قليلا بزمام القناعة فرب جد أعطب ورب أكلة تمنع أكلات وكثرة الماء شرق أو عزق، أخل بنفسك في بيت العزلة واستعن عليها بعدول اللوم ونادها بلسان التوبيخ إلى كم وحتى ومتى ألم يأن ويحك!! سرق لص الشيب رأس مال الشباب.

فَأَصبَحتُ مُفلِسَ العُمرِ فَهَل ليَ اليَومَ إلا زَفرَةَ النَدَمِ يا نفس: ذهب عرش " بلقيس وبلى جمال " شيرين " وتمزق فرش " بوران " وبقي نسك " رابعة ".

كانت أيام الشباب كفصل الربيع وساعاته كأيام التشريق والعيش فيه كيوم العيد فأقبل الشيب يعد بالفناء ويوعد بصفر الإناء فأرخى مشدود أطناب العمر ونقض مشيد سرائر القوى.

- وقال أيضاً: يا مؤثرا على بساتين القوم مقابر النوم: ليس في طريق الوصال تعب إنما التعب ما دام في النفس بقية من الهوى الظلمة ليل لا لليلى.

• ولله درُ من قال:

إلى كم ذا التراخي والتمادي

وحادي الموت بالأرواخ حادي

فلو كنا جمادا لا تعظنا

ولكنا أشد من الجماد

تنادينا المنية كل وقت

وما نصغي إلى قول المنادى

وأنفاس النفوس إلى انتقاص

ولكن الذنوب إلى ازدياد

إذا ما الزرع قارنه اصفرار

فلس دواؤه غير الحصاد

• ولله درُ من قال:

فما لك ليس يعمل فيك وعظ

ولا زجر كأنك من جماد

ستندم إن رحلت بغير زادٍ

وتشقى إذ يناديك المنادي

فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا

فإن صلاحها عين الفساد

ولا تفرح بمال تقتنيه

فإنك فيه معكوس المراد

أترضى أن تكون رفيق قوم

لهم زاد وأنت بغير زاد؟!

يا كثير السيئات غداً ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ واعجبا لك مِنْ رَاحِلٍ تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن.

[*] • قال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع!!.

ص: 501

• عباد الله: ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد.

• عباد الله: مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ

• عباد الله: أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]

• أما اعتبرت بمن رحل من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وسُوِّيَ عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.

وأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية.

فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا.

فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار.

وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِهِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً.

فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب.

ص: 502

• جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.

[*] قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تصل!!

[*] وقال أبو الدرداء: إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك.

• فيا أبناء العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟!

• ويا أبناء الثلاثين! أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم؟

• ويا أبناء الأربعين! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!!

• ويا أبناء الخمسين! تنصفتم المائة وما أنصفتم!!

• ويا أبناء الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون؟ لقد أسرفتهم!!

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة.

[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:

من بلغ ستين سنة فقد اعذر الله اليه في العمر لقوله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير كذا للأكثر وسقط قوله لقوله تعالى وفي رواية النسفي يعني الشيب وثبت قوله يعني الشيب في رواية أبي ذر وحده وقد اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على ان المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(أعذر الله إلى امرئ) أي سلب عذر ذلك الإنسان فلم يبق له عذراً يعتذر به كأن يقول: لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، فالهمزة للسلب، أو بالغ في العذر إليه عن تعذيبه حيث

(أخر أجله) يعني أطاله

ص: 503

(حتى بلغ ستين سنة) لأنها قريبة من المعترك وهو سن الإنابة والرجوع وترقب المنية ومظنة انقضاء الأجل فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار ولزوم الطاعات والإقبال على الآخرة بكليته، ثم هذا مجاز من القول فإن العذر لا يتوجه على الله وإنما يتوجه له على العبد، وحقيقة المعنى فيه أن الله لم يترك له شيئاً في الاعتذار يتمسك به، وهذا أصل الإعذار من الحاكم إلى المحكوم عليه، وقيل لحكيم: أي شيء أشد؟ قال دنو أجل وسوء عمل. قال القشيري: كان ببغداد فقيه يقرئ اثنين وعشرين علماً فخرج يوماً قاصداً مدرسته فسمع قائلاً يقول: إذا العشرون من شعبان ولت * فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار * فقد ضاق الزمان على الصغار فخرج هائماً على وجهه حتى أتى مكة فمات بها. أهـ

• أخي الحبيب:

كم صلاة أضعتها؟ .. كم جمعة تهاونت بها؟ .. كم صيام تركته؟ .. كم زكاة بخلت بها؟ .. كم حج فوته؟ .. كم معروف تكاسلت عنه؟ .. كم منكر سكت عليه؟ .. كم نظرة محرمة أصبتها؟ .. كم كلمة فاحشة تكلمت بها؟ .. كم أغضبت والديك ولم ترضهما؟ .. كم قسوت على ضعيف ولم ترحمه؟ .. كم من الناس ظلمته؟ .. كم من الناس أخذت ماله؟ ..

