المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ صور مشرقة لحفظ السلف لوقتهم رحمهم الله: - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٣

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌باب التخويف من النار:

- ‌ أكثروا ذكر النار:

- ‌ صورٌ مشرقة لخوف السلف من النار:

- ‌ من السلف من منعه خوف النار من الضحك:

- ‌ من السلف من مَرِضَ من خوفه من النار:

- ‌ تخويف أصناف الخلق بالنار:

- ‌ غير الحيوان من الجمادات وغيرها تخشى الله تعالى:

- ‌ البكاء من خشية النار ينجي منها:

- ‌ أسباب عذاب النار:

- ‌ ذكر مكان جهنم:

- ‌ أسماء النار:

- ‌ وصف النار:

- ‌ سعة جهنم طولا وعرضا:

- ‌ ذكر قعر جهنم وعمقها:

- ‌ طبقات جهنم ودركاتها وصفتها:

- ‌ ذكر حجارة النار:

- ‌ ذكر حيات جهنم وعقاربها:

- ‌ ذكر سلاسل جهنم وأغلالها وأنكالها:

- ‌ سجن جهنم:

- ‌ ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها:

- ‌ ذكر أبواب جهنم وسرادقها:

- ‌ أبواب جهنم مغلقة:

- ‌ أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها إليها:

- ‌ إحاطة سرادق جهنم بالكافرين:

- ‌ ظلمة جهنم وسوادها وشررها:

- ‌ وقود النار:

- ‌ شدة حر جهنم وزمهريرها:

- ‌ زمهرير جهنم:

- ‌ ذكر سجر جهنم وتسعيرها:

- ‌ تسجر جهنم كل يوم نصف النهار:

- ‌ تسجر جهنم بخطايا بني آدم:

- ‌ تسجر جهنم على أهلها بعد دخولهم إليها:

- ‌ ذكر تغيظ النار وزفيرها:

- ‌ ذكر طعام أهل النار وشرابهم:

- ‌ ذكر كسوة أهل النار ولباسهم فيها:

- ‌ فراش أهل النار وغطاؤهم:

- ‌ ذكر عِظَمِ خَلْقِ أهل النار فيها وَقُبْحِ صُوَرِهم وهيئاتهم:

- ‌ تفاوت أهل النار في العذاب:

- ‌ أنواع عذاب أهل النار:

- ‌ أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله تعالى:

- ‌ ما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها:

- ‌ تخاصم أهل النار:

- ‌ ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم:

- ‌ طلب أهل النار الخروج منها:

- ‌ أهل النار لا يزالون في رجاء حتى يذبح الموت:

- ‌ ذكر نداء أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار وتكليم بعضهم بعضا:

- ‌ وصف خزنة جهنم وزبانيتها:

- ‌ مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم:

- ‌ ذكر ورود النار نجانا الله منه برحمته:

- ‌ إذا وقف العبد بين يدي ربه تستقبله النار:

- ‌ أهل النار الذين هم أهلها يخلدون فيها

- ‌ أول من يدخل النار من عصاة الموحدين:

- ‌ أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار:

- ‌ أنقذوا أنفسكم من النار:

- ‌باب معرفة‌‌ حقيقة الدنيا:

- ‌ حقيقة الدنيا:

- ‌ التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها:

- ‌ ذم الدنيا:

- ‌ أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل:

- ‌ الدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء:

- ‌ زوال الدنيا:

- ‌ فتنافسوها

- ‌ تحول حال الدنيا:

- ‌باب‌‌ حال المؤمن في الدنيا:

- ‌ حال المؤمن في الدنيا:

- ‌ رفض الدنيا:

- ‌باب ذم طول الأمل:

- ‌باب مجالسة الصالحين:

- ‌باب المواظبة على قراءة القرآن الكريم:

- ‌ فضائل تلاوة القرآن الكريم:

- ‌ فضل تعلم القرآن وتعليمه:

- ‌ فضائل حفظ القرآن الكريم:

- ‌ولا تستطيعها البطلة:

- ‌ عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:

- ‌ فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم

- ‌باب اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌ الحث على اغتنام أوقات العمر:

- ‌ اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌باب البكاء من خشية الله:

- ‌ كيفية اكتساب البكاء من خشية الله:

- ‌ نماذج من بكاء السلف من خشية الله:

- ‌ استحباب إخفاء البكاء:

- ‌باب‌‌ ذم المعاصيوقبح آثارها:

- ‌ ذم المعاصي

- ‌ قبح آثار المعاصي:

- ‌ توبيخ العاصي:

- ‌ كيفية الوقاية من الذنوب:

- ‌ الأدوية التي تزهدك في المعاصي:

- ‌ كيفية الوقاية من الذنوب:

- ‌ كيف أتخلص من المعاصي:

- ‌ التحذير من المجاهرة بالمعصية:

- ‌ مفاسد المجاهرة بالمعاصي:

- ‌باب ذم الهوى والشهوات:

- ‌ تعريف الهوى:

- ‌ مدح مخالفة الهوى:

- ‌ استحباب مخالفة الهوى وإن كان مباحاً:

