الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضَرُورَةُ مُؤْتَمَرٍ جَزَائِرِيٍ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ
الجمهورية الجزائرية في 10/ 1/ 1954
ــ
إن المقالة التي نشرتها بخصوص قضية العطلة، قد سببت رداً عليها باسم شباب حزب البيان، أي فيما يبدو، باسم الفئة التي كان لها الفضل في توجيه نداء للرأي العام من أجل دراسة القضية. ولقد كنت أهدف بمقالتي إلى إنشاء حوار حول قضية حيوية في بلادنا، ولعل هذا الرد صورة من الحوار الذي كنت أتمناه مهما يكن في الأمر من الغرابة، حيث أن الحوار يكون عادة، بين أشخاص من نوع واحد، لا بين شخص معين وشخصية مجردة، تمضي باسم ((شباب البيان))
…
وعليه فإنني أتصور الحوار بيني وبين جماعة من الشباب الجزائري من ذلك الشباب الذي نحبه، لأنه في مقدمة الكفاح ضد الاستعمار
…
، ونحييهم بالخصوص عندما نراهم يواجهون مشكلة العطلة، تلك المشكلة التي تخص مباشرة وبحدة الشعب الجزائري، كل يوم، أي أنها تؤثر في حياننا في كل يوم.
ولكنني أتساءل- عندما أقرأ الرد المذكور- هل زل قلمي حتى أن ما أردت أن أبلغ من شكر للشباب الذي وجه النداء انقلب ذما حينما انتقل من فكرة في خاطري إلى جملة على الورق؟
في الحقيقة إنني أخشى أن يكون ((النقد)) لم يدخل بعد في عاداتنا ولم يستقر في جونا العقلي، وأن الكلمة ذاتها لم تبرح أجنبية عن قاموسنا، أو أنها تعني شيئاً آخر، كان كلمة ((نقد)) وكلمة ((تشويه)) مترادفان في لغتنا.
إنني أخشى هذا، وأتذكر أن هذه الخشية قد اعترتني في مناسبة أخرى عندما نشرت كتاب ((شروط النهضة))، وكنت خصصت فيه فصلا لذكر الحركة
الإصلاحية التي قامت بها جمعية العلماء في البلاد، وإذا بي أجد، يوماً في جريدة جمعية العلماء ((البصائر)) رداً من قلم أحد أعضائها المتكلمين باسمها، يرد علي كأن كتابي المذكور لم يكن همه إلا الكلام في هذه الجمعية بما يشوه سمعتها (1).
وذلك لأنني هممت في هذا الكتاب، بعد أن بينت فضل الحركة الإصلاحية في بلادنا، هممت أن أبين جوانب الضعف فيها، بالخصوص على أثر ((ورطتها في الوحل السياسي سنة 1936)).
وكانت دهشتي تزيد عنفاً، عندما أتصور موقف هذا المفتش في جمعية العلماء. موقف من كان يعيش حياته بكل هدوء وطمأنينة، في الأيام التي كنت أعيش فيها بباريس، وأحمل بها وحدي لواء الإِصلاح في وجه العواصف والأعاصير التي يثيرها الاستعمار على خصومه!. حتى جاء اليوم الذي بلغ فيه السيل الزبى، في نظر المستعمرين، اليوم الذي رشحت فيه اسم ابن باديس لرئاسة الشرف لجمعية الطلبة المسلمين الجزائريين (2).
فليطمئن ((شباب حزب البيان)) أن أحداً لا يشك في صفاء نياتهم ولا في طيبة قلوبهم، ولا في جد جدهم، وأنني على وجه الخصوص لا أريد، عندما أقدم نقدي في موضوع ما، لا أريد أن أحملهم ((وحدهم)) إثمنا ((جميعاً)). لا سيما في المقالة المتهمة، عندما أقول أن في رأي من ((يشبهنا بفراشات جميلة)) مزيداً من تبرير مراجعة نفوسنا، بطريقة النقد الذاتي.
ومهما يكن الأمر، فإن أحسن مواهب الإِنسان وأطيب نياته لا تمنع من تأثير نوائب الزمن، الملازمة للقوانين التي تحكم مصيره.
وفي المجال الاجتماعي بالخصوص، فإن مشكلة تطرح على بساط البحث
(1) وهذا الكتاب مترجم الآن إلى اللغة العربية، حتى أن القارئ العربي يمكنه أن يفهم من خلال هذه السطور، أسلوب الصراع الفكري، وكيف يحاول الاستعمار أن يسخر ((أقلامه)) حتى يظهر كتاباً يحاول دراسة ((شروط الحضارة)) يظهره في صورة كتاب وضع للحديث عن الأشخاص.
(2)
ويجب أن نقول: إن أول من قاوم هذه الفكرة كان من بين الطلبة أنفسهم، ممن يتزعم اليوم الحركة الوطنية لأنها أصبحت تجارة مربحة بينما كانت تجارة خطيرة قبل ربع قرن.