• أما كان لك عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب،

• أما آن لك أن تنتبه من غفلتك فإليك يوجه الخطاب، وتُفِيق من نومك قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِِّت الأحباب، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.

• فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب

ص: 504

• ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ،

• فيا ساكنا عن الصواب، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب، هل أعددت للسؤال جواباً، وولجواب صوابا، وأنت حينذاك لا تملك توبةً أو مآبا، فأُسْقِط في يديك ولا ينفعك مَنْ حَوِاليك.

[*] قال الحسن البصريّ: "رحِم الله أقوامًا كانت الدّنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثمّ قاموا خفافًا.

[*] وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزن للدّنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك.

• فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال.

* لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إِذَا هُمْ مِنْهَا في كدرٍ و بَلاءٍ، وبينا هم في َسُرُورٍ وَحَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي نَكَدٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وعِزُها لا يَدُوم وفناؤها محتوم.

* بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل، وَغَنِّيها فَقِير، شَابُّهَا، وَحَيُّهَا يَمُوت، وودُّها يفوت، فلا يغرنَّك إِقْبَالُهَا فسريعٌ إِدْبَارِهَا.

* كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك

وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.

• لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات. ولسان حالها يقول: كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات، فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات.

ص: 505

فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا:{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ،

* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ.

فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .

• رحم الله رجلاً أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل الممات، واستعد للموت قبل حلول الفوات، وتضرَّع إلى الله قائلاً: اللهم يا عالم الخفيات ويا رفيع الدرجات، وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ و يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا لاغتنام الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات.

• أما علمت أخي أن الدنيا نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، كم نقلتك من صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إلى كَدَرٍ وبلاء، ومن وَسُرُورٍ و وَحَبُور إلى هُمٍ و بَلاءٍ، فَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ، وأصلح نفسك قبل أن يسْتَفْحَلَ الدَّاءُ فلا ينفع دَّوَاءُ.

ص: 506

• عجبت لمن كان الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ، نسأل الله العزيز الغفار أن يجعلنا من جملة الأخيار وأن يجعلنا من عباده الأبرار، وأن يجعلنا ممن أحبه فزهده في هذه الدار، وحرص على مرضاته وتأهب لدار القرار واجتهد في طاعته وملازمة ذكره وحمده وشكره بالعشي والإبكار.

• ما للأنفسِ إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة.

ص: 507

• عباد الله أوصي نفسي وإياكم بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالْحُسْنَى، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ، أَمَّا أَوْضْحَ لَكُمْ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا بَعَثَ إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ، أَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ،

ص: 508

• رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ، وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام. وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ، فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ. وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ. وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]

• عباد الله: َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ، لابد من الارتحال ليومٍ شديد الأهوال، حيثُ لا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، فهل أعددت له صالح الأعمال، و تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال و قرب الارتحال، فَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال، واستعدوا له بصالح الأَعْمَال، واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال،، وكفى ما ضاع من أَعْمَارَنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وكثرة الجدال، وقَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال، فكيف بك إذا أنت مُتُ على هذا الحال، وتقطعت منك الأوصال ولم يبقَ إلا الحساب على أقبح الخصال وأشنع الخِلال، أما تخشى سوء المآل، أما تَعِي ما أقول أم ران على قلبك قبائح الأعمال وضُرِب على قلبك وسمعِك من الذنوب أقفال.

أما ضرب الله لكم الأمثال، ووقَّتَ لكم الآجال، و جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالأنْعَامِ وَالأَفْضَالِ، فهل أعددتم ِصَالِحِ الأَعْمَالِ، للنجاة من النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ.

