الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَصِيصُ الْأَمَلِ
الجمهورية الجزائرية في 28/ 5/ 1945
ــ
لقد استفاد العلم من ظاهرة ((استمرار الرؤيا)) التي تجعلنا نبصر شيئا، ولو لحظة، بعد أن يكون قد فقد من الناحية النظرية ما يجعله مرئيا، لقد استفاد العلم من هذه الخاصية البصرية المبدأ الذي أسس عليه فن السينما وفن التنوير بالتيار المذبذب، كما استفاد منها في بعض الطرق لفحص الأجهزة المتحركة، لفحص الحالة الميكانيكية للمواد المركبة منها تلك الأجهزة لدراسة التغيرات التي تحدث فيها أثناء الحركة.
وميزة هذه الطرق كلها، هي أنها تستطيع، أن تتيح دراسة الأشياء المتحركة كما لو كانت، في ظاهر الأمر ساكنة تماما.
وإنني أعتقد أن هذه الطرق قد تفيد أو تغري بالفائدة في دراسة الواقع الاجتماعي، أي أنها تتيح دراسته كما لو كان مستقلا عن الاطراد، وكامنا في سكون مطلق وفي زمن جامد.
إن هذا سيكون بطبيعة الحال لعِباً غريباً .. حيث أنه سيضفي على حياة الأفراد والشعوب ما يجعلها كتلة جامدة لا يعتريها تغير. وهذا اللعب سيعطينا عن الحياة، الشعور الغريب بأنها مفروضة على نفسها كما هي من دون تغير ممكن، ولا تطور متوقع.
وهذه الطريقة، لو طبقت في السياسة سيكون لها من الأنصار كل من يهتم بتجميد حياة البشر، أو بإظهار جمودها على الأقل، أي كل من يتمسك في السياسة بمبدأ ((الاستمرار)) ومبدأ ((التقليد)).
كما سيكون لها ضحايا، كلما تفرض سلطة أجنبية على مصير العباد، وتصرخ لتاريخ الشعوب كلمة يوشع: يا شمس! قفي!!
فكما سيكون لهذه الطريقة أنصار يطبقونها لمصلحتهم وضحايا تطبق على حسابهم، قد يكون لها ضحايا أخرى، في مستوى الفهم للأشياء أولئك الذين يغترون بظاهرها في أقوالهم وفيما يكتبون.
وقد كان فكرنا مع هؤلاء المغتربين، عندما كنا نطالع ذلك العدد من (فرانس أوبسيرفاتور) حيث كتب مراسل هذه الصحيفة بطهران، نبذة قصيرة عن الوضع بعد أن أخذ الجنرال زاهدي بزمام الأمور بإيران، فقال هذا المراسل:((إن بصيص الأمل الذي أتى به الدكتور مصدق قد انطفأ)).
فهذه الخاطرة، هي دون شك نتيجة انفعال المراسل المذكور تحت تأثير الظاهرة التي أشرنا إليها، حيث يبدو وكأنه يفحص الحالة الاجتماعية والسياسية بإيران، في حالتين معينتين، نكون- إذا وصلنا بينهما على شاشة التاريخ دون اعتبار ما يفصل بينهما في الواقع- نكون قد أعطينا فكرة غير صحيحة عن الوضع هناك أي فكرة مقتضبة تعبر عن حالة نرى فيها شخصاً معينا، اسمه رزماره (1)، يعقبه ((رزمارة)) آخر اسمه زاهدي ..
إن ظاهرة ((استمرار الرؤيا)) التي أشرنا إليها، قد ألغت في نظر مراسل الصحيفة الباريسية الفاصل الضخم الذي أحدثه الدكتور مصدق في تاريخ بلاده، كأنما هذا البلد العريق البشوش استمر منذ خمس سنوات في طريقه العتيق، وناي حفيز بين إصبعيه ورباعيات الخيام على شفتيه، وهو يسد أذنيه كي لا يسمع ذلك الضجيج المحموم، المتصاعد في سماء عبادان، ويسد أنفه كي لا يشم رائحة البترول، عندما يعرج طريقه المفروش بالزرابي المبثوثة، وبالزهور المنثورة فيكون على مقربة من المملكة التي تحركها الحمى، ويرفع صولجانها من بيده مصالح
(1) رزمارة هو رئيس الحكومة الاقطاعي الذي وقع عليه انقلاب الدكتور مصدق. وزاهدي الجنرال الذي قام بانقلاب على مصدق.
شركة AOIC (1) .
ومن ذا الجريء الذي يدعي أن الشعب الإيراني يريد أن يستنشق رائحة بتروله المنعشة أو أنه يريد تأميم إنتاجه، أو أنه يريد أن يكون صولجان الحكم بيده هو؟.
هل صحيح أن ((بصيص الأمل)) قد انطفأ لأن مصدق أصبح سجينا؟ وأن فاطمي خرَّ تحت خنجر المجرمين؟ وأن قصتهما ما كانت إلا حلما انفلت من عالم النوم؟
من هو ((الوهم)) ومن هو ((الحقيقة))، بين زاهدي ومصدق؟.
