الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَمَنُ حَظَارَتِنَا
الجمهورية الجزائرية في 9/ 10/ 1953
ــ
إن شيئاً يسمى ((الضمير العالمي)) أراد أن يدخل الوجود، فقدم أوراق اعتماده، قدم ((ميثاق الأمم المتحدة)) و ((التصريح بحقوق الإِنسان)).
ولكن الروح ((الديمقراطية)) التي أشرفت على تحرير هذه الوثائق التاريخية، لم تكن ديمقراطية إلا اسماً، إذ أنها نسيت فيما حررت أن تنص على قضية ((الشعوب)) وهكذا انصرف اهتمامها إلى ((الدول)) وفي غمرة ذلك نسيت البتة أن تذكر شيئاً بخصوص الإِنسان الذي جعله الاستعمار في وضع شاذ يتمثل في ابن المستعمرات.
وهكذا لا نجد في اهتمام تلك الوثائق بمصلحة الإنسان (سواء باعتبارها من خلال الجماعات أو الأفراد) إلا مزيداً من التأكيد والتقرير لمصلحة الكبار.
وهذا ((الضمير العالمي)) الذي يلتزم السكوت بحكمة وهدوء، عند الضرورة، لا يجد شيئاً يقوله من أجل بعض ((القضايا الداخلية)) حسب تعبير الاستعمار في حديثه عن القضايا المتصلة بالبلاد المستعمرة ..
وهكذا أصبح البلد المستعمَر، بمقتضى هذه المسلمة، ((ميداناً داخلياً)) لا يتدخل فيه ((الضمير العالمي)) أي الأمم المتحدة.
وهذه المسلمة ينتج عنها مما ينتج تجاه البلاد المستعمرة، أن لا تبقى سلطة يرجع إليها الشعب المستعمَر، ولا قانون يحمي ابن المستعمرات.
إن هذه النتائج، تثير الدهشة، سو اء اعتبرناها بالنسبة للجماعات أو الأفراد، حيث إن النظام السياسي إذا لم يكن تحت سلطة ورقابة الشعب، فإنه سوف ينقلب حتماً ضد الشعب.
وهذه الحقيقة، إنما نراها بأعيننا في كل خطوة وكل كيلو متر عندما نسير على طرق البلاد الجزائرية .. فعندما يستوقف رجال الدرك الفرنسي عربة على إِحدى هذه الطرق، وتبصر أعينهم أن السائق والمسافرون من المسلمين، فإن تمثيلية غربية تبتدئ. فمجرد عملية الرقابة على الطرق تصبح إذاً عملية تنقيب وفحص دقيق.
وإذا كانت العربة للنقل العام، وبها عدد كبير من المسافرين، فإن هذه التمثيلية تتخذ طابع استفزاز، وإرهاب ومساومة في وقت واحد. حيث تتوجه الرشاشات إلى الصدور وتصبح الكلمات قذفاً وشتماً في الوجوه.
ثم تنتهي التمثيلية بخاتمتها العادية: فيحرر رجال الدرك مخالفة لصاحب العربة، مخالفة تستمد حيثياتها القانونية من اعتبارات كثيرة. مثلا لأن بأنف السائق زائدة لحمية .....
ومن البديهي، أن هذا الوضع ((الديمقراطي)) الذي يسيطر على البلاد، يسيطر عليها تحت إِشراف السلطات التي تراقب هذه العمليات في جميع الأنحاء، تراقبها في نطاق المديرية وفي نطاق الوطن بصورة عامة.
والصحافة الاستعمارية تنقل كل يوم هذه الأنباء، وتصنف ((القائمة الفخرية)) لهذه الانتصارات المسلحة على الشعب الجزائري الأعزل
…
وفي ميدان آخر، ميدان الاقتصاد، نجد كل الآلات، التي تحرك وتقود هذا الميدان، توضع بالخصوص في يد ((الأوروبي))، بينما تعطى الأولوية، والامتيازات الخاصة للمسلم في ميدان دفع الضرائب حتى أن قائمة ((الأرباح غير المباحة)) التي وزعت على سكان قسنطينة سنة 1946 أو سنة 1947، وكان مبلغها 250 ألف جنيه (بعملة ذلك الزمن)، وزعت في الحقيقة على التجار المسلمين بنسبة 90% بينما لم يكونوا هم المنتفعين من تلك الأرباح خلال الحرب العالمية الثانية.