• عباد الله: َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مستحيل لابد من الرحيل فتزود للسفر الطويل لابد من الإرتحال ليومٍ شديد الأهوال فأعدَّ له صالح الأعمال قبل طي الآجال

ص: 509

• عباد الله: َإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ، رحم الله رجلاً أضمر نفسه للسباق، وساقها إلى الغاية أشد مساق واستعد للموت قبل هجومه وأخذ حذره منه قبل قدومه وأنفذ دموعه على الأوقات التي أضاعها قبل أن تزل به القدم ويؤخذ بما علم وبما لم يعلم.

فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَتَجَلَّى اللهُ جل جلاله لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}. [القلم: 43]

• عباد الله اعلموا أن الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب، وَحَرَامُهَا عَذَابُ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ، العمرُ يمَرَّ السَّحَابِ، فَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ عَنْكُمُ البَابَ.

• فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب

• ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ،

• ويا حَسْرَة نفوس أسرفت على نفسها في دار الغرور، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ، وغرقت في الدواهي من الأمور، أما علمت أن الله ({يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] فَكَيْفَ بِها إِذَا عَايَنْت الأُموُرَ وبُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ،، أم كيف بها إذا دخلت قبرها المحفور، وما فيه من الدواهي والأمور، تحت الجنادلِ والصخور، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور، ولا يُكْتَبُ بالسطور، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور.

ص: 510

فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور، ثم تبلغك صيحة النشور ونفخة الصور، وبُعثِرتِ القُبور، وحُصّلَ ما في الصُدور، ودهمتكُم مُفْظِعاتُ الأُمور بنفخةِ الصُوْر، وَبَعْثَرةِ القُبور

أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ، وَنَسَى القُبُورَ، أما علموا أن الدنيا دار عبور لا دار سرور، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَعْوَامٌ سَرِيعَةُ المُرُورِ، وَشُهُورٌ تَقْتَفِي إِثْرَ شُهُورٍ وَعِبَرٌ بَيْنَ ذَلِكَ تَتْرَى، فَعَلامَ الغُرُورُ، كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور.

• عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير، فالعُمْرُ قَصِيْرٌ ولم يبق مِنْهُ إلا اليَسِيْرُ، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ، فكيف بك إذا وقفت بين يدي العلي الكبير فسئلت عن القليل والكثير و الفَتِيلِ والنَّقيرِ، و أنتَ لا تعرفُ أتكون مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ.

• فيا ساكنا عن الصواب، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب، هل أعددت للسؤال جواب، ألم تخفْ سوء الحساب يوم المآب.

• يا غافلاً عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره، سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم، قف على الْبَاب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم، عساك أن تخرج من الدنيا سالم.

• َيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ، هل ذهب عقلك يا لئيم، إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لَا شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلَاكُ، فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته.

ص: 511

• يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب، أين الزمان الَّذِي فرطت فيه أما تخش العواقب، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب، إِذَا قِيْل لَكَ: ما صنعت فِي كُلّ واجب، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب، فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.

• فَوَاعَجَبًا لَكَ كُلَّمَا دُعِيتَ إِلى اللهِ تَوَانَيْت، وَكُلَّمَا حَرَّكَتْكَ الْمَوَاعظُ إِلى الخيراتِ أَبُيت، وعلى غَيَّكَ وَجَهْلِكَ تَمَادَيْت، وَكَمْ حُذِّرت مَن الْمَنُون فما التَفَتَّ إلى قول الناصِحِ وَتَركْتَهُ وما بَالَيْت.

• عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ. كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ، وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ، كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ. وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ

• أما اعتبرت بمن رحل، أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر، هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ.

ص: 512

• اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ! وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ! وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ، واعلم أنه ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب، ولا مكَّن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب، كيف بك يوم تتصدع القلوب، وتتفطرُ الأكبادُ وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب، ويود الرجعة وأنى له المطلوب، اللهم أزِل عنا حجاب الغفلة الذي غطى القلوب، وامنع عن قلوبنا ران الذنوب حتى نرى العيوب، ووفقنا يا مولانا إلى التوبةِ من كل ذنبٍ وَحُوب.

• أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، أين الدموع الجارية، أين الخدود الدامية، أيْنَ النفوس الزاكية، أين القلوب الصافية.

• عِبَادَ اللهِ إِنَّ قَوَارِعَ الأَيَّامِ خَاطِبَةٌ، فَهَلْ أُذُنٌ لِعِظَاتِهَا وَاعِيةٌ، وَإِنَّ فَجَائِعَ الْمَوْتِ صَائِبَةٌ فَهَلْ نَفْسٌ لأَمْرِ الآخِرَةِ مُرَاعِيَةٌ، إِنَّ مَطَالِعَ الآمَالَ إِلى الْمُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ سَاعِيَةٌ، انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية، أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ، رزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية، أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها.