- ‌باب استحضار سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ أثر استحضار قاعدة الجزاء من جنس العمل في ترقيق القلب:

- ‌ تأصيل سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ الأدلة على سنة الجزاء من جنس العمل:

- ‌ الثواب والعقاب من جنس العمل:

- ‌ العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من جنسها:

- ‌ أروع القصص للجزاء من جنس العمل:

- ‌باب التحذير من الغفلةِ المُهْلِكة:

- ‌ حقيقة الغفلة:

- ‌ أما آن لك أن تنتبه من غفلتك:

- ‌باب أسباب شرح الصدور:

- ‌باب مجاهدة النفس:

- ‌باب ذكر الشيطان وكيده ومحاربته للإنسان:

- ‌ التحذير من كيد الشيطان:

- ‌ الشيطان لابن آدم بالمرصاد:

- ‌ كيف ندفع شر الشياطين:

- ‌ على من يتسلط الشيطان:

- ‌باب‌‌ المبادرة بالأعمال الصالحة:

- ‌ المبادرة بالأعمال الصالحة:

- ‌ ذم التسويف:

- ‌باب‌‌ ترويض النفس على خصال الخير:

- ‌ ترويض النفس على خصال الخير:

- ‌ تفاوت النفوس في الخير والشر:

- ‌باب حفظ الوقت:

- ‌ قيمة الوقت وأهميته:

- ‌ أهمية حفظ الوقت:

- ‌ وهاك بعض الأدلة على أهمية حفظ الوقت:

- ‌ أسباب تعين على حفظ الوقت:

- ‌ التحذير من إضاعة الوقت:

- ‌ التخلي عن إهدار أوقات الآخرين:

- ‌ الترويح عن النفس ليس مضيعةً للوقت:

- ‌ ضوابط الترويح عن النفس في الإسلام:

- ‌ تفاوت الناس في اغتناهم لأوقاتهم:

- ‌السبب في تفاوت أحوال الناس مع الوقت يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسة:

- ‌ واجب المسلم نحو وقته:

- ‌ وقت السالك جِدٌ كُلُه:

- ‌ من مظاهر حفظ الوقت:

- ‌ اغتنام كنوز الحسنات:

- ‌ آفات تقتل الوقت:

- ‌ صورٌ مشرقة لحفظ السلف لوقتهم رحمهم الله:

الفصل: ‌ صور مشرقة لحفظ السلف لوقتهم رحمهم الله:

هناك آفات وعوائق كثيرة تضيِّع على المسلم وقته، وتكاد تذهب بعمره كله إذا لم يفطن إليها ويحاول التخلص منها، ومن هذه العوائق الآفات ما يلي:

(1)

الغفلة: وهي مرض خطير ابتلي به معظم المسلمين حتى أفقدهم الحسَّ الواعي بالأوقات، وقد حذَّر القرآن من الغفلة أشد التحذير حتى إنه ليجعل أهلها حطب جنهم، يقول تعالى:(وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنمَ كَثِيرًا منَ الجِن وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم ءاذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنعام بَل هُم أَضَل أُولَئِكَ هُمُ الغاَفِلُونَ)[الأعراف: 179]

(2)

التسويف: وهو آفة تدمر الوقت وتقتل العمر، وللأسف فقد أصبحت كلمة "سوف" شعاراً لكثير من المسلمين وطابعاً لهم،

[*] • قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك"

- وقال أيضا: "الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه.

فإياك - أخي المسلم - من التسويف فإنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد، وإن ضمنت حياتك إلى الغد فلا تأمن المعوِّقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل، واعلم أن لكل يوم عملاً، ولكل وقت واجباته، فليس هناك وقت فراغ في حياة المسلم، كما أن التسويف في فعل الطاعات يجعل النفس تعتاد تركها، وكن كما قال الشاعر:

تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري

إن جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ

فكم من سليمٍ مات من غير عِلَّةٍ

وكم من سقيمٍ عاش حِيناً من الدهرِ

وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً

وقد نُسجتْ أكفانُه وهو لا يدري

فبادر أخي المسلم باغتنام أوقات عمرك في طاعة الله، واحذر من التسويف والكسل، فكم في المقابر من قتيل سوف، والتسويف سيف يقطع المرء عن استغلال أنفاسه في طاعة ربه، فاحذر أن تكون من قتلاه وضحاياه.

•‌

‌ صورٌ مشرقة لحفظ السلف لوقتهم رحمهم الله:

ص: 608

كان السلف يحرصون على أوقاتهم ويشحون بها جدا فلا يبذلونها في غير طاعة الله، فقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم حريصين أشد الحرص على الانتفاع بأوقاتهم واغتنامها واستثمارها، فقد كانوا يسابقون الساعات ويبادرون اللحظات ضنّا منهم بالوقت، وحرصاً على أن لا يذهب منهم سدى، وكان وقتهم أغلى عندهم من الدينار والدرهم، وإن المرء لو تأمل ملياً وتفكَّر جليا لعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الوقت أغلى من كنوز الأرض كلها، لأن المال يذهب ويجيء .. أما الأيام والليالي فإنها إذا ذهبت لا يمكن أن تعود أبداً ..

