الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيْنَ الْأَفْكَارِ الْمَيْتَةِ وَالْأَفْكَارِ الْقَاتِلَةِ
الجمهورية الجزائرية في 5/ 3/ 1954
أهدي هذه السطور إلى إخواني أعضاء جمعية العلماء
لأنهم أصحاب الفضل والمزية في تكوين جانب كبير من
العقل الجزائري، وفي تحضير رواد الثقافه في البلاد .. (1)
ــ
يبدو أنه يجب أيضاً علينا أن نقدر وأن نراقب بل وأن نمسك إذا ما اقتضت الظروف- تنفسنا العقلي، وأن نتخذ أشد الاحتياطات ضد بعض أسباب العدوى الخطيرة المحتملة
…
أما بالنسبة للتنفس الفيزيولوجي العادي في جو ملوث أو مسموم فالأمر واضح: إن الحضارة قد جهزتنا بالشيء اللازم، أي بالقناع ضد الغازات
…
أما بالنسبة للتنفس العقلي؟
…
فليس المستر ماك كارتي هو الذي يعرض علينا القضية هذه المرة
…
بل تعرضنا لها صدفة في حديث دار بين أحد المثقفين بالثقافة الزيتونية البحتة، وشاب تتسم شخصيته بملامح السائح الرحالة أكثر من طالب العلم
…
وكنا مجتمعين إثر حفلة أقامها بباريس ((نادي الثقافة الإسلامية)) الذي تأسس هذه الأيام بالعاصمة الفرنسية.
وكنت أستمع للحديث بكل اهتمام
…
وكنت أنصت للمثقف الزيتوني
(1) أراد صاحب المقالة أن يهديها إلى جمعية العلماء المسلمين في الحزائر، لأن ضرورات الصراع الفكري القاسيه، التي لا سبيل لشرحها هنا. كانت تملي ذلك حتى لا تبقي للاستعمار الفرصة لتحويل معنى المقال إلى غير ما يهدف إليه صاحبه.
ولكن الغريب هو أن جمعية العلماء- وقد سبق أن أهديت لرئيسها أحد كتبي- لم تجد في كلتي المرتين الفرصة للشكر على الاهداء: حتى أنني لو كنت أجنبيا لقلت إن العلماء المسلمين الجزائريين لا يشكرون هدية الأفكار وإنما يشكرون هدية الأشياء
…
وهو رجل يستهوي المودة ويتسم، بالخصوص حسبما كان يبدو لي، بأخلاق من يخدم الصالح العام بإخلاص
…
ولكنني كنت أشعر أنه رجل قد ينام وعلى وجهه قناع الغاز
…
لو سمع أن أحداً في العالم اكتشف الاكتشاف الشيطاني ألا وهو الغاز الخناق
…
وبعد كل ما نقوله فيه
…
فالأمر يكون هينا
…
لو كان يخص مشعوذاً يتمرن- كما يصنع أمثاله في الهند- من أجل أن يتصرف في وظيفة تنفسه طبقاً لما تقتضيه حاجة الشعوذة على أخشاب المسرح .. ولكن عندما تكون القضية قضية رجل مسخر لخدمة الصالح العام بكل إخلاص
…
فالأمر فيه نظر
…
لأن الرجل بمقتضى وظيفته يقوم بدور ملقن الصبيان
…
فهو يلقنهم أفكاره الخاصة
…
ومن بينها كيف يمسكون عقولهم عن التنفس عندما يشعرون بأخطار
…
هي في الواقع وهمية.
وإننا لنتصور هذه المأساة إِذا قدرنا الأشياء في الإطار البيداغوجي حيث كل عملية لخنق التنفس العقلي تؤدي إلى تكوين العقل المختنق
…
ولكن فلنعد إلى الحديث الذي يشرح هذه الخواطر
…
لقد تناول حدثاً أدبياً ورد في شعر شوقي
…
الذي صاغ في إِحدى قصائده تحية شعرية وجهها إلى باريس، إلى روعة صورها الفنية وإلى جاذبيتها الفكرية.