• عِبَادَ اللهِ: إن من رَزَقَه الله تعالى التوفيق والسداد هو من لزم طريق الأئمة والأوتاد، طريق الجد والاجتهاد، والتشمر والارتياد والتسابق إلى المعاد، طريق السخي الجراد، المتزود من الوداد، العابد السجاد، المخلص الحمًّاد والشاكر العوَّاد، أليف القرآن والحج والجهاد، جَادَ فَسَاد، ووجع فزاد، ولا يتمُ له ذلك إلا إذا زهد في الدنيا الفتانة السحارة، ونظر إلى طلابها بعين الحقارة، وسلك منهج السابقين بالحث والنذارة، ورغب عن الدنيا مع تقلد الولايات، وقيامه فيها برعايته العهود والأمانات.

ص: 513

يعلم علم اليقين أن الموت مورده وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، فيطول حزنه، ويرتعد قلبه فيكون حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، فقيهٌ زاهد، متشمر عابد، لتلاوةِ القرآن فائقا، ولكل خيرٍ سابقا، يستقبل المصائب بالتجمل ويواجه النعم بالتذلل، منزلته في العلم من البحور، مواصل الرواح بالبكور، منابذ للدنيا خيفة الغرة والعثور،

• رحم الله عبداً أحواله سامية، وأعماله خافية، ونفسه زاكية، يتطلع إلى قوله تعالى:(كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة: 24]

• رحم الله عبداً ذا ورع وأمانة وحيطة وصيانة، كان بالليل بكاءً نائحاً، وبالنهار بساماً سائحاً، يصوم يوماً ويفطر يوماً.

• له من نفسه واعظٌ فهو منتبهٌ يقظان، يخشى الرحمن ويمتثل القرآن ويتجنب العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان، وينصب قدماه في خدمة الملك الديان.

• عالماً حافظاً، وعاملاً واعظاً، وعى فارعوى، ونوى فاستوى، قليل الكلام والرواية، طويل الصيام والسعاية.

• فقيهاً محجاجاً، وناسكاً حجاجاً، عن الخلق آيساً، وبالحق آنساً.

• الورع السديد، ذو العقل الرشيد، ذو الكلام الموزون، واللسان المخزون

الحافظ للسانه، الضابط لأركانه، ذو القلب السليم، والطريق المستقيم، الوفي النجيب، المتعبد اللبيب، العفيف اللبيب، الفقيه الأديب، قوة في العبادة، وتقشف وزهادة، المأخوذ عن العاجلة، المردود إلى الآجلة، المستقيل آثامه، المتدارك أيامه، المستأنس بوحدته، المعتبر بشيبته، حافظ الطرف واللسان، رابط القلب والجنان، زين العابدين، ومنار القانتين، كان عابداً وفياً، وجواداً حفياً.

• المجتهد الوفي، المتعبد السخي، التقي النقي، الفقيه الرضي، الواله الذابل، المجتهد الناحل، مسارعٌ إلى كل خير و ينتفض من خوف ربه انتفاض الطير، على وقته شحيحاً، وبالإغضاء عن اللاهين نجيحاً، آيةً في التسليم والتراضي، والقيام على نفسه بالمحاسبة والتقاضي.

• مغتنم الساعات، ومكتتم الطاعات، يبتغي رضا رب الأرض والسموات.

• منقبض عن الهزل والأباطيل، مُحَصِّن لسانه في الفتن عن الأقاويل، الواعظ البصير، المتأهب للمسير، عازمٌ على الرحيل، مُتَضَّرعٌ إلى العلي الكبير، تضَّرُع الأسير بقلبٍ كسير، ويقول: اللهم يا من لا يظلمُ الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير ونجنا من دار السعير وارزقنا شفاعة البشير النذير.

ص: 514

• حليف الصيام والقيام، على مدى السنين والأعوام، يفشي السلام ويطعم الطعام، ويصلي بالليل والناس نيام، عساه أن يدخل الجنة بسلام.

• في التعبد لبيب، وفي التعليم أريب، تَوَاضَعَ فَارْتَفَع، وَتَطَاوَعَ فَانْتَفَع، القارىء الخاشع، التقي المتواضع.