[*] • قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ماندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي.

- وقال أيضا: إني لأبغض الرجل أراه فارغا لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته.

[*] • قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من يوم ينشق فجره إلا ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لاأعود إلى قيام الساعة.

- وقال أيضا: أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.

- وقال أيضا: يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب بعضك أن يذهب كلك.

- وقال أيضا: "يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلتك".

- وقال أيضا: "الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه.

[*] • قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.

- وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيرا أعانه بالوقت وجعل وقته مساعدا ً له، كلما همت نفسه بالقعود، أقامه الوقت وساعده.

[*] • وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.

[*] • قال داود الطائي: " إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة

وقال أحد الصالحين لتلاميذه: " إذا خرجتم من المسجد فتفرّقوا لتقرؤوا القرآن، وتسبّحوا الله، فإنكم إذا اجتمعتم في الطريق، تكلمتم وضاعت أوقاتكم ".

[*] • وقيل لنافع: ماكان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة والمصحف فيما بينهما.

[*] • وقال أبو يزيد: إن الليل والنهار رأس مال المؤمنين .. ربحهما الجنة وخسرانهما النار.

ص: 609

[*] • وقال إبراهيم بن شيبان: من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضا لله فيه ، حفظ الله عليه دينه ودنياه.

[*] • قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".

[*] • قال الشافعي رحمه الله تعالى: صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين:

الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق، وإلا شغلتك بالباطل.

• ولله درُ من قال:

من غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدّت حسراته.

• الوقت أعز شيء يغار عليه دون أن يقضى بفائدة، فإذا فاته وقت فلا سبيل إلى تداركه.

• ولله درُ من قال:

من علامة المقت، إضاعة الوقت.

ولو أحبك الله، لشغل وقتك في رضاه.

وقتك عمرك فحافظ عليه، وإذا ضاع منك فلا مَرْجِع إليه.

ولأن النفس البشرية تتأثر بالنماذج الحية أبلغ من تأثرها بالخطب والمواعظ! لذا فإني سوف أسوق نماذج لسلفنا الصالح تبرز عنايتهم بحفظ أوقاتهم في جميع الأحوال والأوضاع، حتى ترى مدى التفريط في كثير من الأوقات التي أضعناها؛ لعل هذه الأمثلة ـ بعد فضل الله ـ تكون سبباً في شحذ همتي وهمتك إلى الطلب ، وإلى الشعور بأننا فرطنا في قراريط كثيرة من الأوقات الفضيلة ، وهذه الآثار تدل دلالة واضحة على أن السلف الصالح كانوا يشحون بكل لحظة من عمرهم ، وأن الوقت كما قال الوزير يحى بن هبيرة:

والوقت أنفس ماعنيت بحفظه: وأراه أسهل ماعليك يضيع

وهاك بعض أروع الأمثلة التي تدل على ذلك:

• حماد بن سلمة:

[*] • قال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا (1).

[*] • وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكا لصدقت، كان مشغولا إما يحدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي، وقد قسم النهار على ذلك.

[*] • قال يونس المؤدب: مات حماد بن سلمة وهو في الصلاة.

• ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى:

(1) في هذا شيء من المبالغة، ولكن المقصود هو أن حماد رحمه الله – كان حريصا على أن لا يضيع شيئا من وقته فيما لا نفع فيه.

ص: 610

يظهر مدى حرص الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى على وقته ظهوراً بيناً في كثرة مؤلفاته وعِظم قدرها وندرةِ فوائدها إذا لو لم يكن أشح على وقته من دراهمه لما استطاع تحصيل هذا العلم الجم الواسع الغزير ولما استطاع تصنيفه بعد تحصيله، ولا أرى ذلك إلا من توفيق الله تعالى له، فليس كل أحدٍ يُوَفَّقُ للخير.

[*] • يروي الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. يعني: أن عنده من العلم في التفسير ما يملأ ثلاثين ألف ورقة، فلما وجد هؤلاء الطلبة أو هؤلاء الأصحاب غير نشطين اختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، فكم الفرق بين ثلاثة آلاف وثلاثين ألف ورقة؟! إنه عشرة أضعاف، وهو الآن يقع في ثلاثين مجلداً، ولو كان هؤلاء الطلاب أو الأصحاب أكثر همة لكان الثلاثون مجلداً ثلاثمائة مجلد! ثم حاول معهم مرة ثانية، فقال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟! أي: هل عندكم همة أملي عليكم تاريخ العالم منذ إهباط آدم الأرض إلى يومنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير وقال: ثلاثون ألف ورقة. فردوا مثل ذلك،

فقال: إنا لله! ماتت الهمم. ثم إنه جعله على نحو قدر التفسير، وهو تاريخ الطبري المعروف.

