الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَهَوُّرٌ أَمْ تَطَوُّرٌ
الجمهورية الجزائرية في 5/ 2/ 1954
ــ
لقد حذرت، في مقالة سابقة، شبابنا من الخطأ الذي نقع فيه أحياناً، عندما نتناول مشكلة في مكان غير مكانها، ولعل القارئ وجد في هذا التحذير شيئاً من المبالغة. إذ أننا، في نظره، لم نتعود على هذا الخدط ((بين أنبولة بقر وفانوس))، حتى يبدو أننا في غير حاجة إلى مثل هذا التحذير.
ولكنني أدين بفكرة هذا الاحتياط، مهما يبدو فيه من المبالغة في نظر البعض أو البساطة في نظر الآخرين، إنني أدين بهذه الفكرة إلى رجل أدين إِليه أيضاً بالفضل الكبير في ميدان الفكر فهو وجه من الوجوه المشرقة بنور العلم، يجمع في شخصه المواهب الفكرية والميزات الأخلاقية التي يتسم بها رجل علم فرنسي كنت تلميذه بباريس.
إن هذا الأستاذ الكبير كان يعلم تلاميذه كي يحتاطوا من ((البديهيات)) الخادعة التي تخدع الفكر بظاهر الأشياء
…
وكان هذا الأستاذ الكبير يستشهد في هذا الدرس، الذي يتعلق بفلسفة العلم، بقصة غاليلي ( Galilée) الذي دفع حياته ثمناً في مقابل الخطأ الذي وقع فيه معاصروه عندما أخرج لهم نظريته المدهشة، التي تقول لأول مرة، بأن ((الأرض هي التي تدور حول الشمس)) بينما كان الناس يعتقدون أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. ولقد كان الخلاف بين من يرى مرأى الفكر مثل غاليلي، ومن يرى مرأى العين أي كافة الناس الذين كانوا ((يرون بكل وضوح الشمس تدور
…
))
فغاليلي ذهب ضحية هذا ((الوضوح)) الخَادع الذي أخر العلم قروناً
…
فكنت أتذكر هذه القصة، عندما تناولت في مقالة مضت قضية المرأة عندنا، وكانت تتجلى لي ((البديهيات)) الخطيرة التي تحوم حول هذه القضية! ونحن نرى في كل ((بديهية)) منها، الفخ الذي ربما يقع فيه عقلنا عندما نفكر في هذه المسألة. ومهما يكن الأمر، فإِنه ليس في نيتي أن أقدم هنا منهاجاً كاملا للحركة النسائية عندنا، وقد اجتهدت، أن أبين بالقدر المستطاع، مبادئها في محاولة سابقة (1)، وإنما أريد أن أعقد المقارنة بين مظهرين من مظاهر هذه الحركة، وهما مظهران يخشى أن يؤدي الخلط بينهما إلى عواقب غير محمودة في بلادنا.
ويجب منذ أول الأمر، أن نقصي عن مجال الحديث اشتباها قد نقع فيه بسبب العنوان نفسه، إذا اتخذناه في صورة متحارجة ليست في طبيعة الموضوع، إننا لا نضع نقطة الاستفهام على طرفي مناقضة، وإنما نضعها فقط للتعبير عن الفرق بين مظهرين مختلفين من مظاهر القضية، مع الاشارة إلى أهمية كل واحد منهما وارتباط كل واحد منهما بمعطيات الموضوع.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذا التمييز لا يظهر تلقائياً كبديهية من بديهيات الحياة الاجتماعية، لأن الحياة لا تحلل الأشياء وإنما تجمعها وتركبها أو تلفقها، حسب درجة انسجامها.
ولكن الحياة تعطينا أحياناً المثل المقنع، الذي يضيء بضوئه المباشر الموضوع الذي نريد فحصه أو فحص مظهر من مظاهره على وجه الخصوص.
ولا شك أن سكان العاصمة يتذكرون، تلك ((الهجرة)) التي حدثت في أوساط الطائفة اليهودية بالجزائر، بعد أن تأسست دولة إسرائيل، ولا شك أنه كان بين ((المهاجرين)) عدد من النساء اليهوديات، من أهالي وادي ميزاب، ومن واحات وادي سوف
…
(1) راجع فصل المرأه في كتاب ((شروط النهضة)).
فهل نتصور النظر، منظر هؤلاء اليهوديات من الواحات الجنوبية بالجزائر، إِذا ما نزلن بتل أبيب وعليهن ملامح نساء تلك الواحات، أي في عيونهن الكحل، وفي أرجلهن ((البلغة)) وعلى رؤوسهن الملاءة اللف؟
إننا نتصور لا شك ((الثورة)) التي كانت تحدث بتل أبيب لو حدث في شوارعها هذا المنظر
…
ورأته المهاجرات، الأخريات اللواتي ينزلن من انجلترا ومن ألمانيا
…
ولكن القيادة اليهودية أدركت هذا، وقد اتخذت الإجراءات اللازمة كي لا تحدث مثل هذه ((الثورة))
…
ولا شك أن القارئ المسلم، إذا كان من سكان العاصمة يتذكر ذلك الضجيج الملون الذي كان يسود حول تلك البناية الضخمة، بشارع باب عزون، حيث كنا نشاهد، عندما يأتي قطار الجنوب، بيهوديات يعبرن الباب ويدخلن في تلك البناية في صورة ((بلديات)) الواحات الصحراوية، ثم نشاهد، بعد أسبوع، يهوديات يخرجن من ذلك المبنى في صورة ((المواطانات)) المتأهبات إلى الباخرة التي ستنقلهن إلى إسرائيل.