• رحم الله عبداً لم يركن للعاجلة، وتزود للآخرة، تيقن للانتقال وتزود للارتحال فأعد صالح الأعمال ليومٍ شديد الأهوال، تيقن أن البقاء في الدنيا مستحيل، لابد من الرحيل فتزود للسفرِ الطويل.

• رحم الله عبداً يحب الأخيار ويفرك الأشرار، عليه سكينةٌ ووقار ونقاءٌ يشبه الأبرار، حليف الذكر بالليل والنهار، عدو الفتنةِ والأخطار،

• المتخشع البَكَّاء، المتضرِّع الدعاء، حليف الخشوع والخضوع، والبكاء وجريان الدموع، المتبرئ من الجزع والهلوع، ملازمٌ للتوبة والرجوع.

• ذو الخوف العظيم، والقلب السليم، كافل الأرملةَ واليتيم،

• فارق الشهوات، وعانق القربات، يبتغي رضا رب الأرض والسموات،

• أيقن الموت فخشي الفوت

• لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.

• عليه سيما الصالحين، ومنظر الخائفين، وكان مصفر الوجه من غير مرض أعمش العينين من غير عمش، ناحل الجسم من غير سقم، يحب الخلوة ويأنس بالوحدة، تراه أبداً كأنه قريب عهد بالمصيبة، أو قد فدحته نائبة.

• المخبت الورع، المتثبت القنع، الحافظ لسره، الضابط لجهره، المعترف بذنبه، المفتقر إلى ربه، منطقه ذكراً، وصمته تفكراً وسيره تدبراً.

• وبعد ما سمعت ما سمعت، أما آن لك أخي أن تستدرك ما فات، أما أيقنت أن زرع الأعمار قد دنا للحصاد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، فلما

ذا هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد، اللَّهُمَّ يا كريم يا جواد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد.

• لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا مناديَ الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقي فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.

ص: 515

• لله در أقوام أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ، فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ، وأخشى أن َيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد،

• لله در أقوامٍ نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى ظاهر بهجتها وزينتها فوضعوها، جعلوا الرُكَبَ لجباههم وساداً، والتراب لجنوبهم مهاداً، قوم خالط القرآن لحومهم ودمائهم، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالإدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سراجاً، ولنومهم مهاداً، ولسبيلهم منهاجاً، ولحجتهم إفلاجاً، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون. فهم خائفون حذرون، وجلون مشفقون مشمرون، يبادرون من الفوت، ويستعدون للموت، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب وخطر ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن ينجزهم لهم القرآن موعوده، وأوفى لهم عهودهم، وأحلهم سعوده، وأجارهم وعيده، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب، وحذروا به العواقب،

ص: 516

• لله در أقوامٍ فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنعم ما اتجروا ربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا المنازل، بصبر أيام قلائل، قطعوا الأيام باليسير، حذار يوم قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوف حوادث الساعات، و لم يركبوا أيامهم باللهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، مسارعين الى الخيرات، منقطعين عن اللهوات، أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراج العباد، ومنار البلاد، وصاروا أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة. وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، ومعادن الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوام الأمة، نظروا إلى ثواب الله عز وجل بأنفس تائقة، وعيون رامقة، وأعمال موافقة، فحلوا عن الدنيا مطي رحالهم، وقطعوا منها حبال آمالهم، صانوا أبدانهم عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم، هم الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا.

• لله در أقوامٍ أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى. كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع، عن ذكر الله، و لم يأسوا على مافاتهم، و لم يفرحوا بما أتاهم. حماهم مليكهم، عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها لكيلا يبغوا ولا يطغوا، رفضوا الحزن على ما فات، من ذهاب وشتات، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات.

زوى الله عز وجل عنهم الدنيا، وقبضها ابقاء عليهم وصوناً لهم، لئلا يطغوا، فصاروا في حماه محفوظين من الأثقال، ومحروسين من الأشغال، لا تذلهم الأموال، ولا تتغير عليهم الأحوال، يعزفون عن الاشتغال بالدنيا والإقبال عليها إلى ما هو أليق بحالهم، وأصلح لبالهم، من الاشتغال بالأذكار، وما يعود عليهم من منافع البيان والأنوار، ويعصمون به من المهالك والأخطار، ويستروحون إليه مما يرد من الأماني على الأسرار.

