المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وحدة الثقافة في الهند - في مهب المعركة

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدّمة

- ‌مقَدِّمَة المؤلف

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُالاِسْتِعْمَارُ تَحْتَ الْمِجْهَرِ

- ‌سِيكُولُوجِيَّةُ الاِسْتِعْمَارِ

- ‌الاِسْتِعْمَارُ يَفْتَحُ وِجْهَةٌ ثَالِثَةٌ فِي التَّارِيخِ

- ‌الْفَوْضَى الْاِسْتِعْمَارِيَّةُ

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِيفِي السِّيَاسَةِ

- ‌حِقْدٌ عَلَى الإِسْلَامِ

- ‌تَعْلِيقٌ

- ‌الْمَلِكُ مُحَمَّدَ بْنُ يُوسُفَ ((يَعتَرِفُ))

- ‌بِلَا خَوْفٍ وَمِنْ دُونِ تَأْنِيبٍ

- ‌مِنَ الْمُؤْتَمَرَاتِ إِلَى الْمُؤَامَرَاتِ

- ‌مِنْ مُؤْتَمَرِ كُولُومْبُو إِلَى مُؤْتَمَرِ جِنِيفْ

- ‌أَقْلَامُ وَأَبْوَاقُ الاِسْتِعْمَارِ

- ‌تَعْليِقٌ

- ‌رَجُلٌ وَوَجْهَانِ

- ‌بَصِيصُ الْأَمَلِ

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُفِي الْحَقْلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ

- ‌مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ التُّرَابِ الْجَزَائِريِّ

- ‌قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ

- ‌تَهَوُّرٌ أَمْ تَطَوُّرٌ

- ‌ضَرُورَةُ مُؤْتَمَرٍ جَزَائِرِيٍ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ

- ‌تَعْلِيقٌ

- ‌تَفَاهَاتٌ جَزَائِرِيَّةٌ

- ‌بَاعَةُ الْحَضَارَةِ

- ‌ثَمَنُ حَظَارَتِنَا

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُفِي حَدِيقَةِ الثَّقَافَةِ

- ‌بَيْنَ الْأَفْكَارِ الْمَيْتَةِ وَالْأَفْكَارِ الْقَاتِلَةِ

- ‌أُكْتُبْ بِضَمِيرِكَ

- ‌النَّقْدُ السَّلِيمُ

- ‌وِحْدَةُ الثَّقَافَةِ فِي الْهِنْدِ

- ‌تَحِيَّةٌ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّاعُنْفِ

- ‌رُومَان رُولَان وَرِسَالَةُ الْهِنْدِ

- ‌الْأَسَاسُ الْغَيْبِيِّ لِفَلْسَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ

- ‌الدِّرَاسَاتُ الْحَدِيثَةُ وَالتَّصَوُّفُ الْإِسْلَامِيُّ

الفصل: ‌وحدة الثقافة في الهند

‌وِحْدَةُ الثَّقَافَةِ فِي الْهِنْدِ

الجمهورية الجزائرية في 18/ 12/ 1953

ــ

لقد اطلعنا في أحد أعداد ((لوموند)) الأخيرة على صدى مناقشة دارت، في المنبر العام بهذه الصحيفة على جانب من اللياقة والكياسة دون أن تضيع فائدتها الفكرية، إذ تناولت، كموضوع، تفسير فكرة ((الساتياجراهة)) أو طريق الحقيقة، أي الطريقة التي اتبعها غاندي في النضال ضد الاستعمار الانجليزي.

فالقارئ الفرنسي يتهم غاندي بأنه يتبع في الحقيقة سياسة الفرص أي سياسة انتهازية في نظره، وربما جنح إلى العنف لو سمحت به الظروف أو اقتضاه الموقف.

لكن قارئاً هندياً يرد بكل حرارة، على هذا الاتهام، الذي يعطي لبطل الساتياجراهة واللاعنف صورة الرجل ذي الوجهين.

من يقرأ هذه السطور يشعر بأنها تتضمن أكثر من مجرد مناقشة بين رجلين، وإدلاء كل منهما برأيه في قضية معينة، إنها تعبر في الواقع، عن مقابلة ومقارنة، بين شخصين محددين، بين مركَّبين معينين، مقارنة مباشرة، وإن كانت غير متنظرة، تطرح فجأة على بساط النقاش قضية في غاية الأهمية، لأنها تتصل بمشكلة الثقافة من حيث الوفاء للمبادئ بصورة مطلقة، أو حسب الظروف أو بعبارة أخرى من حيث وحدة مبرراتها أو تنوعها حسب الظروف في مجتمع معين، وتشعرنا هذه المناقشة، عن طريق المشاهدة تقريباً بحدة هذه القضية في العالم، وتعطينا فكرة، مهما يكن فيها من الوضوح أو الغموض، عن موقف الإنسان الهندي إزاءها.