• أبو حاتم الرازي وابنه عبد الرحمن:

[*] • قال أبو حاتم: سألنا القعنبي أن يقرأ علينا «الموطأ» ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا له: مجلس عند الحجاج، قال: فإذا فرغتم من الحجاج، قلنا: نأتي مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم، قلنا: يكون وقت الظهر ونأتي أبا حذيفة، قال: فبعد العصر، قلنا: نأتي عارم. قال: فبعد المغرب. فنأتيه (1) بالليل فيخرج علينا فيخرج علينا كثر] كذا [ما تحته شيء في الصيف في الحر الشديد، فكان يقرأ وعليه كساؤه، ولو أراد لأعطي الكثير (2).

[*] • وقال أحمد بن علي لعبد الرحمن بن أبي حاتم: ما سبب كثرة سماعك الحديث من أبيك؟ وكثرة سؤالاتك له؟ فقال: ربما كان يأكل طعامه وأنا أقرأ عليه الحديث ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه (3).

[*] • ثعلب النحوي أحمد بن يحيى البغدادي:

(1) أي: نأتي عبد الله بن مسلمة القعنبي.

(2)

«الجرح والتعديل» (5/ 181).

(3)

«سير النبلاء» للذهبي (13/ 250).

ص: 611

حكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة ـ أي: دعوة طعام ـ شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة، والمسورة هي المتكأ من الجلد، يعني: مثل الوسادة من جلد تتسع لشخص. فكان يشترط على بعضهم إذا دعاه إلى طعام أو وليمة أن يوسع له في الوليمة مقدار مسورة يضع فيه كتاباً ويقرأ. أي: في أثناء حضورة في الوليمة يضع في هذا المكان الذي يحجزه له كتاباً ويقرأ فيه، وقد يحتمل أن تكون هذه القراءة أثناء الأكل، ويحتمل أنها قبل الأكل أو بعده. وإننا لنرى اليوم أن الولائم تضيع فيها ساعات طوال، وأهل بعض البلاد نجد أن كرم الضيافة عندهم يقتضي إهدار الوقت بصورة تدمي القلب، فأول شيء أنهم يجلسون ويتجمعون، وقد يستغرق ذلك ـ مثلاًً ـ نصف ساعة، والمواعيد ليس فيها دقة، ثم بعد ذلك يبدأ تبخير الحاضرين بالبخور، ثم بعد ذلك يؤتى بنوع معين من القهوة فاتح للشهية، ثم بعد ذلك يقدمون التمر مع هذه القهوة، ثم بعد ذلك يقدم الطعام، ثم بعد ذلك تقدم الفواكه، وهكذا الشاي، وإنه لشيء مؤلم جداً أن يضيع هذا الوقت، ويكون ـ أيضاً ـ طلبة علم يجودون بأوقاتهم بهذه الصورة، فهذا شيء لا يكاد يصدق! فالشاهد أن الإمام ثعلب رحمه الله تعالى كان إذا حضر دعوة اشترط خوفاً من ضياع الوقت بهذه الصورة أن يُحجز بجانبه مكان بقدر متكأ من الجلد، حتى يضع عليه كتاباً ويظل يقرأ في أثناء هذه الوليمة، فهل سمعنا حرصاً على العلم أشد من هذا الحرص؟! وكان سبب وفاة ثعلب أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم، فلا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم رحمه الله تعالى.

[*] • ابن عقيل الحنبلي:

الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي المتوفى سنة (513هـ)

[*] • قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه من أذكياء العالم.

ص: 612

بلغ في محافظته على الزمن مبلغاً أثمر أكبر كتاب عرف في الدنيا لعالم، وهو كتاب (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وفيه اختلاف في عدد المجلدات، وبعضهم يجزم بأنه ثمانمائة مجلد، فتخيل عالماً يؤلف كتاباً في ثمانمائة مجلد! وهذا الكتاب جمع فيه التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وأصول التوحيد والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره.

[*] • قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى بالفنون مناطاً لخواطره، وواقعاً فيه، ومن تأمل فيه عرف غور الرجل. وقال سبط ابن الجوزي: واختصر منه جدي ‘ـ أي: ابن الجوزي ـ عشرة مجلدات، فرقها في تصانيفه، وقد طالعت منه في بغداد في وقت المأمونية نحواً من سبعين، وفيه حكايات ومناظرات وغرائب وعجائب وأشعار.

[*] • وقال الشيخ أبو حكيم النهرواني: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.

[*] • وقال الحافظ الذهبي: وعلق كتاب الفنون، وهو أزيد من أربعمائة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث. وقال الذهبي أيضاً: لم يُصَنَفْ في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منهم المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.

[*] • وقال الحافظ ابن رجب: إن بعض مشايخه قال: هو ثمانمائة مجلد.

- وقال أيضاً في ترجمته: «ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم، وأكبر تصانيفه: كتاب «الفنون» وهو كتاب كبير جدا،

وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يصنف في الدنيا كتاب أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة» (1) وذكر ابن رجب عن بعض العلماء أنه في ثماني مائة مجلدة.

(1) ذيل الطبقات (3/ 155).