ص: 517

أعلام الصدق لهم شاهرة، وبواطنهم بمشاهدة الحق عامرة، وَحُقَّ لمن أعرض عن الدنيا وغرورها، وأقبل على العقبى وحبورها، فعزفت نفسه عن الزائل الواهي، ونابذ الزخارف والملاهي، وشاهد صنع الواحد الباقي، واستروح روائح المقبل الآتي. من دوام الآخرة ونضرتها، وخلود المجاورة وبهجتها، وحضور الزيارة وزهرتها، ومعاينة المعبود ولذتها، أن يكون بما اختار له المعبود راضياً، وعما اقتطعه منه سالياً، ولما ندبه إليه ساعياً، ولخواطر قلبه راعياً، ليصير في جملة المطهرين، ويقرب مما خص به الأبرار من المقربين، فيغتنم ساعاته، عن مخالطة المخلطين، ويصون أوقاته، عن مسالمة المبطلين، ويجتهد في معاملة رب العالمين، مقتدياً في جميع أحواله بسيد المرسلين.

• لله در أقوامٍ صفوا من الأكدار، ونقوا من الأغيار، وعصموا من حظوظ النفوس والأبشار، وأثبتوا في جملة المصطنع لهم من الأبرار، فأنزلوا في رياض النعيم، وسقوا من خالص التسنيم.

• لله در أقوامٍ ألبسوا الأنوار. فاستطابوا الأذكار، واستراحت لهم الأعضاء والأطوار، واستنارت منهم البواطن والأسرار بما قدح فيها المعبود من الرضا والأخبار. فأعرضوا عن المشغوفين بما غرهم، ولهوا، عن الجامعين لما ضرهم من الحطام الزائل البائد، ومسالمة العدو الحاسد، معتصمين بما حماهم به الواقي الذائد، لم يعدلوا إلى أحد سواه، و لم يعولوا إلا على محبته ورضاه. رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على محادثتهم ومجالستهم.

• لله در أقوامٍ بحقوق ربهم عارفون وعلى العلم والعبادة عاكفون، وعن التمتع بالدنيا عازفون، وإلى الإقبال على الآخرة مرابطون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.

ص: 518

• لله در أقوامٍ تصوروا مآلهم واستقلوا أعمالهم، (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * َفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) عساهم أن ينجو من نار السموم، تعبوا والله قليلاً واستراحوا كثيراً، والمسكين من لم يجد إلى لحاقهم سبيلاً، والمغبون من رَضِيَ بحظه العاجلِ بديلا.

• لله در أقوامٍ غسلوا وجوههم بدومع الأحزان، وأحيوْا ليلهم بالذكرِ وتلاوة القرآن، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملكِ الديَّان، فكلُ زمانهم رمضان، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام.

• لله در أقوامٍ غسلتها الدموع وأذلها الخشوع وظهر عليها الاصفرار من الجوع، أحسنوا في الإسلام ثم رحلوا بسلام، لقد سبقوا سبقاً بعيدا وأتعبوا مَنْ بعدهم إتعاباً شديدا، ما بقيَ إلا من إذا صام افتخر بصيامه وطال، وإذا قام أُعجب بقيامه وقال، وتناسى أن هذا وإن كان من كسبه فإنه من فضل ربه الكبير المتعال، وفضله فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، ولو سلب الله تعالى عنه فضله لصار قلبه أخلى من جوف البعير.

• لله در أقوامٍ عزفوا عن الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.

• لله در أقوامٍ غسلوا وجوهم بدموع الأحزان، وأحيوْا ليلهم بالذكرِ وقراءةِ القرآن، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملكِ الديان، فكل زمانهم رمضان، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام.

• لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات. ولسان حالها يقول: كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات،

فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات.

ص: 519

فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا:{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ،

* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ.

فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .

• لله در أقوامٍ صفت منهم القلوب، لعلام الغيوب، صفت من الكدر، وخلصت من العكر، وامتلأت من الفكر، وتساوت عندها الذهب والمدر.

• لله در أقوامٍ آثروا العزوف عن العاجلة والأزوف من الآجلة، وتطليق الدنيا بتاتاً، والإعراض عن منالها ثباتاً.

• لله در أقوامٍ صفت من الأغيار أسرارهم، فعلت في الأبرار أذكارهم، تمت أنوارهم، فانتفت أكدارهم، دامت أذكارهم فماتت أوزارهم. فهم العمد والأوتاد، وبهجة العباد والبلاد.

