الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفَاهَاتٌ جَزَائِرِيَّةٌ
لو أن أحداً استساغ أن يشبهنا- باللسان أو بالقلم- فشبهنا بفراشات جميلة تتفسح في يوم الربيع، تطير رشاقتها الملونة من زهرة إلى أخرى، وهي تداعب حينا البنفسج وتارة تداعب النرجس
…
لنظرنا إلى من يشبهنا بهذا التشبيه اللطيف على أنه يستخف بنا
…
وأنه يقصد بهذا التشبيه إهانتنا، لأن عقله لا يتورع عن السخرية
…
ولكن، لو رجعنا لنفوسنا بالنقد الذاتي، فلربما نغير موقفنا من هذا الرجل، فلا نحمله الإِثم الذي نحمله.
ورجوعنا لنفوسنا يمكن بفحص أي قطعة محددة من نشاطنا الاجتماعي، وإننا لنجد في حدث قريب المثل الذي يبرر هذه الاعتبارات في غاية الوضوح.
إِن طليعة الشباب في حزب البيان، في منظمته الخاصة بالشبان قد أطلقت منذ أسبوعين- وهي صاحبة الفضل الكبير في ذلك- أطلقت صرخة مثيرة فيما يتعلق بخصوص قضية العطلة في الجزائر.
وإننا نعرف، فعلا، الحالة المثيرة التي تجد فيها نفسها شبيبتنا التي تقضي ساعاتها وسنواتها في الشارع.
وإنه لمن الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل أن حجم الجهد الاجتماعي- ويجب أن يكون كذلك- بقدر المشروع الذي يريد تحقيقه بحيث يكون هذا مقياساً للأول.
فهذا أمر في منتهى الوضوح.
والآن فنحن نعرف جيداً حجم قضية العطلة في الجزائر، حيث أن هذه القضية تشغل، مع الأمية المكان الأول بين العاهات الاجتماعية في هذه البلاد.
وعليه، فإن صرخة شباب حزب البيان، كانت، فيما يبدو، تبشر بعهد جديد بالنسبة إلى العطلة، كدعوة لدراسة هذه القضية دراسة مثمرة، من شأنها أن تأتي بالحلول المناسبة للمشكلة المعروضة.
ومما كان يزيد في توقع هذا الأمر، أن نداء الشباب كان يطلب الردود متعمداً
…
فكان إذاً من المنتظر أن تقع مناقشة بين هؤلاء الشبان الذين لم يتقرر مصيرهم، فيعرضون مطالبهم ويعبرون عن رأيهم، ويقترحون فيها
…
ما يرونه مناسباً من الحلول، ويشرعون في مبادرات أو يساهمون فيها
…
أي بكلمة موجزة، أنهم سيتخذون في هذا الأمر موقفاً حاسماً.
وكانت أهمية هذه الفرصة تتزايد في نظرنا، بقدر ما كنا ننتظر أنها ستجلي في ضوء واحد، موقفين: موقف أصحاب النداء أي النخبة، وموقف من يتوجه إليه النداء أي الجمهور، أي موقف الطائفتين اللتين تكونان العناصر المحركة لحياة اجتماعية وكانت الفرصة هكذا تفسح المجال لاختبار أهم جانبين في الشباب الجزائري ولكن لقد مضت الأمور، في الأول، كأنما نداء شباب حزب البيان لم يخص حالة عامة، وإنما بعض الحالات الخاصة، لم نعرف منها بالتالي إلا حالة واحدة، حالة شاب ميكانيكي كان له الفضل في الدخول في المناقشة المطلوبة.
فدخل فيها وحده
…
دون أن يكون له رفيق
…
فالواقع أن المناقشة لم تقع، لأن الجانب الذي كان سيمثل فيها ((الجمهور)) يفقد الروح الاجتماعية، كما يعبر عن ذلك موقفه السلبي، وسنقول فيما يتبع شيئاً عن معنى هذا الفقر الاجتماعي الذي يؤدي إِلى نتيجة غير منتظرة، لأنه من الوجهة العلمية كأنه نافية تنفي وجود القضية المعروضة للبحث.
ومن ناحية أخرى، يجب أن نلاحظ أن الجانب الآخر الذي كان سيمثل في القضية ((النخبة)) كان مصاباً أيضاً بفقر اجتماعي ولكن من نوع آخر كما يدل على ذلك عدم تنبهها إلى سلبية ((الجمهور)) التي أشرنا إِليها، كمشكلة اجتماعية، قائمة بذاتها يجب إضافتها إلى القضية المعروضة كي تدرس كجزء منها يزيد بضوئه
الخاص في توضيح القضية.
وهذا يجعلنا نقول إن ((النخبة)) عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فهي على هذا كأنها اقتنعت بتسجيل الفشل ولكن دون أن تسعى في تفهم أسبابه
…
وإننا نتمنى أن تكون قد شعرت بهذا الفشل، حين لم يكن لندائها صدى يذكر.