ويبدو أن هذه الشاعرية الفياضة عند الشاعر العربي الكبير قد خدشت الحساسية الكبيرة عند رجل يشعر بلعنة الاستعمار بصورة ممتازة
…
حتى إنه لم ير في الأبيات المتَّهمة إلا باقة من الشعر تهدى إلى الاستعمار الفرنسي نفسمه. فمن نخطِّئ.؟ أهذه الشاعرية الفياضة أم هذا الشعور الممتاز؟
قد كان هذا السؤال هو موضوع الحديث بين الطالب الرحالة والأستاذ الزيتوني المحترم، وكان رأي هذا الأخير: أن الخطأ يقع على كاهل الشاعر المتهم:
لأننا نجد- والرأي رأي المتحدث- نجد في هذا الشعر الأثر المؤسف
لتلك الثقافة الغربية التي فرضت جاذبيتها على 90% من الطبقة المثقفة المسلمة فوضعتهم هكذا تحت تصرف الاستعمار.
فالخطر في هذا الحكم قد بدا لي متزايداً بقدر ما رأيته مُقَعَّداً على ملاحظة صحيحة، لأنني لو أعدت النظر في تقدير المتحدث فربما لم أجده قد بالغ فيه، بل على العكس، لقد لطفه، إذ أنني أعتبر ((فراغ المثقفين)) عندنا، من أكبر مشكلاتنا اليوم.
ولكننا، عندما نقدم مقدمات صحيحة ونستخلص منها استنتاجات خاطئة فإننا نتجنب خطأ لنقع في مثله أو أشد منه، كذلك الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الكريم دون أن يشعر .... والمهم في الأمر هو أن نبين النتائج الوخيمة التي تنتج، عن تفسير مخطئ، في توجيه العقول في بلد معين.
فكان الحديث يدور- وهنا كل أهميته- في قضية الثقافة، لكنه يتناولها على الهامش لا مباشرة.
لقد خصصنا لهذه القضية مقالة تناولتها في عمومها (1) وألمحنا فيها إلى جانب منها نسميه الجانب المرضي في الثقافة، وقد حاولنا في مقالتنا هنا تحديد النوع الجرثومي الذي يعزى إليه هذا الجانب، فأطلقنا عليه ((الأفكار القاتلة)) أي تلك الأفكار التي نستعيرها من الغرب، كما سوف نطلق في هذه السطور اسم ((الأفكار الميتة)) على ما يجول بأنفسنا من أفكار فقدت الحياة كتلك الأفكار التي يبديها الأستاذ الزيتوني في الحديث الذي كنا نستمع إليه في مقهى بباريس
…
وربما يمكننا أن نلاحظ، ونحن في سياق الحديث، أن هذه الأفكار وتلك يعبر كل منهما عن جانب من مأساة البلاد المُستعمَرة: الجانب الذي نسميه الاستعمار والجانب الذي نطلق عليه ((القابلية للاستعمار)).
ولكن لو وجب علينا أن نميز بين الفئتين لقلنا إن ((الأفكار الميتة)) التي
(1) لم نجد هذه المقالة تحت أيدينا.
ورثناها من عصر ما بعد الموحدين، أخطر علينا من الفئة الأخرى.
ويكفينا- كي نتأكد من هذا- أن نلقي النظر على قائمة الأفكار التي فعلت فعلتها، في التاريخ فقتلت المجتمع الإسلامي
…
إن هذه الأفكار، التي لا زالت - باعتبارها أصبحت ميتة- تكوّن الجانب السلبي في نهضتنا، قد كانت تكوّن الجانب الإِيجابي أو ((القتال)) في عهد التقهقر والأفول الذي مر على الحضارة الإسلامية، هذه الأفكار إذن كانت قتالة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة، غير أنها بكل تأكيد لم تولد بباريس أو لندن بل ولدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة
…
لم تنشأ في مدرجات أكسفورد والسربون
…
ولكنها نشأت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي وفي ظل صوامعه.
هذه حقيقة في منتهى الوضوح: إن كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الاجتماعي ((أفكاراً ميتة)) تمثل خطراً أشد عليه من خطر ((الأفكار القاتلة)) إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته، وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون ما لم نجر عليها عملية تصفية، تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، وهي تستطيع ذلك لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه.
