المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحية إلى داعية اللاعنف - في مهب المعركة

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدّمة

- ‌مقَدِّمَة المؤلف

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُالاِسْتِعْمَارُ تَحْتَ الْمِجْهَرِ

- ‌سِيكُولُوجِيَّةُ الاِسْتِعْمَارِ

- ‌الاِسْتِعْمَارُ يَفْتَحُ وِجْهَةٌ ثَالِثَةٌ فِي التَّارِيخِ

- ‌الْفَوْضَى الْاِسْتِعْمَارِيَّةُ

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِيفِي السِّيَاسَةِ

- ‌حِقْدٌ عَلَى الإِسْلَامِ

- ‌تَعْلِيقٌ

- ‌الْمَلِكُ مُحَمَّدَ بْنُ يُوسُفَ ((يَعتَرِفُ))

- ‌بِلَا خَوْفٍ وَمِنْ دُونِ تَأْنِيبٍ

- ‌مِنَ الْمُؤْتَمَرَاتِ إِلَى الْمُؤَامَرَاتِ

- ‌مِنْ مُؤْتَمَرِ كُولُومْبُو إِلَى مُؤْتَمَرِ جِنِيفْ

- ‌أَقْلَامُ وَأَبْوَاقُ الاِسْتِعْمَارِ

- ‌تَعْليِقٌ

- ‌رَجُلٌ وَوَجْهَانِ

- ‌بَصِيصُ الْأَمَلِ

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُفِي الْحَقْلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ

- ‌مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ التُّرَابِ الْجَزَائِريِّ

- ‌قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ

- ‌تَهَوُّرٌ أَمْ تَطَوُّرٌ

- ‌ضَرُورَةُ مُؤْتَمَرٍ جَزَائِرِيٍ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ

- ‌تَعْلِيقٌ

- ‌تَفَاهَاتٌ جَزَائِرِيَّةٌ

- ‌بَاعَةُ الْحَضَارَةِ

- ‌ثَمَنُ حَظَارَتِنَا

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُفِي حَدِيقَةِ الثَّقَافَةِ

- ‌بَيْنَ الْأَفْكَارِ الْمَيْتَةِ وَالْأَفْكَارِ الْقَاتِلَةِ

- ‌أُكْتُبْ بِضَمِيرِكَ

- ‌النَّقْدُ السَّلِيمُ

- ‌وِحْدَةُ الثَّقَافَةِ فِي الْهِنْدِ

- ‌تَحِيَّةٌ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّاعُنْفِ

- ‌رُومَان رُولَان وَرِسَالَةُ الْهِنْدِ

- ‌الْأَسَاسُ الْغَيْبِيِّ لِفَلْسَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ

- ‌الدِّرَاسَاتُ الْحَدِيثَةُ وَالتَّصَوُّفُ الْإِسْلَامِيُّ

الفصل: ‌تحية إلى داعية اللاعنف

‌تَحِيَّةٌ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّاعُنْفِ

الشاب المسلم في 3/ 1/ 1953

ــ

في عالم يسوده القلق، وهو يتأهب مرة أخرى الى انطلاق الوحشية والعنف، يبدو أنه ليس! من العبث أن نذكر من حين إلى اَخر سيرة غاندي.

لقد كنت في تلك الليلة أستمع الى إِذاعة مؤثرة

اجتهد من نظَّمَها في جمع شهادات من بعض الشخصيات الحية التي تستطيع تذكر نبذة عن غاندي، أو تدلي بذكرى احتفظت بها عن حياته، حتى تستطيع بذلك أن تكشف لنا جانبا ما زلنا نجهله في محيط تلك ((النفس الكبيرة)) (1).

وكان يتخلل الإذاعة صوت متخافت يرتفع من حين إلى آخر ببعض المقتطفات من الكتب المقدسة فهذه مقتطفة من دي ((الابانيشاد)) أو تلك من ((البهاجفاتجيتا))، وكان هذا الصوت يثقب من حين إلى آخر كلام المذيع المتأثر، بنبرة خاصة كي يحيطه بهالة من القداسة.

ولكن اللحظة المؤثرة كانت دون أي شك عندما ارتفع مرتين صوت غاندي نفسه، مسجلا على شريط هو من أثمن مخلفات الفقيد الكبير.

نعم

إِننا لا نفهم هذه الكلمات المكشكشة التي تنفلت من رئة استنفدت قوتها، ومن فم فقد أسنانه

ولكن هذا الصوت المتخافت الغريب، صوت من وراء القبر، يستولي على شعورنا، ويأخذ إحساسنا

إنه قوة غير مرئية، قوة لا يدركها التحديد، ولكننا نشعر بطاقتها الجبارة .. فهي تأخذ قلوبنا وتتركنا فاقدي الأنفاس لحظة

بعدما يسكت ذلك الصوت المتخافت

(1) اللقب الذي يلقب به غاندي أصدقاؤه: المهاتما.

ص: 149

ثم يستعيد العقل نفسه ..

إن هذا الهمس الذي مر على الأمواج، يمثل بالضبط نقيض زوبعة الكلام التي تنتظر زوبعة من التصفيق، إنها نبرة اللاعنف ذاتها .. ، النبرة الوحيدة التي تستطيع التعبير عن اللاعنف بالصوت ذاته

هذا الصوت الضعيف الذي أبدى قوته القهارة على أربعمائة مليون من البشر سلحها بالصبر والبشاشة.