لا يعني أنها حلت. والفضل في طرح مشكلة للبحث مثل فضل الشباب الذي دعي إلى بحث مشكلة العطلة، لا يربطها بحل معين، ولا يرفض هذا الحل مسبقاً.
فالحل منوط بمجموعة شروط، تكون المقياس الذي يجب التمسك به للوصول إلى الهدف المقصود، بجهد لا ينزل عن مستواه، ولا ينحرف عن اتجاهه. لأن الخطأ قريب من العقل، ومن أقرب الأشياء إليه أن يتناول مشكلة في مكان أخرى وليس من الكوارث ما يتكرر مثل كارثة الكلام عن شيء، والعمل كأننا نريد شيئاً آخر. إننا أحياناً نتكلم مثلا عن تطور المرأة ونعمل كأننا نريد تهور المرأة.
والشيء الذي يجب أن نلاحظه بخصوص موضوعنا، هو أن شباب حزب البيان لم يخطئ في المشكلة، ولكن كان معرضاً للخطأ في محاولته لحلها.
فلنعد إلى القضية بصورة موجزة: إن شبابنا المناضل تناول مشكلة حيوية، وأوحت له خطورتها ببعض المبادرات: بعض ((الاحتجاجات الشديدة)) موجهة إلى الخارج، وبعض ((المطالب الملحة)) موجهة إلى الداخل.
فهذه، لا شك نيات طيبة، وجهود محمودة.
وإنني لأقرأ، من ناحية أخرى، على أعمدة هذه الجريدة مقالة مفيدة تتضمن أفكاراً قيمة في الموضوع. ويفيدنا بالخصوص صاحبها فيما يتعلق بالتكوين المهني المستعجل.
ولكن كل هذه الأشياء القيمة لا تأتي بحل، ولا تضعنا في طريقه، بل هي على العكس جديرة بأن تلفتنا عن هذا الطريق، وجديرة بأن تزيد هكذا في تعقيد المشكلة، دون أن نشعر بذلك.
فلنوضح موقفنا كما ينبغي: إن مشكلة البطالة بالجزائر تتميز بطبيعة خاحة، لأنها ليست قضية فئة من الناس تحرمهما من الشغل أزمة اجتماعية مؤقتة، فينتظرون، على أبواب المصانع والورشات، عودتهم إِلى الشغل، بل هي قضية
الشعب بأكمله، شعب وضعته ظروف اجتماعية وسياسية ونفسية خارج دائرة العمل (1).
وعليه، فإذا كان الحل على صورة ((مكتب تشغيل)) يصلح في الحالة الأولى - عندما تخص القضية فئة من الناس- فإِنه لا يصلح في الحالة الثانية وربما كان مضراً إذا أضاف عنصراً نفسانياً يعقد المشكلة، ويغير الاتجاه إزاءها، ويمكن أن نستدل على هذا الخطأ بمثل ملموس يعطيه لنا ذلك الشاب الذي كان رده على نداء ((شباب حزب البيان)) بأنه وجه إلى هذه الهيئة طلب تشغيل كـ ((نصف مهندس)) وهذا خطأ في تفهم فرد للقضية
…
ولكن عندما نرى الهيئة التي يتوجه إليها هذا الشاب تنشر طلبه في جريدتها، كأن القضية قضية فرد أو أفراد معدودين، فالخطأ هنا أكبر، لأنه يتضمن عنصراً فكرياً ونفسياً، يؤدي إلى محاولة عابثة، كأن الحل منوط بصحيفة تنشر على أعمدتها طلبات الذين يبحثون عن شغل
…
إذ الطريقة ستكون مضحكة، بلا ريب عندما يكون عدد الطلبات يبلغ الملايين
…
وزيادة على هذا، فإنني على يقين من أن الطلب الذي وجهه الشاب الذي يبحث عن عمل ((نصف مهندس)) لم يجد في سوق العمل من يلبيه
…
(وأتمنى أن يأتيني النبأ الذي يجعلني أخطأت في تقديري)
…
(2)
وعليه يجب أن ندرك كيف يكون الحل الذي نقدمه أو نقترحه في صورة ((مكتب تشغيل))
…
؟ قد يكون صداه، في حياتنا العامة، سلبياً من وجهين، لأن الفشل المزدوج الذي ينتج عنه يزيد من ناحية ((الجمهور)) في عدم الثقة، ومن ناحية ((النخبة)) قد يزيد في الشعور بالعجز الذي يؤدي إلى اليأس والتقليل من الإِرادة في العمل
…
(1) وقد يلاحظ القارئ من الجملة التي نقلناها له في التعليق الذي يتبع هذا المقال، وهي مقتطفة من مقالة صدرت في نفس العدد مع المقالة التي نترجمها هنا، فهو يدرك هكذا أن الاستعمار بدأ يهيئ الجو في الوقت الذي تنشر فيه هذه المقالة
…
حتى لا يتحقق أثرها.
(2)
وأقرل للقارئ أن هذا النبأ لم يأت لا على أعمدة الجريدة. ولا في بريد خاص.