يجب أن نطبق تفكير باستور في المجال البيداغوجي كي ندرك هذا الجانب المرضي في مشكلة الثقافة عندنا، وقد أعطانا الكاشاني هذه الأيام صورة عن هذا الجانب في المجال السياسي، إذ تمثلت فيه الجرثومية الداخلية أو ((الفكرة الميتة)) التي خدعت وخدرت قوى الدفاع الذاتي في ضمير الشعب الإيراني، ومن الجدير بالملاحظة أن الدكتور مصدق لم يسقط تحت ضربات الاستعمار- المتمثل في أكبر شركة بترول في العالم- ولكنه خر تحت ضربات القابلية للاستعمار، الناطقة باسم الله والوطن.
وإننا ندرك في ضوء هذا المثال الحدة التي تتصف بها ردود الأفعال دفاعاً
عن الذات عند الرجال الذين يمثلون الثورة في القاهرة أو في دمشق. كما ندرك أن المعركة الحقيقية- ليست هي التي تجري على حدود هذه الثورات مع الاستعمار ولكن المعركة في داخل البلاد مع القابلية للاستعمار تلك القابلية المتمثلة في بعض الشخصيات الإقطاعية وبعض العادات الرجعية. أو في داعية يدعي أنه يمثل المهدي في تلك البلاد نتوقع شره.
ولنحدد مرة أخرى مكاننا في هذا العرض. إن مظهر ((الأفكار الميتة)) لم يكن هو الموضوع الذي أثاره الحديث الذي أشرنا إليه ولكننا قد رأينا من خلال ما تقدم، كيف كان الحديث الذي يضيء المظهر الآخر (الأفكار القاتلة) بضوئه الخاص، حتى نرى ما بينهما من اتصال وثيق، سيزيده وضوحا ما سيتبع.
فلقد نجد أحيانا دور ((الأفكار الميتة)) ودور ((الأفكار القاتلة)) يتمثلان في شخصية واحدة، تمثل المظهرين، لأنها تحمل الجرثومة الموروثة في كيانها، تلك الجرثومة التي ((تمتص)) بطبيعتها، على صورة ما، الجرثومة المستوردة وتقرها في المجتمع الإسلامي المعاصر.
والشيء الذي يغيب على الأستاذ الزيتوني الذي يخطِّئُ شوقي هو ذلك الارتباط التكويني بين الجانبين المرضيين في الثقافة الإسلامية في طورها الراهن .. ولست أشعر أنني أفدته عندما أردت خلال الحديث لفت نظره إلى هذا الوضع الخطير في عالم أفكارنا .... مع أنني تعمدت في كلامي معه القياس على المبدأ المشهور: ((إن الإناء يرشح بما فيه)) كي يفهم الأخ المستمع أن فكر عهد ما بعد الموحدين مستعد لكي ((يمتص)) الموت من جانب لأنه من جانب آخر يرشح به .. وهذه الظاهرة المزدوجة تثير مشكلة من نوع خاص محددة بصورة معينة لا يجوز لنا أن نتناولها في صورة غيرها كي لا تنعكس القضية، فلا يجوز لنا مثلا أن نتساءل: لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟. بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى: لماذا تمتص بالضبط طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية هذه العناصر القاتلة؟
فهذه هي الصورة الصحيحة للمشكلة، حيث إنه من الواضح جدا أن المسؤول في الأمر ليس مضمون الثقافة الغربية الذي يتضمن فعلا هذه الأفكار الخطيرة، ولكن اتجاه فكر ما بعد الموحدين الذي يدفع هذه النخبة إلى انتقائها
…
والواقع أن هذه النخبة تقوم بعمل انتقاء واختيار في مضمون ثقافي لا يتضمن الأفكار القاتلة فحسب، إذ إِنه- بكل وضوح- صالح لحضارة حية تشمل شروطها الأدبية والمادية حياة وتطور مئات الملايين من البشر الذين بيدهم اليوم مصير الإنسانية.
وعليه فإن ((الأفكار القاتلة)) التي نجدها في مضمون هذه الحضارة، ما هي إلا إفرازاتها وجانبها الميت، الجانب الذي يمتصه فكر ما بعد الموحدين في جامعات العواصم الغربية.
لماذا نركن إلى هذه العناصر القاتلة؟ لأن موقفنا من مشكلة الثقافة ليس صحيحا لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الاجتماعية (1).