إن الأول هو صورة ((الاستمرار)): الصورة المزدوجة والملعونة للاستعمار والقابلية للاستعمار، والدليل المحسوس الذي يبرهن به على أن ((الإسلام عالم اللاحركة)) والذي يجب تحريكه وتحضيره.
أما الثاني، مصدق، فهو حركة وطن مركزة في رجل، وهو صوت تطوره، وهو إرادته كيما يكون في التاريخ هو نفسه، أن يتحقق بذاته.
أين الحقيقة؟ وأين الوهم؟
نعم، إنه من البين- لو حكمنا منطق مسيو دولا باليس (2) - لو جردنا الأشياء من الحركة ومن أسبابها، لم تبق إلا حقيقة واحدة، حقيقة عالم ساكن لا ((أمس)) فيه ولا ((غد))، فلو أننا قبضنا على عجلة التاريخ في إيران، وأوقفناه في يوم زاهدي، وهو كما بينا لا يختلف في شيء عن يوم رزمارة، وقصرنا ملاحظتنا، بتوقيف الزمن والحركة، على هذين اليومين بقطع النظر عن الفترة التي بينهما فإننا شنشعر أن تلك العجلة لم تدر منذ خمس سنوات، وأن شيئا لم يتغير في هذه الفترة في طهران.
(1) شركة البترول الأنجلو-إيرانية.
(2)
رجل اشتهر بأقوال تشبه ((أن السماء فوقنا والأرض تحتنا)).
أوليس الأمر يبدو كذلك بدمشق؟، حيث لو أننا أوقفنا عجلة التاريخ فترة معينة، لوجدنا أن رجلا اسمه الأتاسي قد خلفه رجل اسمه الأتاسي، كما خلف زاهدي رزمارة بطهران وفي نفس الظروف
…
حتى أننا لو عممنا هذه الملاحظات المقتضبة لقطعنا بأن الإسلام ((هو العالم الذي لا يتحرك فيه شيء)).
وعندما نرفع هذا الحكم المغامر إلى مستوى حكم آخر قدمناه كمسلمة بنينا عليها كتاب ((وجهة العالم الإسلامي))، حيث رأينا في كارثة فلسطين الحدث الجوهري الذي يؤثر، في المستقبل في تحديد تلك ((الوجهة)) سنجد أنفسنا مضطرين، نظرا إلى الأحداث الأخيرة التي جرت بإيران وبسوريا، إلى أن نتساءل هل تبقى قيمة لمسلمتنا؟
إِن الجواب على هذا السؤال يفصل في سؤال آخر سبق، عندما تساءلنا: هل شخص الدكتور مصدق يمثل في تاريخ بلاده حقيقة تتصل بواقعها، أم مجرد ((وهم))؟
إن عودة الأتاسي إلى منبر السياسة، وعودة رزمارة ممثلا في شخص زاهدي، قد تدفعنا الى الاعتقاد بأن صدمة فلسطين قد انتهى دويها أو قد انخفض في البلاد الإسلامية بصورة تشعرنا بأن هذه البلاد تمر بلحظة سكون في تطورها، أو بلحظة نكسة، كأنها تنزع للرجوع إلى الحالة التي كانت عليها هذه البلاد قبل الكارثة.
ولكن النظرة الفاحصة تدل على غير ذلك: إن الفترة الحاضرة ليست إلا لحظة من تاريخ تلك البلاد، اللحظة التي تساوت فيها القوات الرجعية المسلطة من الخارج، والقوات الدافعة المنبعثة من الداخل، أي من صميم واقع تلك البلاد.
إنها الفترة التي يحاول فيها الاستعمار محاولة يائسة، عن شعور أو غير شعور، ليستعيد سلطاته في المستعمرات، مع مساعدة القابلية للاستعمار التي
تتمثل في شخص باؤ داي على سبيل المثال؛ وهذه المحاولة هي التي تطبع المرحلة التطورية الحاضرة في العالم الإسلامي بشيء من التردد بين مواقف متعارضة حتى نراه أحيانا يعود أدراجه إلى موقف سابق عندما نرى زاهيدي يخلف رزمارة، كأنما مصدق لم يوجد.
ولكن هذه الصورة هي ((الوهم)) أو ((المظهر)) لأن حقيقة التاريخ شيء آخر، فهي منوطة بنفسية وإِرادة شعب، لا بمغامرات فرد وشهواته.
إِن الشيء الذي يصنع تاريخ شعب، هو ما في نفسه من استعدادات، لاكمية النقود الأجنبية التي تتقاضاها حكومته.
وهذا هو السبب الذي يجعلنا، رغم الظواهر التي خدعت مراسل الصحيفة الباريسية، نبقى واثقين أن ((بصيص الأمل)) الذي جاء به مصدق، لن ينطفئ وأن كارثة فلسطين لم تفقد أثرها التوجيهي على تاريخ العالم الإسلامي الحديث.
***