ومن يشاهد هذا المنظر يندهش من سرعة التغيير الذي حدث في صورة هؤلاء النسوة، اللائي تركن بسرعة البرق ((البلغة)) كي يلبسن الحذاء الأنيق، وتركن ((الملحفة)) (1) كي يرتدين ((الفستان)) وتركن زجاجة الكحل كي يتزودن بأدوات التجميل العصرية ....
ولا يشاهد المسلم هؤلاء اليهوديات قد تركن الأشياء القديمة فحسب، بل يرى أنهن انسجمن مع الأشياء الجديدة، كان الملقن الذي أشرف على هذا التغيير، أو الملقنة التي أشرفت عليه، لم ينسيا كلاهما أي تفصيل في تكييف اليهودية كي تصير ((مواطنة)) في إسرائيل حتى في كيفية المشي برشاقة
…
وكيفية الابتسام بأناقة
…
(1) رداء النساء في الجنوب الجزائري.
ولكننا ندرك أن العصا السحرية التي أحدثت هذا التغيير في أسبوع لم تحدث، في الواقع، إلا تغييراً سطحياً لم يؤثر إلا في مظهر شخصية يهودية جنوب الجزائر، دون أن يغير كيفية تصورها ولا شعورها ولا تفكيرها.
فنحن هنا أمام تخطيط واطراد يخصان بتعبير بافلوف الحالة ((القشرية)) في الشخصية، لا حالتها الداخلية.
ولكننا نعرف عن القادة اليهود، أنهم لا يباشرون المشكلات بمنطق السهولة، حتى أننا نعتقد أنهم لا يقتنعون بهذا التغيير الشكلي أو ((القشري)) في المرأة اليهودية المستعدة للسفر إلى إسرائيل، إلا كخطوة أولى تمليها ظروف خاصة في سلسلة تطورية معينة.
ولا شك أننا نخطىء إِذا قدرنا هؤلاء القادة اليهود على أنهم يخلطون بين هذه ((الخطوة الأولى)) التي تحدث في لمحة بصر تغييراً شكلياً مرموقاً، وبين الاطراد الطويل الذي يغير ((النفس)).
ها نحن الآن قد وصلنا إلى الشيء الذي هو بيت القصيد في هذه المقالة: إن الفرق الذي بيناه بين تغير ((القشرة)) وتغيير ((النفس)) هو ما كنا نريد إباتنه بين ((التهور)) و ((التطور))، أي بين ما يتصل بمظهر الشخصية، وما يتصل بجوهرها.
فإِذا استفدنا من يهود الجزائر، من الناحية الفنية، فيما يتعلق بمظهر المرأة، فيجب علينا أن لا نقتنع بهذا الجانب، الذي يعني أحياناً تهور المرأة، كي نفكر فيما يتعلق بتطورها.
ولو أننا تتبعنا خطوات اليهودية بعد خروجها من ((مصنع)) باب عزون، حيث صنعت قشرتتها الجديدة، ورأيناها بعد وصولها إلى تل أبيب في صورة ((مواطنة))، كيف تتكيف مع الحياة الجديدة باجتهاد شخصي، تتكيف بكبت العناصر النفسية التي لا تتمشى مع الشخصية الجديدة- شخصية المواطنة- وباكتساب عناصر أخرى من شأنها أن تغير الـ ((أنا)) في اتجاه التطور المنشود حسب رغبة
المجتمع، وأهدافه، ومصلحته.
ومن الواضح أن هذا ((الاجتهاد الشخصي)) من أجل التكيف في الوسط الجديد، هو من جانب الفرد ((الرد)) على أفعال المجتمع الذي يكون في الواقع العامل الأساسي في تطوير الفرد.
أو بعبارة أخرى: إن الفرد لا يتطور في مجتمع جامد، وإنما يتهور فيه أحياناً.
والآن، لو طبقنا هذه الاعتبارات العامة، في الحركة النسائية الجزائرية على وجه الخصوص، فإننا نرى أنها تتضمن جانبين:
1 -
درس شروط التغيير الشكلي عندما يمر المجتمع بظروف خاصة تقتضي بأن تكون صورة المرأة مطابقة لنموذج معين، وأن يكون لها أسلوب معين، هذا بالنسبة للفرد.
2 -
درس الشروط التي يجب فرضها على المجتمع كي يقوم بدور التوجيه، أو التطوير للمرأة في الاتجاه المقصود.
وإننا ندرك كم يجب، في هذا الفصل، أن نعتني أولا بتحرير سيكولوجية الرجل- الأب، والأخ، والزوج- كي تتمشى مع مقتضيات المشروع في عمومه.
ويجب أن نلاحط أن هذا التخطيط المصنوع صناعة نظرية، هو ما تقتضيه ظروف خاصة عندما يجب أن تسير الأمور بالسرعة والتعجيل، أما في الظروف العادية، عندما تسير الأمور بطبيعتها، فالنموذج الذي تكون عليه صورة المرأة في المجتمع، يكون نتيجة لتطور بطيء ينحت هذه الصورة نحتاً عبر القرون.
ولكن كيف يتسنى لنا أن نحدد هذه الشروط كلها، بالنسبة لأفعال المجتمع وبالنسبة لرد الفرد (المرأة) عليها، إن لم تعرض القضية على مؤتمر يدرسها بكل تفاصيلها في مناقشة عامة تهيئ الجو لتطبيق الحل، وربما تجد الحل ذاته
…