ومن هذا الانحراف المزدوج ينتج انحراف آخر في موقفنا، عندما نريد البت في الموضوع. إننا نصدر حكمنا فيه تبعا لمن يذهب إلى البلاد الغربية إما في وضع ((الطالب المجتهد)) كما يمكن أن نتصور بعض ((الباشوات)) في عهد الدراسة، وإما في وضع ((السائح المهتم)) كما نتصوره في شخص فاروق من خلال زياراته إِلى عواصم أوروبا. فلا شك أن هاتين الحالتين تمثلان الوضع الذي يكون عليه النموذج الاجتماعي الذي يكون 90% من ((النخبة)) الإسلامية المحتكة بالثقافة الغربية.
وفيما يخصني فقد تعرفت بالحي اللاتيني على أجيال من هذين النوعين وقد هممت أحياناً (مع صديق جزائري يدرس الفلسفة) بفهم سيكولوجيتهما حتى نتكهن، بما سوف يكون مركزهما الاجتماعي وما سوف يكون موقفهما من
(1) قد بينا هذا الضعف في كتاب ((مشكله الثقافة)).
مشكلة الثقافة أي بالتالي موقفهما من مأساة البشرية.
ولا شك أن نموذج ((السائح المهتم)) كان مهتما جداً بالجانب التّافه والتائه من الحياة الغربية: في مقهى أو في مرقص، أي في كل مكان تتحلل فيه الحضارة وتنتهي فيه إلى مخلفاتها ((القتالة))
…
في مزبلة.
ومن ناحية أخرى فإنك تجد النموذج الثاني منغمسا في الجانب التجريدي والنظري من الحضارة الغربية: منكبا هنا على كتاب عاكفا هناك في مكتبة، مرابطاً من جهة أخرى في كلية، أي في كل مكان تتقطر فيه الحياة الغريية إلى خلاصتها العلمية مع عناصرها القاتلة أحيانا والمقتولة أحيانا أخرى
…
في جو مقبرة.
وعندما يحاول ((الطالب المجتهد)) الفرار من هذه المقبرة فإنه يذهب يتسلى في قاعة برلمان
…
أي إلى مقبرة أخرى.
فهذا هو واقع الأمر، من الناحية التحليلية، بالنسبة إلى 90% من النخبة المثقفة في العالم الإسلامي.
ولكن ما هو الواقع من الناحية الأخرى، ناحية التركيب؟
إِن التاريخ لا يهمل شيئا، بل يجمع معطيات الواقع كلها في معادلة واحدة:
فكذا مرقص + كذا مقهى + كذا كلية + كذا برلان = تحللا تاماً.
وهذه المعادلة تصور الطامة الكبرى التي تهدد كيان العالم الإسلامي اليوم
…
والآن يبدو لي أن خطأ الأستاذ الزيتوني قد اتضح. فهو يخلط بين معطيات الحضارة التي تحلل الذرة
…
وبين ما تعطيه لنا، أو على وجه الدقة، ما نأخذه منها من عناصر تحلل الأخلاق
…
الأمر يبدو هنا في منتهى الوضوح. فلو كان مضمون الحضارة الغربية لا يحتوي غير ((الأفكار القاتلة)) التي نستعيرها منها فإن خطرها يتجلى أولا بالنسبة إلى أوروبا، حيث يجري مفعولها بالنسبة إليها قبل أن يجري علينا في تلك المعادلة التي أشرنا إِليها.
ومن هنا يمكن الوقوف عند نتيجة أولى. فموقفنا إزاء مفهوم الثقافة بصفة عامة، والثقافة الغربية على وجه الخصوص، هو السبب الرئيسي في الشر كله.
وإذا صحت هذه الملاحظة بكل دقة نظرا لما قدمناه، فإن صحتها تزيد، لو صح التعبير، إذا عقدنا بعض مقارنات وجيهة.
1 -
بالنسبة إلى أفراد مختلفة في مجتمع واحد- هو المجتمع الإسلامي- إننا نجد في طرف هذا المجتمع مفكراً من حجم محمد إقبال، وفي طرفه الآخر قافلة المثقفين (1)، والاختلاف بين النموذجين اختلاف فردي، ناتج عن أن إقبال استطاع، لا شك تصفية ((الأفكار الميتة)) المشحونة في نفسه عن طريق الوراثة الاجتماعية، حتى أن موقفه من مشكلة الثقافة تغير كليا، كما نتصور ذلك من خلال ما كتب، حيث لا نجده قد ((امتص)) من الثقافة الغربية عناصرها القاتلة، بل امتص منها عناصرها الحية، المحيية، التي نجد أثرها، بكل تأكيد، في محاولته لـ ((إعادة بناء الفكر الإسلامي)).
