الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حِقْدٌ عَلَى الإِسْلَامِ
الجمهورية الجزائرية 11/ 9/ 1953
ــ
إن جلالة الملك محمد الخامس احتل نهائيا مكانا سامياً في ذكرى الأجيال المقبلة، ودخل زمرة الوجوه الكبيرة التي تشع في التاريخ نور الإسلام.
إِن الأحداث التي جرت في مراكش أخيراً لا زالت نتائجها معلقة، في تلك المأساة التي تتخللها أحيانا تفاصيل مضحكة
…
ولكن هذا الجانب المضحك يشعرنا أن من أراد أن يضحك في هذه القصة
…
على غيره، قد بدأ يشعر أنه أضحك الغير عليه.
إن هؤلاء القوم الذين صنعوا المسخرة، والذين لا نعرف هل يصح أن نعتبر على رأسهم الاستعمار الفرنسي الذي يتزيا بزي الأكاديمي (1)، أم الاشتراكية الفرنسية المتحلية بحلية قصر الإيليزيه (2) - تلك الاشتراكية التي أظهرت في مناسبة أخرى كيف تجيد لغة الصعاليك (3) - إن هؤلاء القوم اعتقدوا أنهم سوف يصنعون تاريخ الوطن المراكشي بنسج بعض القصص مستوردة من مدينة مراكش (4).
ومن الطبيعي أن يفكر هؤلاء القوم في إضفاء ((اللون المحلي)) على هذه القضية
…
وفكرت الكي دورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية) فعلا في تجنيد كل من يمت بصلة إلى صبغة الحقيقة وصناعة الأوهام
(1) إشارة إلى المريشال جوان الذي لعب دوراً كبيراً فى خلع الملك ومن المعلوم أنه عضو بأكاديمية الأدب.
(2)
إشارة إلى رئيس الجمهورية روفي كونى صاحب قصر الإليزيه بمقتضى منصبه.
(3)
إشارة إلى الوزير اليهودي جول موش الذي تفوه بكلمه ((بيكو)) بمناسبه زيارة الملك محمد الخامس لفرنسا.
(4)
مدينة الباشا الجلاوي الذي كان يضع هذه القصص تلبية للاستعمار.
في صفوف الصحافة الكبرى، كي يوهموا الناس أن القضية لا تخرج عن نطاق ((أزمة مراكشية داخلية)) ليس للاستعمار الفرنسي فيها ناقة ولا جمل.
وعلى هذا شرع الكي دورسيه في توزيع الأدوار على ((رؤساء من الأهالي))
…
ولكن الاستعمار الفرنسي لا يتمتع بمخيلة كبيرة، حتى إنه لا زال يعيش على الأسلوب الذي نعرفه في القرن التاسع عشر.
وهكذا فإنه اكتشف أولا لصين يستطيع تسخيرهما لأي شيء يريده
…
ثم شخصا ثالثا مستعداً لقبول ما يوضع في كفه.
وهذا الثالوث المزركش دخل كثالوث ((فراتليني)) المشهور في عالم السيرك، دون أن يكون لهم ما لهؤلاء البهلوانات من كرامة، دخل هذا الثالوث في حلبة التمثيل حيث يقوم أحدهم وهو في مرحلة بدائية لا تحركه إلا الدوافع المنحطة أو المصالح المشبوهة كرجل يتاجر في ((الرقيق الأبيض))، أو كباشا ولاه الشيطان على مدينة مراكش، فهذا الرجل تولى دور ((المراقب الأخلاقي)) في القصة التي أخرجها لنا الاستعمار، وهكذا برز شخص الجلاوي.
ثم وزع الدور الثاني- دور ((الفقيه العارف بحدود الله)) على فرد منحط من الطبقة البرجوازية، نكون قد وصفناه بوصفه الحقيقي إذا قلنا ما يتمتع به من احتقار أهالي مدينة فاس، مسقط رأسه .. وهكذا نعرف شخص الكتاني.
أما الشخص الثالث، الذي قذفت به يد قوية في حلبة المسرح كي يقوم بدور الملك
…
في هذه القصة، فهو مستعار من تلك الفئة من الجمهور الفاسي
…
التي تتمتع بالجسم الدسم المشحم، والتي نراها كل صباح تهرع في سوق اللحوم وبيدها السلة
…
أعني أنه شخص لا يستحق أن نسميه.
فهذا هو كل الجهاز .. وعلبة الصبغة المجهزة لإِعطاء القضية ((اللون المحلي)).
وظن الاستعمار أنه سيوهم الناس بهذا الجهاز، يوهمهم بأنها ليست قصة ملفقة، ولعبة معدة، وتمثيلية موضوعة، بل هي التاريخ نفسه .. بلحمه وعظمه!!
