الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُكْتُبْ بِضَمِيرِكَ
الجمهورية الجزائرية في 4/ 6/ 1954
ــ
لا ينبغي لمن يكتب أن يكون مجرد آلة كاتبة، تنقل لنا ((نسخة)) دون أن تقدر للكلمات التي كتبتها أي نتيجة اجتماعية. إن على من يكتب واجبا إزاء الكلمات التي يكتبها، يجب عليه أن يتتبعها، خارج مكتبه، في معركة الحياة والصراع الفكري. أن يتتبعها في عملها في المجتمع
…
يجب عليه أن لا يغفل تلك الصلة- صلة السبب بنتيجته- التي تنشأ في إطار مشكلة اجتماعية واحدة، إذ تنشأ بصفة أوتوماتيكية فكرة هي علاقة بين من يكتبها وبين من يصيرها أو يحاول أن يصيرها عملا
…
ومن هنا ينشأ واجب آخر لمن يكتب، هو أن تكون له فكرة صحيحة بقدر الإمكان عن شخصية القارئ، الذي يقوم بدور رئيسي في تقرير قيمة الأفكار الاجتماعية، لأنه هو العامل المحول الذي يحول الفكرة فيصيرها واقعا محسوساً في سلوكه أو شيئا ملموسا في محيطه.
وهذه الصلة ليست ذات اتجاه واحد بل اتجاهين: فإذا كان الكاتب يوجه القارئ بما يكتب، فإِن القارئ يوجه أحيانا الكاتب بموقفه إِزاء الأفكار.
فرجل الشعب قد تكون له في مشكلة معينة آراء أقرب للصواب من الرجل المثقف، لأن الأول طليق النظر لا يحد بصره منهج معين، بينما ينظر الثاني إلى الأشياء من خلال منهج يضع على بصره ((شوافات)) كتلك التي توضع على عيني البغال أو الحمير، كي لا ترى ما هو خارج عن طريقها.
والواقع أن القارئ في الجزائر غالبا ما يكون رجل الشعب لا رجل ((النخبة)) فالنخبة عندنا لا تشعر بحاجة للمطالعة بعد تخرجها من الجامعة، وعملها الفكري
ينتهي- لأسباب اجتماعية ونفسية موروثة- عند تحصيل الشهاد
…
أي عند النقطة التي تبتدىء منها النخبة، في البلاد الأخرى، العمل الفكري الجدي
…
وبما أن رجل الشعب هو الذي يقوم بدور ((القارئ)) في الجزائر، فإنه يجب علينا أن نقدر الصعوبات التي تعترضه في هذا الدور. والواقع أن هذه الصعوبات التي تعترض رجل الشعب كـ ((قارئ)) ليست من الجانب الفكري، فرجل الشعب على غاية من الذكاء، لأنه يمارس الأفكار بقلبه وعقله معا، بينما لا يقرأ ((المثقف)) عندنا إلا بعقله. فرجل الشعب يتمتع إذن بالبداهة الصادقة، وقوة الإدراك لأنه يرى الأشياء بنور قلبه الصادق
…
شريطة أن لا تعترضه الصعوبات الشكلية، الناتجة عن تعقد اللغة المستعملة، وتشابه المفردات، وغموض بعض الكتاب المعجبين بسحر البيان وزخرف الكلام.
أما فيما يخصني، فربما أعطيت في بعض الظروف دروساً لرجل الشعب الذي يقرأ، لكنني كثيرا ما أخذت منه دروساً في ظروف أخرى (1) وفي موضوعات شتى
…
ومهما يكن الأمر، فإِن القضية تتضمن وجهين. فإذا اغبرنا القارئ كـ ((تلميذ)) من ناحية، فإنه يجب أن نعتبره كـ ((أستاذ)) من ناحية أخرى
…
في الظروف التي يدلي فيها بأفكاره، وهو يدلي بها دائما في منتهى الوضوح.
أليس له الحق إذاً أن يطالبنا بالوضوح نفسه، عندما نقدم له شيئا من أفكارنا؟.
فهذه الاعتبارات كلها قد أوحت لي بها ظروف مختلفة من ظروف الصراع الفكري، من بينها تلك المقالة التي نشرتها تحت عنوان ((أقلام وأبواق الاستعمار)).
لقد هدفت في كتابة هذه المقالة إلى أن أبين أن الاستعمار تواق إلى الانسجام مع الظروف الجديدة، وكيف يختار الوسائل المناسبة لهذه الظروف. أو بعبارة
(1) مثل الظروف التى جعلتني استمع لتعليق العامل الجزائري الذي اشرت إليه في مقالتي السابقة.
أخرى، كيف يتقدم ويتحضر ولكن الصحيفة التي نشرت مقالتي أرادت أن يكون بجانبها مقالة افتتاحية بعنوان ((تقديس الشخص)) كأنها أرادت بذلك إلقاء أضواء هامشية على مقالتي، بحيث يوهم القارئ الشعبي، أن المقالتين متقاربتي المعنى والهدف. بينما الأمر على خلاف ذلك تماما. إِذ مقالتي تهدف إلى لفت نظر هذا القارئ إلى خطة جديدة يتبعها الاستعمار في الصراع الفكري في بلادنا، حيث يجد حتى في صفوف شبابنا المثقف، الطالب الذي يتسخر ليكون بوقا من الأبواق، أو قلما من الأقلام، التي يستخدمها الاستعمار للتعبير عن فكرته، بينما تصف المقالة الأخرى عادة متغلغلة في نفسية ((القابلية للاستعمار)) ومشخصة في ((تقديس الشخص)). وكأنما ((القلم)) الذي قام بكتابة هذا المقال، كان يهدف إلى لفت ذهن القارئ الشعبي، من موضوع معين إلى موضوع غيره، في المعنى والاتجاه، فيلتبس الأمر على هذا القارئ وتنشأ صعوبة في إدراكه للأشياء.
وقد وقع فعلا هذا الإلتباس في ذهن قارئ شعبي دار بيني وبينه الحديث صدفة في الموضوع، فرأيته فهم المقالة التي نشرتها لا وفق نصها ومعناها، ولكن في ضوء ما نشر بجانبها، فأدركت أن الاستعمار يحكم الخطة في الصراع الفكري.
***