2 -
وبالنسبة لمجتمعين مختلفين- المجتمع الياباني والمجتمع الإسلامي على سبيل المثال- فإنهما دخلا المدرسة الغربية في الوقت نفسه تقريبا- حوالي سنة 1860 - ولكن الحقيقة التاريخية التي لا جدال فيها هي أن النتيجة اختلفت تماما. إذ نجد، بعد قرن ((معجزة اليابان)) في ميدان الفن والصناعة والاقتصاد، ومن طرف آخر في المجتمع الإسلامي، نجد دون ريب، مجهودا لا ينكر فيما نسميه ((النهضة)) ولكنه مجهود تشله ((الأفكار الميتة)) الموروثة من عهد ما بعد الموحدين.
فمعجزة اليابان لا تفسر قطعا إلا بموقف فيه فعالية أكثر اتخذه اليابان من الثقافة الغربية لأنه تخلص من الأفكار الميتة الموروثة من عهد ((الشوغون))، ولا يمكننا على كل حال، أن نفسرها بأن الاستعمار أعطى للنخبة اليابانية أفكارا
(1) ترجمة Intellectomanes من وضع صاحب المقالة في كتاب ((شروط النهضة)).
مثمرة خلاقة، وأنه على العكس يعطي لـ 95% من النخبة المسلمة ((الأفكار القاتلة)) والعقيمة
…
وعليه فإنه من الواضح أن القضية غير عائدة إلى طبيعة الثقافة الغربية، ولكنها تعود إلى طبيعة صلتنا بها، وهذه الصلة لا تحددها غير وراثتنا الاجتماعية، التي لم نتخلص بعد من تأثيرها بل إنها على وجه الخصوص هي التي تملي اختيار ((السائح المهتم)) في المزبلة واختيار ((الطالب المجتهد)) في المقبرة.
فكلاهما، بمقتضى وراثته الاجتماعية، لا يذهب إلى المهد الذي تولد فيه الحضارة، وإلى المصنع الذي تصنع فيه .. ولكنهما يذهبان أحدهما إلى الأماكن التي تتعفن فيها .. والآخر إلى الأماكن التي تقطر فيها .. أي أن كلاهما يذهب حيث تكون الحضارة فاقدة الحياة .. لا تعطيها.
ومن هنا تبدو الخصومة بين شوقي وغريمه في منتهى الوضوح فبقدر ما تكون ((الأفكار القاتلة)) هي التي أوحت إلى الأول مدحه لباريس، أو تكون ((الأفكار الميتة)) هي التي أوحت إلى الثاني نقده. فإننا سنعرف من يكون منهما المخطئ.
لكن الخصومة كما علمنا مما تقدم أوسع نطاقا من ذلك، إنها منوطه بموقفنا- أخلاقيا واجتماعيا وفكريا- من مشكلة الثقافة.
ولست أدري إذا أقنعت هذه الاعتبارات الأستاذ الزيتوني عندما كنت أعرض مجملها في الحديث .. ولكنني عندما انتهيت من الحديث، رأيت أحد المستمعين، وعليه ملامح العامل البسيط يرمق الزيتوني، ويرمقني ويرمق الطلبة الموجودين وفي نظره شىء من الخجل، كأنما يستحي أن يطأ أرضنا، أرض ((النخبة المثقفة)) ثم قال: أريد أن أقول كلمة!!
فتنازل جمعنا؟ إلى استماعه، فقال:
أعتقد أن القضية تشبه قضية التطعيم إنه من المعلوم أن العرق المنقول
إلى شجرة لا يطعم ثمار هذه الشجرة بل إنه يطعم ثمار الأصل الذي نقل منه.
لست أعرف مقدار صحة هذه الاستعارة بالنسبة إلى نظرية (مندل) في علم التلقيح والوراثة
…
أو نظرية ليسكنو
…
ولكن شعرت، بحياء، أن هذا الرجل البسيط أدى لنا درسا في قضية معقدة، وفَصَلَ فيها بجملة واحدة تغنينا عن الاعتبارات الطويلة التي قدمتها.
***