ولكن هذا لم يخف الحقيقة .. لأن أذن الاستعمار كانت مكشوفة .. فلم يتوهم أحد كما كان يُراد إيهامه، سواء بباريس أو بالرباط أن الجيوش التي طوقت القصر الملكي، وأن المدافع التي صوبت إلى المدينة العربية، وأن الدبابات المستعدة للطوارىء .. وأن
…
وأن كل هذا الجهاز الحربي المعد بكل وضوح ضد الملك وشعبه
…
ما هو إلا ((إرادة الشعب المراكشي)).
ولكن ما منع هذا الوضوح الصحافة الكبيرة من أن تتابع فضيحتها فيتكلم أحد المراسلين عن ((المبايجة)) ويعني لا شك ((المبايعة)) دون أن يدرك معنى هذا المفهوم، ثم يتكلم عن الترتيبات الحربية التي اتخذتها السلطات، ضد الشعب المراكشي، ثم يعود إلى الدرس الذي لقنته لهم السلطات، فيكتب:((إن الشعب المراكشي قد اختار الملك الجديد، في حرية تامة)).
ولكن يبدو أن هذا الاستنتاج المولد لم يخف الحقيقة عن نظر صاحبه على وجه الخصوص، إذ نراه، كأنه ينتقم لضعف منطقه وفشل محاولته، فينتقم بالخساسة المعروفة عن أمثاله، ينتقم من شخص الملك بالكلام السخيف عن ((حريمه)) (1).
ومما يجب ملاحظته، أنه كلما فقد الأدب الاستعماري أنفاسه، وبرهانه، فإنه يلجأ إلى خردة ((الكليشيهات)) القديمة، فيتهم الخصم بـ ((تعدد الزوجات)) و ((الحريم)) و ((التعصب الإِسلامي)) و ((الشيوعية))
…
هذا إذا قرر الاستعمار إعدام حشود بشرية بكاملها. أو يتهمه بـ ((النزعة الأمريكية))، إذا أراد أن يغتال رجالا مثل فرحات حشاد.
وربما يريح أعصاب مراسل جريدة استعمارية فرنسية أن يتحدث عن ((زوجات السلطان)) وعن
…
أنه بصاق الحقد الطاغي.
وهناك أصحاب السر، العارفون الوارثون بنص العقد الصريح الذين
(1) وكلمة ((حريم)) تؤدي في اللغة الفرنسيه غير المعنى الذي تؤديه في اللغة العربية، لأن تعدد الزوجات يعد في الغرب وصمة لا تغتفر.
ورثوا الجمهورية الثالثة (1)، والذين يتفضلون في كل أسبوع في جريدة محلية؛ بالإِدلاء بإرشاداتهم للجمهورية الرابعة.
وهم مجدون في ذلك، بل وربما هم مخلصون بإخلاصهم إلى مصالح معينة، فهم على كل حال لا ينخدعون لمهزلة مراكش.
ولكنهم ينخدعون بمجرد ما يحاولون تحليل الموقف بمراكش، فهم يرون في كل ما حدث يد الجامعة العربية، أما الأمية والبطالة والبؤس، كل هذه الأمراض التي تجعل شعوب شمال أفريقية الثلاثة تعيش دون كفاف الحياة، وحيث يريد الاستعمار أن يبقيها فيه، لأنه يرى في ذلك الطريقة الوحيدة لبقائه، إن هذه الأمراض ما هي في نظر هؤلاء العارفين، إلا الأسباب المصطنعة التي تبرر بها موقفها ((نخبة تستعجل استلام الحكم)).
فهذا هو المآل المخزي الذي يؤول إليه التفكير عندما يتجرد من الوازع الأخلاقي ويجرد منه الأمور الإنسانية، إذ يؤول إلى استنتاجات مدهشة، حتى يكاد منطقهم يقرر أن المجازر التي وقعت بتونس، والمذابح التي حدثت بمراكش والتصفيات التي صفت الشباب الجزائري بالنار، إن كل هذا ما كان إلا من عمل الضحايا أنفسهم، ضحايا تلك المجازر وتلك المذابح وتلك النار.
ومن نتائج هذا المنطق الغريب، إذا قسنا على منواله أن نقول ((إن الملك فضل أن يتنازل عن الحكم، وهو ذلك الوجه الفريد في نبله بين صفوف النخبة المغربية، لأنه من تلك النخبة التي تستعجل استلام الحكم .. )).
إن منطق الاستعمار يسلب الأشياء معناها، حتى تصير بعيدة عن الفهم.
ولكن الواقع يبقى فوق كل التأويلات، فهو يتكلم بلغته الواضحة، المضبوطة، التي لا تحتمل المناقشة.