ص: 613

وقال الإمام ابن عقيل: " إني لا يحل لي أن أضيّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا على الفراش، فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرص على العلم وأنا في الثمانين من عمري أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصّر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسّيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، وإن أجلّ تحصيل عند العقلاء – بإجماع العلماء – هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة، والأوقات خاطفة ".

• ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

والإمام ابن الجوزي هو تلميذ ابن عقيل،

[*] • يقول سبطه أبو المظفر عنه: سمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني ـ وهذا من التحدث بالنعم ـ، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت من نظري فيها من ملاحظتي سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت استزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد! يعني أنه قرأ وهو يطلب العلم في مرحلة الطلب فقط عشرين ألف مجلد، ولو قلنا: إن المجلد ثلاثمائة صفحة لكان ما قرأه هو ستة ملايين صفحة، قرأها وهو في مرحلة طلب العلم رحمه الله تعالى. فما مقدار ما كتب وما صنف الإمام ابن الجوزي؟!

[*] • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: كان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي مفتياً كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك له ما لم أر.

[*] • ويقول الحافظ الذهبي: وما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل، ولم يدع ابن الجوزي فناً من الفنون إلا وصنف فيه، منها ما هو عشرون مجلداً، ومنها ما هو في رسالة صغيرة. فكيف اجتمع له هذا كله؟

ص: 614

الجواب: لا يمكن أن يجتمع له هذا إلا إذا كان بجانب علو الهمة عنده محافظة على الوقت، ومحافظة على رأس المال الذي هو الوقت. يقول الموفق عبد اللطيف: إنه كان لا يضيع من زمانه شيئاً. ويقول ابن الجوزي وهو يحدث عن سياسته في عدم تضييع الوقت، وحماية الوقت ممن يعتدون عليه: لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ـ أي أنه خدمة ومحبة لهذا العالم ـ ويطلبون الجلوس، وينزلون فيه أحاديث الناس وما لا يعنيهم، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض. فـ ابن الجوزي يحكي عن موضوع الزيارات في الأعياد، وينظر إلى أن هذه الزيارات تضييع للوقت، فالشخص له أن يهنئ إخوانه في العيد، أما كثرة الزيارة مع كثرة الإخوان والأحباب وكذا فلا تنبغي، ونحن الآن ضاعفنا أيام العيد، فعيد الفطر هو يوم واحد، وأما الآن فصار ثلاثة أيام، فمن أين صار عيد الفطر ثلاثة أيام؟! إنه لا بأس بأن يكون عيد الأضحى خمسة أيام: يوم عرفة ويوم الأضحى وأيام التشريق، لكن من أين أتينا لعيد الفطر بهذه الثلاثة أيام؟! وأين الدليل عليها؟! ليس إلا حب البطالة، وتضييع الوقت، والتهريج، والأجازات، فبين كل عيد وعيد إجازة، والناس مع ذلك تتأذى، فلماذا تضييع الوقت؟! وكأن الوقت ليس له قيمة، وللأسف الشديد أن الشعب الياباني في وقت من الأوقات عمل تظاهرات ضد الحكومة لأنها أعطتهم أجازات زائدة، فبسبب أنهم أعطوا أجازات عملوا تظاهرات، فانظر إلى عباد الدنيا من هؤلاء الوثنين الذين يعبدون الدنيا كيف يتظاهرون لأجل إلغاء الأجازات؛ لأنهم يستمتعون بالعمل وبالكدح في طلب الدنيا، فكيف تكون غيرة طالب العلم على وقته ممن لا يقد ر هذا الوقت حق قدره؟! يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.

ص: 615

يقول: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لمواضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي أي: يهرب بقدر المستطاع من اللقاء، كما حكى بعض العلماء عن السلف فقال: إن العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا، فمن ثمَّ يقول الإمام ابن الجوزي: فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة. أي: ترك وظائف معينة لم يعملها في بيته، فإذا حصلت زيارة من هذه الزيارات التي تضيع الوقت في الكلام الذي لا يفيد فقد خصص هذا الوقت للأفعال التي تحتاج وقتاً ولا تحتاج إلى تركيز ذهني، فلذلك يقول: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد -أي: تقطيع الأوراق- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي. ......

[*] • قال ابن عبد الهادي: لا أعلم أحدا صنف أكثر من ابن الجوزي إلا شيخنا الإمام الرباني أبا العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني رضي الله عنه.

[*] • وقال ابن رجب: لم يترك فنا من الفنون إلا وله فيه مصنف، وله عجائب في حفظه لوقته، ومن ذلك أنه شكى من زيارة البطالين له وإضاعتهم لوقته، ثم قال:«فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي» (1).

[*] • وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:

(1)«صيد الخاطر» (227).

ص: 616

ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، و قدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة. ويقدم الأفضل فالأفضل من القول و العمل. و لتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور ربما لا يعجز عنه البدن من العمل، و قد كان جماعة من السلف، يبادرون اللحظات.

فَنُقِلَ عن عامر بن عبد قيس، أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس.

وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال:«يا بني دعني، فإني في وردي السادس»

دخلوا على بعض السلف عند موته، و هو يصلي، فقيل له. فقال:«الآن تطوى صحيفتي»

فإذا علم الإنسان ـ و إن بالغ في الجد ـ بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له آجره بعد موته. فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً، و غرس غرساً، و أجرى نهراً، و يسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له. أو أن يصنف كتاباً من العلم، فإن تصنف العالم ولده المخلد. و أن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به، فذلك الذي لم يمت. أهـ

• الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى:

[*] • قال الضياء المقدسي في ترجمته: كان لا يضيع شيئا من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن وربما أقرأ شيئا من الحديث تلقينا، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومة ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائما أفطر وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنسان يوقظه فيصلي لحظة ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، ربما توضأ سبع مرات أو ثمانيا في الليل، وقال ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبه ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأبه.

• النووي رحمه الله تعالى:

كان عمره عندما توفي (45) سنة، استطاع فيها أن يحصل هذه العلوم الجمة، وأن يؤلف تلك الكتب العظيمة التي انتشرت وملأت الأرض شرقا وغربا، فهل أتى هذا من فراغ؟!

ص: 617

[*] • قال ابن العطار في ترجمته: «وذكر لي الشيخ أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا وتصحيحا: درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جنى، ودرسا في اصطلاح المنطق لابن السكيت، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب لفخر الدين، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين، وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي» .

• شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

يعد الإمام ابن تيمية من أكثر العلماء تأليفا للكتب، وتمتاز كتبه بأنها في الغالب من إنشائه وليست قائمة على النقل فقط كما هو حال كثير من المكثرين.

[*] • قال الذهبي رحمه الله: «وما يبعد أن تصنيفه إلى الآن تبلغ خمس مائة مجلد» ،

[*] • وقال ابن عبد الهادي: «ولا أعلم أحدا من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبا من ذلك، مع أن تصانيفه كان يكتبها من حفظه، وكتب كثيرا منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه، ويراجعه من الكتب» .

ويلفت العلامة ابن القيم نظرنا إلى سبب كان له أهمية بالغة في المباركة في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية:

[*] • قال ابن القيم في الوابل الصيب: «الحادية والستون من فوائد الذكر: أنه يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في يوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر» .

- وقال في موضع آخر: «وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. أو كلاما قريبا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجماع نفسي وإراحتها، لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلاما هذا معناه» .

ص: 618

[*] • وقال الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى وهو يحكي عن العناء الذي لقيه في نسخ مخطوطة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بخطه، فيقول: إن ابن تيمية ما كان يرفع قلمه عن الورق. يعني أن الكلام كله متصل ببعضه، ولا ينقطع إلا في نهاية السطر؛ لحرصه على الوقت، أي أنه عندما يكتب لم يكن يترك مسافات بين الكلمات، أو يرفع يديه حتى يكتب الكلمة الجديدة، بل كان القلم يظل منحدراً كالسيل، والكلام وراء بعضه، ولا يتوقف إلا في نهاية السطر حتى يبدأ سطراً جديداً، فهذا ما رآه محب الدين الخطيب بعينيه من خط شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. ......

[*] • الخليل بن أحمد رحمه الله:

أثقل الساعات على الخليل بن أحمد ساعة يأكل فيها!.

[*] • قال أبو هلال العسكرى في كتابه (الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه)[22] كان الخليل بن أحمد - الفراهيدى البصرى أحد أذكياء العالم (100:170) هـ يقول أثقل الساعات على: ساعة آكل فيها، فالله أكبر ما أشد الفناء في العلم عنده؟!، وما أوقد الغيرة على الوقت لديه؟!.

• حرص الجاحظ والفتح بن خاقان وإسماعيل القاضى على وقتهم:

[*] • روى الخطيب البغدادى في كتابه (تقييد العلم)[23] عن أبى العباس المبرد، قال: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ - عمرو بن بحر إمام أهل الأدب، (163 - 255) والفتح بن خاقان - الأديب الشاعر أحد الأذكياء، من أبناء الملوك، اتخذه الخليفة المتوكل العباسي وزيرا له وأخاً، واجتمعت له خزانة كتب حافلة من أعظم الخزائن، (ت247 هـ)

وإسماعيل بن إسحاق القاضي - الإمام الفقيه المالكى البغدادى (200 - 282 هـ)

فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أى كتاب كان، حتى إنه كان يكترى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب.

أما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه، فإذا قام من بين يدى المتوكل للبول أو للصلاة، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه، فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة أخرج الكتاب من كمه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده.

وأما إسماعيل بن إسحاق القاضى فإنى ما دخلت عليه قط إلا رأيته وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه أو ينفض الكتب.

• حرص الطبيب ابن النفيس على وقته رحمه الله:

ص: 619

وعلى سنن من سبق مضى شيخ الطب في زمانه ابن النفيس رحمه الله، يقول عنه الإمام التاج السبكي: وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاء بعد ابن سيناء مثله. قال: وكان في العلاج أعظم من ابن سيناء. هذا الطبيب الرائد ابن النفيس صنف كتاباً في الطب سماه: (الشامل)، يقول فيه التاج السبكي: لو تم لكان ثلاثمائة مجلد، تم منه ثمانون مجلداً، وكان ـ فيما يذكر ـ يملي تصانيفه من ذهنه. فكيف تم له ذلك؟ ومن أين له هذه المنزلة؟! لقد كان رحمه الله تعالى إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط، ويأخذ في التصنيف إملاءً من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا انحدر، فإذا كل القلم وحفي فليس عنده وقت يبري القلم، وإنما يرمي القلم ويتناول غيره؛ لئلا يضيع زمانه في بري القلم. ......

