الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنَ الْمُؤْتَمَرَاتِ إِلَى الْمُؤَامَرَاتِ
الجمهورية الجزانرية في 25/ 12/ 1953
ــ
إننا لم نتتبع، بصورة منهجية، تاربخ العلاقات الاقتصادية التي نشأت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حتى تكون لنا فكرة دقيقة عن المؤسسة الاقتصادية التابعة للتضامن الأوروبي من حيث محتواها المذهبي، وعن الغرض الذي أسست من أجله ولكننا ندرك أهميتها ومهمتها، من المكان الذي تحتله في المقالات الرئيسية التي تنشرها يومياً الصحافة الغربية.
إِننا ندرك هذه الأهمية والمهمة على وجه الخصوص، من خلال التقرير الذي خصصته هذه المؤسسة لدراسة الحالة الاقتصادية الفرنسية، ذلك التقرير الذي نشرت منه جريدة الفيغارو مقتطفات مسهبة في عددها المؤرخ في يوم 14/ 12/ 1943، إننا نجد فيه نقداً مفيداً يتعرض لنظام الحماية الاقتصادي الفرنسي الذي أصبح صعباً بمقتضى الصلات الدولية وانه على مذهب صاحب التقرير، أصبح صعوبة عضوية تواجهها ((مجموعة الدول الأوروبية الأخرى)).
ففي هذا التقرير نشاهد رأي العين بأن فرنسا لم تنجح في تحرير وارداتها في الحدود التي نصت عليها اتفاقية التبادل التجاري الحر، وهي القاعدة ونقطة الانطلاق التي ينطلق منها نقد المؤسسة في هذا التقرير، فسبب الضعف الأساسي ينتج- في نظر هذا النقد- من شدة الحماية الاقتصادية التي تتمسك بها فرنسا لوقاية إنتاجها وراء أسعار لا تستطيع المنافسة في السوق.
فهذا الوضع ربما لا يهمنا كثيراً في صورته العامة؟ ولكن لا يمكن لألفاظ التقرير أن تفاجىء القارئ الجزائري حيث أنه يعرف جيداً، في محيطه الخاص،
الحالة التي تصفها هذه الألفاظ مثلا عندما يقول التقرير: ((لقد تكون وراء التسعيرات والتحديدات الكمية، نظام حماية داخلي، نتجت عنه امتيازات نشأت وتبلورت تؤكدها مجموعة من الوسائل، حتى أصبحت في نظر أصحابها حقوقا مسلمة، دون مراعاة ما يقتضيه ((المردود الاقتصادي)) وتتنوع هذه الوسائلا من مجرد الترتيبات العامة لتقرير الأسعار عن طريق النص القانوني أو طريق المنحات على حساب الميزانية إلى اتفاقات خاصة! سواء كانت مكشوفة أو ضمنية وإلى .. وإلى التدليس على القانون)).
إننا لا نرى في هذه السطور صورة المظهر الداخلي لحالة معينة، بل نراها تعطينا أيضا فكرة صحيحة عن آلية هذه الحالة ونفسيتها. فنحن نجد فيها، على وجه الخصوص، التصوير الكافي لاقتصاد استعماري نعرفه بتلك ((الامتيازات التي أصبحت في نظر أصحابها حقوقا مسلمة)).
وإِننا ندرك هكذا تلك المعجزة- حتى لا نقول تلك الفضيحة- التي يتميز بها سر الحلفة الذي يأخذ ضعف قيمته مرتين وثلاث مرات على بعد خطوات من الحدود الجزائرية، بالأرض التونسية، أو يأخذ ضعف قيمته عشر مرات على ظهر باخرة في ميناء جزائري
…
أي عندما يخرج من يد العامل الجزائري الذي ينتجه، ويدخل في حوزة الأوروبي الذي يراقب سوقه على أساس ((الضمانات القانونية التي تحدد سعره)) له على حساب مصلحة العمال الخاصة وعلى حساب المردود الاقتصادي بصورة عامة. فكل منتوج نصدره الى الخارج كما تنتجه الطبيعة، يكون تصديره خسارة بالنسبة إلى الحالة الاجتماعية في بلد معين، خسارة تحدد اقتصاديا ما يسمى ((البلد المتخلف)).
وربما انتهى التقرير إلى أن درجة النمو الاقتصادي الموائمة، تكمن في اقتصاد لا يكون موزعاً في أيدٍ كثيرة يمنع توزيعه كل تنظيم، ولا مجمعا في الاحتكار، يمنع احتكاره عمليات الرقابة ويسلبها قيمتها ((بمجموعة من الوسائل)).