ص: 520

* أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السموات، لم يخبتوا في ربيع الباطل، ولم يرتعوا في مصيف الآثام، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم، وبلذة من العيش مزهودة، هم أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء، هم أهل الورع والبصر، إن أتاهم عليل داووه، أو مريض أدنوه، أو ناس لنعمةِ الله ذكَّروه، أو مبارز لله بالمعاصي نابذوه أو محب لله فواصلوه، ليسوا جبارين، ولا متكبرين، وليس عليهم صفات المترفين، إذا خلوا أجهشوا بالبكاء وإذا عوملوا فإخوان حياء، وإذا كلموا فحكماء، وإذا سئلوا فعلماء، وإذا جهل عليهم فحلماء فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوباً لينة منكسرة، لا يشغلون قلوبهم بغيره، ولا يميلون إلى ما دونه، قد ملأت محبة الله صدورهم، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة، ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة، إخوان صدق، وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين، قطعوا الأودية، بغير مفاوز، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق، واستعانوا بالحق على الباطل، فأوضح لهم على الحُجْة، ودلهم على المَحَجَة، فرفضوا طريق المهالك، وسلكوا خير المسالك، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب، وبهم تفتح الأبواب، وبهم ينشأ السحاب، وبهم يستقي العباد والبلاد، فرحمة الله علينا وعليهم.

• لله در أقوامٍ صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملك الديان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلا شفاههم، خَمْصاً بطونهم، حزينةً قلوبهم، ناحلةً أجسامهم، باكيةً أعينهم، لم يصحبوا العلل والتسويف، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفاراً خالية، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمص لطول السرى شعث لفقد الكرا، قد وصوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والإرتحال.

ص: 521

• لله در أقوامٍ نفوسهم نفسٌ على الجوع صبرت، وفي سربال الظلام خطرت. نفس ابتاعت الآخرة بالدنيا بلا شرط ولا ثنيا. نفس تدرعت رهبانية القلق، ورعت الدجا إلى واضح الفلق، فما ظنك بنفس في وادي الزهد سلكت، وهجرت اللذات فملكت، وإلى الآخرة نظرت، وإلى العناء أبصرت، وعن الذنوب أقصرت، وعلى الذر من القوت اقتصرت، ولجيوش الهوى قهرت، وفي ظلم الدياجي سهرت، فهي بقناع الشوق مختمرة، وإلى عزيزها في ظلم الدجا مشتمرة، قد نبذت المعايش، ورعت الحشايش. هذه نفس خدوم عملت ليوم القدوم، وكل ذلك بتوفيق الحي القيوم.

• لله در أقوامٍ استظلوا تحت رواق الحزن، وقرأوا صحف الخطايا ونشروا دواوين الذنوب فأورثهم الفكر الصالحة في القلب، أدبوا أنفسهم بلذة الجوع وتزينوا بالعلم، وسكنوا حظيرة الورع، وغلقوا أبواب الشهوات وعرفوا مسير الدنيا بموقنات المعرفة حتى نالوا علو الزهد فاستعذبوا مذلة النفوس، أدرجوا أنفسهم في مصاف المسبحين ولاذوا بأفنية المقدسين فتعلقوا بحجاب العزة وناجوا ربهم عند مطارفة كل شهوة حتى نظروا بأبصار القلوب إلى عز الجلال إلى عظيم الملكوت فرجعت القلوب إلى الصدور على الثبات بمعرفة توحيدك فلا إله إلا أنت.

• لله در أقوامٍ قوماً أزعجهم الهم عن أوطانهم، وثبتت الأحزان في أسرارهم، فهممهم إليه سائرة، وقلوبهم إليه من الشوق طائرة، فقد أضجعهم الخوف على فرش الأسقام، وذبحهم الرجاء بسيف الانتقام، وقطع نياط قلوبهم كثرة بكائهم عليه، وزهقت أرواحهم من شدة الوله إليه، قد هد أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد.

• لله درُّ تلك القلوب الطاهرة، أنوارها في ظلام الدُجى ظاهرة، لله درُّ أقوامٍ تدرعوا بالوقار والسكينة، وعملوا ليومٍ فيه كلُ نفسٍ رهينة، كلُ واحدٌ منهم صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه بين يدي ربه مطروح، فلو رأيتهم بين ساجدٍ وراكع، وذليلٍ مخمومٍ متواضع، ومُنَكَّسِ الطرفِ من الخوفِ خاشع، تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

• أخي الحبيب:

• أما آن لك أن تنتبه من غفلتك وتُفِيق من نومك وتستيقظ من سُباتك العظيم.