• حرص الإمام السيوطي على وقته رحمه الله:

يظهر مدى حرص الإمام السيوطي رحمه الله تعالى على وقته ظهوراً بيناً في كثرة مؤلفاته وعِظم قدرها وندرةِ فوائدها إذا لو لم يكن أشح على وقته من دراهمه لما استطاع تحصيل هذا العلم الجم الواسع الغزير ولما استطاع تصنيفه بعد تحصيله، ولا أرى ذلك إلا من توفيق الله تعالى له، فليس كل أحدٍ يُوَفَّقُ للخير.

وكان السيوطي رحمه الله تعالى يلقب بابن الكتب، طلب أبوه إلى أمه أن تأتيه بكتاب من المكتبة، فذهبت أم الإمام السيوطي إلى المكتبة حتى تحضر الكتاب لأبيه، فأجاءها المخاض في المكتب، فولدته بين الكتب، فلذلك لقب بابن الكتب، ولقد طبق عليه ذلك اللقب حتى صار رحمه الله أبا الكتب، ووصلت مصنفات الإمام السيوطي نحو ستمائة، غير ما رجع عنه ومحاه من الكتب. ......

• حرص عبيد بن يعيش على وقته:

[*] • قال عبيد بن يعيش: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدى بالليل، كانت أختى تلقمنى وأنا أكتب الحديث.

• حرص جمال الدين القاسمي على وقته رحمه الله:

[*] • الإمام جمال الدين القاسمي رحمه الله عاش قرابة خمسين سنة وألف ما يزيد عن خمسين مؤلفاً وكانت حياته زاخرة بالعلم والدعوة والكفاح، ومع ذلك كان يقول: يا ليت الوقت يباع فأشتريه.

ص: 620

- ومن الأمثلة ماذكره السمعاني في كتابه: (أدب الإملاء والإستملاء) عن بعض المحدثين (وهذا المثال يدل على أنه لايصرف شيئاً من وقته إلا في الطلب أو الذكر من استغفار أو تسبيح أو تهليل ، فقديماً كانت حلقات العلم يحضرها الجمع الغفير من الناس ، فقد ورد أن مجلس محمد ابن إسماعيل كان يحضره عشرون ألفاً، وذكر السمعاني أن المعتصم الخليفة العباسي المشهور رأى حلقة من حلقات العلم ، فهاله كثرة الجمع ، فأمر بأن يحصى العدد فلم يستطع العاد أن يحصيهم عدداً فأمر بحرزهم فحرزوا المجلس عشرين ألفا ومائة ألف.

والشاهد من هذا الأثر: أن السمعاني رحمه الله تعالى ذكر أن المحدث كان إذا قال: حدثنا وكيع ، ثم بدأ المستمعون ينقلون هذه الكلمة ، كان المحدث في هذه اللحظة لا يضيع وقته ، بل يستغفر الله ويسبح الله حتى ترجع عليه الكرة مرة اخرى.

فانظر إلى هذه الثواني التي أبى أن يُفَرِّطَ فيها ، ثم انظر كيف تذهب علينا أيام وساعات كثيرة لا نشعر بها!

[*] • ويقول بعضهم عن عبد الله ابن الأمام احمد: (والله ما رأيته إلا مبتسماً أو قارئاً أو مطالعاً)

[*] • ذكر الذهبي عندما ترجم لعبد الوهاب بن الوهاب بن الأمين: أن أوقاته كانت محفوظة ، فلا تمضي له ساعة إلا في قراءة أو ذكر أو تهجد أو تسميع.

• ومن الآثار العجيبة التي تبين مدى حرصهم على استغلال اوقاتهم ماذكره الذهبي في كتابه ((السير)) عن داوود بن أبي هند رحمه الله: (انه كان يقول: (كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق ، فإذا انقلبت إلى البيت جعلت على نفسي أن اذكر الله إلى مكان كذا وكذا ، فإذا بلغت إلى ذلك المكان جعلت على نفسي أن اذكر الله كذا وكذا .... حتى آتي المنزل.

وقصده انه يستغل وقته في هذه اللحظات التي ستمر من عمره.

[*] • ويقول غيره عن الخطيب البغدادي: (ما رأيت الخطيب إلا وفي يده كتاب يطالعه).

[*] • قال يحيى بن القاسم: كان ابن سكينة عالماً عاملاً لا يضيع شيئاً من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على (سلام عليكم، مسألة) أي: لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام كان يقول لتلامذته ولإخوانه ومن أراد أن يأتي يستفيته: لا تزيدوا على هذه الكلمات: (سلام عليكم، مسألة) أي: ويدخل في الموضوع.