ولكن إذا كانت بعض البلاد تشكو من مفاسد التوزيع المبالغ فيه، فنحن في
الجزائر نشكو من مساوئ الاحتكار
…
ومن ((احتكار الراية)) أولا (1) الذي أدى بزعمه المحافظة على مصالح فرنسا، إلى تأسيس امتيازات نعرف أثرها السيء على النمو الاقتصادي بالجزائر خلال القرن. إذ أن هذا الاحتكار لم يسمح للجزائر أن تستفيد من المنافسة بين شركات الملاحة، بالرغم من أن ذلك لم يحقق أي فائدة للفرنسي المتوسط في حياته
…
إن الامتياز لا يعود بالفائدة إلا على صاحبه
…
وصاحب الامتياز، بما أنه يعلم جيداً المناقضة الموجودة بين الصالح العام ومصلحته الخاصة، لا يتورع عن استخدام أي وسيلة تعزز مصلحته، كما يلاحظ ذلك تقرير المؤسسة الاقتصادية للتضامن الأوروبي (مؤسسة السوق المشتركة) ولكن مهما يكن بتلك الوسيلة من تلوث، بوجه عام فإنها تصبح أكثر تلوثا
…
في البلاد المستعمرة.
إِننا نذكر تلك الحملة الصحافية التي قادتها صحيفة فرنسية، سنة 1938، من أجل أن تثبت للرأي العام الفرنسي، الذي أبدى استياءه إزاء بعض أسعار الفواكه أو الخضراوات المستوردة من الجزائر، أن غلاء تلك الأسعار ناتج عن بطء العامل الجزائري الذي يقوم بشحن البضاعة بالموانئ الجزائرية، وكانت الصحيفة تريد أن تخفي بهذه الدعوة والدعاية الحقيقة البسيطة وهي أن الأسعار ارتفعت بسبب احتكار الملاحة. ولم تتنازل هذه الصحيفة بطبيعة الحال إلى نشر التصحيح الذي وجهناه لها بهذا الصدد، ومما يجب ملاحظته بهذه المناسبة هو أن النقابة الفرنسية لعمال الشحن لم تتقدم باحتجاج، دفاعا عن ((الزملاء)) الجزائريين أو عن مجرد الحقيقة
…
فبقيت الوصمة لاصقة بالعمال الجزائريين في نظر الرأي العام الفرنسي.
وكان من الممكن في نفس السنة أن نلاحط ملاحظة أخرى، تدل على الثقل الذي يضعه ((احتكار الراية)) على الحياة الجزائرية بصورة واقعية: لقد بدأ
(1) إن قانون ((حتكار الراية)) يقضي أن لا نأتي واردات الجزائر ولا تذب صادراتها إلا على ظهر السفن التي ترفع الراية الفرنسية.
باعة لحم الخيل بفرنسا يستوردون بضاعتهم حية من الجزائر، وكان في ذلك فرصة لتنشيط إنتاج من يقوم بتربية الخيل في الجزائر، ومن ناحية أخرى لتعديل أسعار اللحم في السوق الفرنسية، لمصلحة المستهلك الفرنسي.
إِلا أنه، لم يكن لتلك الفرصة الأثر الطبيعي في الاتجاهين المذكورين، فقد امتصه احتكار الراية بتعديل خفي أتوماتيكي لأسعار النقل، فقد جاء هذا التعديل يمتص بصورة رياضية الفائض بين أسعار فرنسا وأسعار الجزائر، دون أن تستطيع هذه المرة صحيفة ما أن تتهمم العمال الجزائريين بالبطء في العمل
…
لأن الخيل تشحن نفسها بنفسها.
وليس في النفسية التي تسيطر على هذه التصرفات الغريبة كلها أي شيء يمت إلى المصلحة القومية، لأنها كلها تضحي على حد سواء بمصلحة الشعب الفرنسي ومصلحة الشعب الجزائري .. إنها طبقة من الفنيين Technocratas ومن كبار المقاولين، ومن بأيديهم إدارة الشركات الكبيرة، تدير مباشرة أو بوسطاء تختلف درجاتهم ومناصبهم، شؤون البلاد لمصلحتهم فقط.
وهكذا ندرك حقيقة ما يشير إليه تقرير المؤسسة الاقتصادية OEGE عندما - يتكلم عن ((اتفاقات مكشوفة أو ضمنية))
…
كما ندرك إلى أي مؤامرات تنتهي أحيانا هذه الاتفاقات في بلد مستعمر، يستهدف النطام الاقتصادي فيه التقليل من العمل وحط قيمته، وهنا نلمس مناقضة غريبة، لأن من طبيعة القليل أن ترتفع قيمته
…
ولكن العبقرية الاستعمارية تستطيع قلب الواقع والإتيان بالمحرفات التي تحطم الحقائق وتصيرها هباء منثورا.
***