ولقد سبق لنا في مقالة نشرت (1) منذ أشهر، أن بينا بقدر الإمكان ما

(1) لم نجدها فيما تحت أيدينا الآن.

ص: 143

يستحق هذا المظهر في الثقافة، من اهتمام، تاركين لفرصة أخرى توضيح شأنه في ثقافة الهند على وجه الخصوص.

ولا شك أن موضوعا كهذا يستحق دراسة متعمقة، ولكننا نقتصر هنا فقط على تقديم بعض المعلومات للشباب الجزائري، كي نلفت نظره إلى إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجهها الإنسانية في القرن العشرين.

إنه لمن المعلوم عن أي بلد ((عصري)) أن الحياة الفكرية- التي تتضمن مجموعة الأفكار والمبادئ المتعارف عليها- لا تطابق فيه بالضبط الحياة العملية - التي تتضمن الواقع والوقائع (والواقع السياسي على وجه الخصوص) بحيث يشعر الفكر عندما ينتقل من مجال المبادئ إلى مجال الواقع أنه يخرق حدوداً تفصل بين عالمين.

بينما القضية على غير هذا المنوال في بلاد نهرو- بالنسبة إلى جوهر الأشياء إن لم نقل إلى صورها وأشكالها- لأنها احتفظت بوحدتها بحيث لا ينفصل بين صورة البلاد التقليدية وصورتها العصرية فاصل أكيد، فالروح التي كانت تشع في عصر الفيدا في الممواقف الصوفية، هي التي تشع اليوم في المواقف السياسية في موقف الملايين من الهنود الذين يتمسكون بمبدأ الساتياجراهة.

وهذا الاتصال في التطور ليس بالظاهرة السيكولوجية الزهيدة بحيث لا تثير الاهتمام والتأمل، فهي- حسبما يبدو- تعزى إلى عوامل متعددة وإلى اثنين بالخصوص:

(1)

الإطار الأخلاقي الذي تكونت فيه الهند ((العصرية)).

(2)

والأوضاع النفسية الخاصة بشخصية ممتازة، غاندي، الذي تقمص شخصية الهند المعاصرة وأضفى عليها مما وهب له من صفات خاصة، ووجهها بما أوتي من اتجاه روحي، بحيث طبع بطابعه الشخصي رسالتها في العالم.

أما الإطار الأخلاقي فهو يتمثل في نهضة روحية بدأ بصيص فجرها في الروح

ص: 144

الهندية- حسبما يبدو- باتصال هذه الروح بثقافة الغرب، ذلك البصيص من النور الذي أضاء على وجه الخصوص حياة فيفيكانندا وإنتاجه الفكري أي باكورة الانتاج الفكري في الهند بعد أفول طويل.

لقد كان هذا البعث فعلا في غرة هذا القرن، وفي مجال الروح بالذات في صورة بعث للفكر التقليدي، أي في وقت سيكون فيه هذا البعث الروحي المقدمة التي تفرضها الظروف لليقظة السياسية التي ستتبع وستصنع الهند ((العصرية))، حتى يمكن القول إن الهند الجديدة هي الهند القديمة، لا في ظاهر الأشياء ولكن في جوهرها، لأنه في بلاد انتقال الأرواح ( Métempsychose) لأشياء لا تفنى، وإنما تتغير وتُصيَّر، فروح الهند القديمة لم تمت عندما أشرقت عليها الحضارة الغربية، وإنما بعثت بعثاً جديداً.

فالهند الفتية وجدت في الروح التقليدية وفي الفكرة الفيدية ما صنعت به روح ثورة الستياجراها وفكرتها، وما كان لهذه الظاهرة- ظاهرة امتصاص فريدة- أن تتحقق لولا شخصية غاندي الذي لم يكن الرجل السياسي بالمعنى الدارج، أي بالمعنى الذي يضع السياسة تحت تصرف الظروف دون قيد ولا شرط، بل كان القسيس الذي يخضع العمل والسياسة لشروط القداسة.

ومن المعلوم أن ميدان السياسة- بالمعنى الذي تضفيه الحضارة الغربية على هذه الكلمة- هو ميدان النفاق والكذب والشعوذة و ((الشطارة)) والانتهازية.

فغاندي دخل هذا الميدان من أجل تحرير بلاده، ولكنه لم يدخله إلا بسلاح الصدق والاخلاص والوضوح واللاعنف.

ولقد كان من نتيجة هذا السلوك وتحديد هذه الوسائل، في ميدان السياسة - أي في الميدان الذي وضعت عليه ظروف القرن العشرين طابع التصنع والخداع- أن أعيد له، في خطة الساتياجراها، ذلك الانسجام الذي فَرَّطَتْ فيه الحضارة العصرية وهو الانسجام بين الظاهر والباطن، بين النية والعمل، بين الخاطر والقول.

ص: 145

إن لكل ثورة فلسفة ثورية؛ ففلسفة غاندي لم تكن مركزة على مفاهيم القوة والعنف، بل على مفاهيم البقاء والشعور بالألم.