ص: 621

أما الآن فنعجب مما يحصل من بعض الإخوة، حيث نسمع أحياناً في أشرطة مسجلة حوارات مع العلماء ومع الشيوخ: كيف الحال؟! وكيف الأولاد؟! وكيف الصحة؟! وسمعنا كذا. ويظل السائل يقدم مقدمات طويلة، وفي الآخر يجود بأن يسأل سؤاله، فأمثال هؤلاء العلماء وقتهم ليس ملكاً لنا، ولا ملكاً لأنفسهم، إنما هو ملك الدعوة وملك العلم والوظائف الشريفة، فأحب شيء إلى مثل هؤلاء -بلا شك- أنك تختصر مثل هذا الاختصار، ويمكن أن تزيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وإن كان هذا الإمام يطلب أن يقال: (السلام عليكم) فقط لأجل حرصه على الاختصار في الكلام بقدر المستطاع. والمجتمع الذي يصل إلى هذا المستوى في استيعاب قيمة الوقت وعدم إهدار الوقت هو الأقرب للكتاب والسنة، ولهدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

[*] • قال الشيخ العلامة محمد بن راشد الغاربي: اختار كثير من علماء السلف بحسب ما رأينا في تراجمهم أن يأكلوا الطعام الذي لا يحتاج إلى هضم كثير حتى لا تذهب أوقاتهم سدى في مضغ الطعام، إن كان يحتاج إلى مضغ كثير، فكانوا يعمدون إلى الأطعمة التي تهضم بسرعة، ولا يعمدون إلى الأطعمة التي تحتاج إلى هضم أكثر لان ذلك يؤدي إلى ضياع شيء من أوقاتهم.

فأين نحن من هؤلاء العلماء الذين يحرصون على كل ثانية من وقتهم فكانوا لا يضيعون ثانية من وقتهم ونحن ألان أوقاتنا تذهب سدى ولا ننظمه.

[*] • قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة.

[*] • وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم.

[*] • قال الخطيب البغدادي: سمعت السّمسمي يحكي أن ابن جرير مكث أربعين سنة، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.

[*] • قال التاج السبكي عن الخطيب البغدادي: كان يحاسب نفسه على الأوقات، لا يدع وقتا يضيع بلا فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ.

[*] • قال الفخر الرازي: إنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز.

ص: 622

[*] • كان بعض أصحاب شمس الدين الأصبهاني يقول عنه: كان يذكر أنه كان يمتنع كثيرا من الأكل، لئلا يحتاج إلى الشرب، فيحتاج إلى دخول الخلاء، فيضيع عليه الزمان. [*] • كان معروف الكرخي يعتمر، فأتى من يقص شارب معروف الكرخي، فحلق رأسه، ثم قال للقصاص:" خذ من شاربي "، فأخذ معروف يسبح الله، فقال له القصاص:" أنا أقص شفتك، اسكت "، قال:" أنت تعمل، وأنا أعمل "، وذكروا عنه أنه ما رئي إلا متمتماً بذكر الله، ويقولون: كان إذا نام عند أهله سبّح، فلا يستطيعون النوم.

[*] • وقال ابن عساكر: " كان الإمام سليم بن أيوب لا يدع وقتا يمضي بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ، وكان إذا أراد أن يعدّ القلم للكتابة حرّك شفتيه بالذكر حتى ينتهي من ذلك ".

• ولله درُ من قال:

إذا كنت أعلم علما يقينا

بأن جميع حياتي ساعة:

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعة

ص: 623

{تنبيه} :• إن سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى بحرصهم على أوقاتهم علا قدرهم وسما شأنهم، فقد كتب الله تعالى لهم التوفيق في استثمار فرصة الحياة وجعل الدنيا مزرعةً للآخرة بصدقهم مع الله تعالى، فإنه من المعلوم شرعاً أنه ليس كلُ أحدٍ يُوَفَّقُ للخير وأن الله تعالى لا يُوَفِق للخير إلا من يصطفيه فيستعمله في طاعته ويبارك له في وقته، أما في زماننا هذا فإن من أبرز أسباب تخلف المسلمين تفننهم وتفانيهم في تدمير وإهدار أوقاتهم في المقاهي والملاهي والطرقات وأمام التلفاز والتسجيلات الصوتية والمرئية وفي غير ذلك من المجالات التي لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها إلا تدمير الوقت تدميرا، وتدمير عمره بالعصيان والخذلان واستحواذ الشيطان، واعجباً لهم! فقد شَيَّبُوا نعمهَ الله عليهم بالكفران، ومَرَّروا بالخطأ حلاوة الإيمان،، وهدموا الطاعة بالعصيان، أين هم ممن صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملك الديان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلا شفاههم، حمصاً بطونهم، حزينة قلوبهم، ناحلة أجسامهم، باكية أعينهم، لم يصحبوا العلل والتسويف، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفاراً خالية، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمص لطول السرى شعث لفقد الكرا، قد وصوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والإرتحال، يتلذذون بكلام الرحمن ينوحون به على أنفسهم نوح الحمام.

ص: 624