إن الواقع هو أن السلطات الفرنسية ألقت القبض على جلالة الملك محمد
(1) من العهود الجمهورية الخمسة العهد الذي يعد مطابقا لأوج التوسع الاستعماري الفرنسي.
الخامس، والبوليس الذي قاده إلى محطة الطيران لم يترك له حتى الوقت اللازم لكي يرتدي ملابسه، إن جلالة الملك فارق أهله وقصره وشعبه ووطنه في لباس النوم (بيجاما) لم يستطع ستره إِلا بجلابة تقليدية.
والعبقرية الاستعمارية لم تتورع عن أي تفصيل في الانتقام من الرجل وامتهان كرامته، لأن الاستعمار يتمسك بالمادة وبالهوى في الوقت نفسه. لقد انتقم من الرجل الذي عارض تخطيطاته الموضوعة من أجل الاستبداد والتفقير المادي والأخلاقي والعقلي، ولم ينس تفصيلا من التفصيلات في هذا السبيل.
بل إِنه نسي
…
بعض الأشياء، لأنه ليس من طبيعته أن يدركها: إِن الملك أخذ طريقه إلى المنفى ليلة ((العيد الأكبر))، عيد الأضحى، عيد القربان.
وفي ذلك رمز لا ينسى التاريخ أن يسجله. ثم إن هذا الملك قد أبعد عن وطنه لأنه أراد أن يسن له دستوراً ديمقراطياً، فهو قد ترك في قلب شعبه حب الديمقراطية مقروناً باسمه.
وفي هذا
…
انتصار باهر يأتي كصفعة للاستعمار: فالديمقراطية تهاجر مع الملك وتذهب معه إلى المنفى، تحت رعاية السلطات التي تدعي أنها تأتي يالديمقراطية من بلادها.
والذين يحاولون إضفاء ((اللون المحلي)) على هذه المأساة لا يستطيعون أي شيء لإِيهام الناس، لا يستطيعون ذلك أو لا في الحقل الذي يهم بالخصوص ((الكي دورسي)) الذي لم يفلح في الواقع إلا في نصب حكم في الرباط لا قيمة شرعية له ولا دولية، لأن الحكم الشرعي هاجر مع صاحبه ولا يبقى من يتولاه بعده بصورة شرعية إلا خليفته في طيطوان، في المنطقة الاسبانية.
وهكذا تبين أن ((الكي دورسي)) وعصابة الرباط قد خسرا ما كان بأيديهم من عوامل الكسب خى بالنسبة إلى ((السياسة التقليدية)) الفرنسية بمراكش، بينما لا تخص نتائج إبعاد الملك والظروف التي تحيط به السياسة فقط.
فبقدر ما تتوضح هذه النتائج، سيجد الاستعمار نفسه مكشوفاً مهما تكن محاولات من قام بهذه المؤامرة، ومن ساندهم، ومن أيدهم بالأموال أو أدلى لهم بالإِرشادات.
وهكذا يستقر الأمر بالتالي على نتائج غير منتظرة، سيكون حتى لعلم الكلام فيها نصيبه إذا اعتبرنا أن الاستعمار يأتي في القرن العشرين، بالحجة القاطعة، على أن الروح البشرية لا يعتريها التغيير والفناء، حيث إِنها استطاعت أن تواجه جرائمه في البلاد المستعمَرة، وما كانت لتستطيع ذلك لو لم تكن غير قابلة لتغيير، لأنها حقيقة من عنصر الخلد.
ولكن القضية تتضمن نتائج أخرى تهم على وجه الخصوص الوضع البشري وهي نتائج بسيطة:
إن الشعوب الثلاثة الأفريقية ستفكر في التحدي الغريب الذي قذفه في وجهها الوزير بيدو عندما قال: ((إنني لن أترك الهلال ينتصر على الصليب)).
قاتلها الله كلمة يدوي فيها صوت القرون الوسطى، فيكشف عرضاً كنه القضية.
لذا يجب أولا أن توضع هذه الكلمة في معناها الصحيح، أعني أن توضع في فكر صاحبها، مجردة من اعتبارات الدبلوماسية.
إِن المسلم يعلم أن الإِسلام لم يعتد على أي مفهوم من المفاهيم المسيحية خلال القرون، وثقته في هذا الصدد ليست ثقة عمياء قائمة على عقيدته، بل ثقة إيجابية يدركها عقله.
وهو بالإِضافة إلى هذا، يتحدى كل من له اختصاص في تزييف التاريخ، أن يأتي بما يناقض هذه الحقيقة.
إن كل فتوحات الإسلام لم يسجل فيها التاريخ مذبحة واحدة تماثل تلك التي يفاجئنا بها الاستعمار من حين لآخر، ولم يقتل طفلاً واحداً أمرت بقتله سلطة عليا.