ولقد مرت الأيام على هذه الصفحة الماجدة وعلى التجربة الفريدة، دون أن تكذب في هذه تفصيلا واحداً، أو في تلك سطراً واحدا. فجاء عهد التنفيد عندما تحررت البلاد فبقيت ((سياسة)) نهرو وفية لفكرة غاندي.

وفي هذا أكبر دليل وأوضح برهان على وحدة ثقافة!! ..

فالساتياجراها لم تلعن العنف فقط، بل طهرت ميدان السياسة من النفاق- وطردت منه ذلك الازدواج (مثالية- واقعية) في بلد لا يسمح فيه للعمل أن يكذب النية، ولا لمذهب أخلاقي يتعامل به الناس في الشارع أن يكذب مذهبا أخلاقيا مقبورا في الضمائر لا أثر له في الحياة.

فليس اللاعنف إلا مظهرا- المظهر السياسي- للروح الفيدي، الذي جعلت منه الهند العصرية أساساً لوحدة ثقافتها ومضمون رسالتها، هذه الرسالة التي تكون في العالم الغاص بروح العنف وبالسلاح الذري، النقيض الوحيد لهذه الأشياء.

ويمكن القول إِن هذه المناقضة هي السبب القوي- الذي دفع رومان رولان إلى رفع صوته وتوجيه ندائه إلى هذا الجيل، مناديا برسالة السلام التي تتضمن، في حيز القوة، وفيما تحتويه فكرة الساتياجراها من بذور المصير، تتضمن مصير الإنسانية إلى توحيدها وإلى وحدة ثقافتها.

ومما هو جدير بالملاحظة، أن الضمير الهندي يتضمن اليوم أكثر من غيره، في نطاق السياسة، فكرة هذا المصير بل ربما هي في جوهره.

وعندما يقرأ غاندي شيئاً من القرآن، بعد ما يكون قد قرأ شيئا من كتاب ((الأوبانيشاد)) أو الإنجيل، فليس لمجرد التسلية، بل هي صورة تعبر عن ثقافته واستعداداته الروحية في عالم الواقع.

ص: 146

وإن مثل هذا السفر بين الكتب المقدسة المختلفة، لا يتاح لكل سائح إن لم يكن في نفسه ما في نفس ذلك السائح، سوامي رامه، الذي أتاحت له نفسه، بل دفعته إلى ذلك الطواف البعيد من بلاد سيلان إلى بلاد التيبت، تلك الرحلة الروحية التي أعطانا عنها فكرة، المسيو مرسيل برييون في مقالة نشرتها صحيفة لوموند.

إن روح الهند التقليدية دبت في العالم المتحضر، وأتته عن طرق متعددة، من بينها الطريق التي تتمثل في إنتاج علماء الآثار السانسكريتية، في ألمانيا بالختصوص، ولكن أكبر أثرها في العالم الحديث، قد أتى عن طريق رومان رولان، الذي أبرز هذا التيار الفكري، من مجال التفقه العلمي الذي اختص به علماء السانسكريتيا إلى المجال العملي، وأضافه إلى القوى التي تغير وجه العالم اليوم.

وليس من مجرد الصدفة، أن بلاد الميكادو والساموراي، أي البلاد التي تغلغل في نفسها الروح العسكري، بدأت اليوم تكافح من أجل التخلص من سياسة الأحلاف ومن التسلح، كما يبدو من خلال إحصائية أجراها أخيراً باليابان صحفي غربي، وأن يكون بين الآراء التي سجلها هذا الصحفي رأي لشاب ياباني يرى أن بلاده يمكنها الصمود في وجه أي اعتداء بوسائل اللاعنف.

أليس جديراً بنا أن نتساءل: من ألقى هذه البذور الجديدة في ضمير الجيل الياباني الحاضر؟ أليس صاحب كتاب ((جان كريستوف (1))) هو الذي ألقى تلك البذور في بلاد أوكاكورا ومدام كريزنتم، بمؤلفاته عن غاندي والساتياجراها؟

ولنذكر بالمناسبة شيئا يبدو لنا في منتهى الغرابة: إن العدد الخاص لمجلة ((كراسة الجنوب)) عن رسالة الهند، لم يذكر من بين من عرف هذه الرسالة ورفع صيتها في العالم، اسم رومان رولان .... إن حظ الإنسان يكون أحياناً

(1) الكتاب الذي نشر شهرة رومان رولان في العالم.

ص: 147

غريبا جداً.

ولكن نتمنى، ونحن على أبواب الذكرى العاشرة لموت غاندي، أن الشرق يتدارك ما فرط فيه الغرب بجانب رومان رولان، ونتمنى أن الهند بالخصوص تأخذ على حسابها، في السنة المقبلة تنظيم يوم يليق بذكرى ذلك الكاتب الكبير الذي أذاع صيت رسالتها في العالم.

***

ص: 148