وأما في ميدان العمل، فإن الطبقة الكادحة الجزائرية تعلم أي مكان تشغله
في اهتمام أصحاب الأعمال الاستعماريين، وهم الذين بأيديهم وسائل التشغيل جميعها، إذ زيادة على إشرافهم على القطاع العام، يتصرفون في أغلبية القطاع الخاص. وقد تأتيني في يوم واحد من جهتين مختلفتين أنباء تدل على أن العامل الجزائري يعاني وضعاً واحداً في أي ناحية من البلد: ففي مدينة الجزائر أو في مدينة سكيكدة يُرفض العامل المسلم كلما وجدت الفرصة لتشغيل الأوروبي حتى لا يبقى مكان للأول إلا في الأشغال الشاقة، في الزراعة وفي المناجم حيث يجد العامل المسلم من يشغله، ولكن في أي جحيم!!
هذا بالنسبة للعموم. أما بالنسبة للفرد على وجه الخصوص، فالقضية أكثر حدة ودقة، حيث ((المعامل الاستعماري)) يفرض على الفرد، لتصبح أحياناً مواهبه العقلية غير لازمة واجتهاده الشخصي فاقد الجدوى، ولكي لا يشعر ابن المستعمرات أن الخبز ((حق)) مقدس يحققه له مجهوده وعرقه، بل هو ((منحة)) يمنحها له المستعمِر.
ولكي يطبع الفرد بهذه النفسية، نفسية العبد الذي يأكل من نعمة سيده، فإن كل الوسائل مباحة، وعلى سبيل المثال: فإذا كان الفرد متعلماً، فلا يقال إنه تعلم بل يقال، في منطق الاستعمار، ((نحن علمناه)).
ولا يقتنع الاستعمار بحرمانه من حق العمل في القطاع العام، بل يتبعه حتى في حياته الخاصة كي يمنعه من أن يتصرف في شؤونه ووسائله طبقاً لمصلحته، إذا استطاع الفرد أن يُكوِّن لنفسه هذه الوسائل.
وحيث إن إرادة الاستعمار تقتضي وضع الإِنسان في عالم الأشياء، فإن حكمة إبليس تقتضي أن الإنسان الذي وضع هذا الموضع، لا يجوز له أن يتكلم لغة الإنسان، لأنه ((شيء)) والشيء لا يقول: فكري، وأجرتي، ولقمة عيشي.
ولست أدين، فيما أقدم هنا، إلى بعض آراء تُخطئُ أو تصيب، ولكن أدين إلى وقائع محددة شاهدتها بنفسي، وسجلتها تجربتي الاجتماعية منذ ربع قرن.
وقد ابتدأت هذه التجربة وأنا شاب بقرية تبسة، قبل أن أذهب إلى باريس للدراسة العليا، فذهبت إِلى مصلحة الطرق والكباري أسأل عن شروط المقاولة لنقل مواد البناء، لأنني كنت أمتلك بعض وسائل النقل.
فعوضاً عن أن يعطيني المعلومات المطلوبة منه فضل من يتكلم باسم المصلحة، أن يعطيني إِرشاداً فقال لي:
- من الأحسن أن تبيع ما تملك من وسائل النقل إلى مسيو فلان، ومسيو فلان.
وكان هذان المسميان من سكان المدينة الأوروبيين. واستمرت هذه التجربة، بطبيعة الحال، حتى إنني لخصتها بعد ربع قرن، في كتاب ((شروط النهضة)) في هذه الجملة، ((فهو يعيش كأن يداً خفية، وتارة مرئية، تشتت معالم طريقه، وتبعد باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، حتى لا يدركه أبداً.))
وعندما أتأمل تفاصيل هذه التجربة بعد ربع قرن، فإنني أدرك ما هو ثمن حضارتنا، إنه ثمن باهظ، لا يمكن أن يدفعه أحد، ولا الاستعمار على وجه الخصوص.
***