لقد رجعت الدبابات إلى الوراء وتقهقرت عند تلك الأجسام التي انفرشت على الأرض أمامها، تقهقرت أمام أفواه ترتل بعض الأذكار المقدسة وأمام أرواح منغمسة في صلوات صامتة.

إن جهاز الاستعمار الضخم وقف عند حده، وباء بالخسران أمام معزة غاندي، وسرباله (الساري) ومغزله، وصلواته وصيامه مع الجماهير وفي خلواته.

إن كل هذا المظهر الجذاب، الأسطوري لكفاح غاندي والانتصار الذي توجه بالتالي، أصبح مما تعارف عليه الناس في المستقبل على أنه فصل جميل من تاريخ الإنسانية التقليدي، ولكن هذا المظهر الذي ينعكس فيه بالخصوص الضمير الهندوكي، لا يفسر لنا وحده معنى اللاعنف .. فهناك مظهر آخر نريد لفت النظر إليه هنا لأنه يكمل فيما نعتقد، النبذة التي أردنا تقديمها في هذه السطور، مع مطابقة، من ناحية أخرى مع معنى من معاني القرآن.

إِن اللاعنف ما كان ((مقاومة)) فقط وما كان يعبر فحسب عن نافية شكليه، عن كلمة (لا) التي أفضى بها الضمير الهندوكي في المعركة، أي عن موقف سلبي في هذه المعركة، فاللاعنف كان أيضا موقفا إيجابيا في نواح أخرى، موقف الضمير الانجليزي ذاته وهو يرد ضمنا بكلمة ((نعم)) عندما يأخذه تيار المعركة ويفرض عليه الرد.

إنه كان في إمكان الجندي الانجليزي أن يدوس بدباباته تلك الحشود من البشر التي رقدت على عرض الطريق بشواع كلكوتا وبومباي أيام المقاومة

ص: 150

السلبية، ولكنه لو فعل لداس الثقة النبيلة التي يكنها ضمير تلك الحشود البشرية التي ألقت- حين ألقت بنفسها على عرض الطريق- ألقت على ضمير الجندي الانجليزي عبئا ثقيلا، عبء حياتها وطموحها وصلاتها، وهكذا تقهقر الجندي الانجليزي من أجل أن لا يدوس ضميرَه وعظمةَ وطنه، وشرف ثقافته.

وكان موقفه هذا كأنه الرد بكلمة ((نعم)) على الثقة المتناهية التي عبرت بها تلك الحشود وكأنها واجهت العنف بكلمة ((لا)).

وهذا الرد الفذ بـ ((نعم)) يكمل معنى اللاعنف، يكمله كأنه حوار وفلسفة يرتكز مرتين على الثقة في الضمير الانساني.

وليس مما يخالف طبيعة المسلم أن يرى في هذه الفلسفة، انطباقها على التوجيهات التي يعرفها في دينه، حيث أن القرآن يحث على أن يكون الكلام مع الخصم، موجها إلى ضميره حتى يصبح كأنه (وليٌّ حميم).

وليس في هذه المقارنة ما يفاجئنا، إذ كانت اللحظات الأخيرة التي قضاها غاندي في هذه الدنيا مليئة بتلاوة القرآن والإنجيل والعهد القديم والبهاجفاقجيتا، يتلو غاندي هذه الكتب الواحد بعد الآخر، وكان يتلو القرآن بالنص الأردي قبيل موته.

ولكن هذه اللحظات التي كانت، في صورة ما، تحكي لحظات الحديث على الجبل، في حياة المسيح كانت في الوقت نفسه تنذر بخسارة لا تعوض، ستخسرها الإِنسانية في شخصه، لأن هذا الرجل كان يتقمص إلى درجة بليغة- الضمير الانساني في القرن العشرين، كان يستطيع إنقاذ وحدة الإنسانية الأدبية في أخطر لحظة من تاريخها.

وهكذا قدر لغاندي، داعية اللاعنف، أن يموت على يد العنف (1).

إِنها لسخرية نادرة، ولكنها تشبه إلى حد كبير، حكمة نادرة، تكررها

(1) قد قتله هندوكي بين التحقيق علاقته بجمعية إرهابية اسمها ((محاسبه)).

ص: 151

الطبيعة في كل فصل من فصول الربيع: فالبذرة التي يقدر لها أن تنبت، يجب أولا أن تدفن في التراب.

إن الشعوب القديمة بنت أحيانا عقيدتها على هذه الحكمة، وكانت تستعير منها ربوبية أوثانها وأساطيرها

نجد ذلك مثلا عند قدماء المصريين فالرب أزيريس- الرب الخلاق- يقتله ست (وربما يعين هذا الاسم ما يسمى الشيطان في الكتب المنزلة) يقتله ست الرب القائم بوظيفة التحطيم ولكن إيزيس، ربة الحب، تجمع أعضاء القتيل التي بعثرها خصمه الفتاك، تجمعها ويبعث إِيزيريس حياً منتصراً.

هكذا رفات غاندي التي ذروها، طبقا للتقاليد، في مياه الغانج المقدسة ستجمعها الايام في أعماق ضمير الإِنسانية كيما ينطلق يوما انتصار اللاعنف، ونشيد السلم العالمي.

***

ص: 152