• أما آن لك أن تَصُون قلبك مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظ دينك مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُو رِضَا رَبكْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ

• أما آن لك أن تتوب قبل خروج وَقْت الاختيار، وإيتان وَقْت لا تقال فيه العثار.

• أما آن لك أن تُقبل على النصائح، وتتقرَّب إلى الله تعالى بالمنائح.

ص: 522

• أما آن لك أن تُصلِحَ الفاسد وَتُرَقِّعَ الخَرْقَ وتَسُدَّ الثَغْرَ.

• أما آن لك أن تُؤاخذ نفسك بتقصيرها وتحاسبها على تفريطها.

• أما آن لك أن تخلع عنك ثوب الكسل وترتدي ثوب الجد والنشاط.

• أما آن لك أن تخشى الرحمن وتمتثل القرآن وتنسلخ من العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان، وتُفيقَ من نومك قبل فوات الأوان، قبل أن تتمنى المُهْلةَ فيقال: هيهات فات زمن الإمكان، انتهى الزمان وفات الأوان وستحاسبُ على عَمَلِكِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ عِصْيَان. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان أن تختم أعمالنا بالعفو والغفران، والرحمة، والجود والامتنان، قبل انتهاء الزمان وفات الأوان، اللهم ارحمنا اذا ثقل منا اللسان، وارتخت منا اليدان، وبردت منا القدمان.

• أما آن لك أن تقلع عن هواك وترجع إلى ربك الذي خلقك فسواك ويعلم سِرَكَ ونجواك.

• أما آن لك أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى وأن تتذكر الموت والبلى فتستحي من الله حق الحيا، أما اعتبرت بمن نُقِل إلى دار البِلى، أما اعتبرت بوضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.

• أما آن لك أن تفعل المأمور وتترك المحظور وتصبر على المقدور وتتذكر البعث والنشور، أما لو تفكرت في قبركِ المحفور، وما فيه من الدواهي والأمور، تحت الجنادلِ والصخور، لعلمتَ موقناً أنك ما كنت إلا في غرور، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور، ولا يُكْتَبُ بالسطور، لكنه ندمٌ لا يدفع ُ ولا يمنع ولا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور.

• أما آن لك أن ترجع إلى ربك الرحيمِ التواب بالتوبة وحسن المآب، عسى أن يوفقك ربك للجدِ والصواب وموافقةِ السنة والكتاب قبل أن يمر العمرُ مرَّ السحاب.

• أما آن لك أن ترجع إلى ربك ذي الجلال والإكرام وأن تخشى يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ، وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ.

ص: 523

• أما آن لك أن تغْتَنِم بَقِيَّةَ الْعُمُرِ وَالأَيَّامِ، وأن تَبَادِر بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِيَ وَالإِجْرَامِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تَشَقَّقُ فِيهِ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْخَفَايَا وَالدَّوَاهِي وَالأَهْوَالُ الطَّوَام، وَتُنَكِّسُ فِيهِ الظَّلَمَةُ رُؤُوسَهَا وَيَعْلُوهَا الذُّلُ مِن الرُّؤُوسِ إلى الأَقْدَامِ وَيَتَجَلَّى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ حَاكِمُ الْحُكَّام، أما علمت أن السعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بالجِدِ والاهتمام.

• أما آن لك أن تَصُون قلبك مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظَ دينك مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُو رِضَا رَبَّك وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، أما كان لك عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب.

• أما آن لك أن تنتبه من غفلتك فإليك يوجه الخطاب، وتُفِيق من نومك قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم هاذم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِِّت الأحباب، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.

• أما آن لك أن تأوي إلى ركنٍ شديد وأن ترجع إلى ربك الحميد المجيد، ذو البطشِ الشديد، الفعالُ لما يريد:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]

• أما آن لك أن تندم على ذنوبك؟ وتتحسر على عيوبك؟ إلى متى تؤذي بالذنب نفسك، و تضيع يومك تضييعك أمسك، لا مع الصادقين لك قدم، و لا مع التائبين لك ندم، هلاّ بسطت في الدجى يداً سائلة، و أجريت في السحر دموعاً سائلة، من لك يا مسكين إذا أَلَمَّ الألَم، و سكن الصوت و تمكن الندم، ووقع الفوت، و أقبل لأخذ الروح ملك الموت، و نزلت منزلاً ليس بمسكون، فيا أسفاً لك كيف تكون، انتبه من غفلتك يا من بِعَمَلِهِ مرهون وأفق من نومك يا مفتون قبل أن تحلَّ بك المنون.

ص: 524