فلو أن النخبة درست هذا الفشل، لاستفادت منه أكثر مما يفيدها نصف، نجاح خداع
…
لأنها تدرك من خلال تلك الدراسة حقيقة الأمر، أعني حقيقة الشروط الخاصة التي يجب أن تخضع لها جهدها كي تحقق به نجاحاً كاملا.
فمن الواضح أن الصمت، الذي كان الرد الوحيد على النداء الذي وجهته هذه ((النخبة))، يعني من ناحية ((الجمهور)) التهيب وفقدان الثقة والأمل، ويعني من ناحيتها نقصاً في التنظيم.
وعليه فالفشل يتضمن جانباً سيكولوجياً وجانباً فنياً (1).
ومن البين أن الجانب الفني أي النقص في التنظيم وفي التخطيط وفي توجيه العمل المشترك، هو عمود القضية، لأننا لو وضعنا هذا الجانب موضع التأمل والدراسة، لدعانا ذلك إلى مزيد من التأمل في القضية الرئيسية، قضية العطلة.
ولكن إذا أردنا أن نذهب في هذا السياق إلى أقصى التحليل يجب أن نقول، إن المشكلتين بقيتا معاً دون حلول، فلا ((الجمهور)) اكتسب الروح الاجتماعية التي يفقدها، ولا ((النخبة)) اكتسبت الفكر الفني الذي يعوزها.
ولكن الشيء الذي يزيد في الطين بلة أعني يزيد فيما يعاني الشعب من فقدان الأمل وعدم الثقة، هو أننا سجلنا الفشل في مشكلة معينة، وتركناها في الطريق
(1) وهذا التحليل صحيح لا بالنسبة لقضية محلية بالحزائر فقط. ولكنه صحيح بصفة عامة بالنسبة إلى كل حركات الإصدح في العالم الإسلامي، فإن هذه الحركات فشلت كلها لأنها لم تدرس أرضها قبل الشروع في العمل.
دون حل، وذهبنا إِلى آفاق أخرى وإِلى مشكلات جديدة، كأن المشكلة التي مررنا بها لا وجود لها. فنتاول مثلا مشكلة المرأة، ثم نتركها بدورها في الطريق، ونمر هكذا مر الكرام على الأشياء ....
أليس في هذا ما يجعلنا نستحق فعلا التشبه بالفراش
…
لأننا ننتقل من مشكلة إلى أخرى
…
تسلية وتضييعاً للوقت.
ومن الناحية الجدية: أليس في هذا الدلالة بأن موقفنا الاجتماعي لا يتسم بالإرادة المتصلة والجهد المتواصل، ولكنه يتسم بالمحاولات المتتابعة
…
والإرادات الخافقة.
وإذا حللنا مجهودنا تحليلا جذرياً وجدناه متفكك الأجزاء كأنه مركب على صورة الخط المنقط، الخط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً.
وإننا نجد هنا، في صورته الاجتماعية، المرض الذي سميناه ((الذرية)) في تفكيرنا، ذلك المرض الذي أشار إليه عالم إنجليزي بحق.
وربما حان الوقت كي نتناول المشكلات في عمقها، في مناقشة تتسع بقدر ما يمكن إلى دراسة مدققة، أي في مؤتمر يكون موضوعه دراسة القضايا القائمة مثل قضية الرجل بلا شغل، والمرأة بلا مركز اجتماعي، والطفل بلا مدرسة (1) ..
(1) لقد بينا في كتاب ((الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)) كيف يشغل الاستعمار حشدا من مراصد خاصة لترقب ظهور الأفكار كي يوحه الاستعمار طلقاته عليها
…
بالسلاح المناسب.
وفعلا بمجرد نشر هذه المقالة سخر الاستعمار أحد ((أقلامه)) كي يرد عليها ولكنه يحكم خطته، أمر ((قلمه)) المسخر أن لا ينشر سخافته باسمه الشخصي بل باسم الهيأة التي وجهت النداء حتى تختفي السخافة تحت لقب يعيرها ما تفقد من الوقار. وتخفي كذلك يد الاستعمار. ثم يأمره بتحويل معنى الكلام حتى لا يرى الشباب الجزائري في مقالتي النصيحة التي أوجهها له كي يسدد نشاطه الاجتماعي، بل يصورها له على أنها نكران لنشاطه الاجتماعي.
وهذا الرد ينشر في نفس الجريدة التي نشرت مقالتي: أي في جريدة ((وطنية))!!!
وهذا ما نعني بالضبط عندما نقول أن بين الاستعمار وبعض الزعماء ميثاق خفي يستغله كلا الطرفين في ميدان الصراع الفكري ..