الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاعَةُ الْحَضَارَةِ
الشاب المسلم في 16/ 4/ 1954
ــ
إننا نعرف في الجزائر، وفي البلاد الإِسلامية الأخرى، ذلك الوجه المألوف، وهو يشق طريقه بين الجماهير في أسواق المدينة وبطحائها، يوزع مجاناً ماء غدقاً يسكبه من قربة يحملها بجنبه يمر وهو يكرر كلمته المعروفة لدى أجيال المسلمين:
- في سبيل الله! السبيل! ..
إننا نعرف هذا الوجه الأصيل، بين وجوه أخرى كذلك المؤذن، وهو يوزع في الواقع زهده، وطمأنينة عقيدته وروحانيته العميقة في الأسواق ..
فكل حضارة تصنع هكذا نماذج اجتماعية ووجوهاً تقليدية تتعاقب في الأجيال، تضع عليها طابعها، وترسم على ملامحها ما يعبر عن رسالتها الخاصة.
فالحضارة الغربية، باعتبارها شغالة ومهنية، قد صنعت النموذج الاجتماعي المطبوع بما نسميه مثاليتها، أي المطبوع بالعبقرية التي تتمثل فيما يطلق عليه الإنجليزي ((الشغل)) ( Business) وبالحكمة التي يعبر عنها هذا الرجل فيقول:
- إن الوقت درهم
…
ومن الطبيعي أن يكون هذا النموذج متنوعاً حسب الحاجة في مجتمع اعتنى أكثر من غيره بالتخصص وتوزيع العمل.
إِننا لا نجد هذا النموذج متمثلا فحسب في البقال، وفي السمسار الذي يعرض العمارات للبيع، وفي بائع الحديد القديم، وفي بائع المخلفات أي في كل بائع لشيء من الأشياء، بل نجده متمثلا في البائع الذي يبيع ((لا شيء)) .. أي
في البائع الذي لا يسلمك شيئاً في مقابل نقودك.
إنك تعرف، لاشك، إذا كنت من سكان مدينة كبيرة في الغرب ذلك الزائر الذي يدق على بابك ليعرض عليك إما ((مصاصات الغبار)) التي تمتص الغبار من السجاد، وإما تكبير الصور العائلية فيقول أحدهما:
- يا أستاذ، إن الآلة التي أعرضها على حضرتكم لازمة لصحة بيتكم، لأنها تكفيكم شر المكروبات الموجودة في الغبار.
ويقول الثاني:
- يا سيدي، إن دارنا تمكنكم مجاناً من حفظ ذكريات العائلة من التلف .. يجب أن تكبروا صور العائلة كي تحتفظوا بها.
إنك تستمع هذا
…
وتبتسم طبعاً لهذه العبارات البريئة، حيث ترى المصلحة الشخصية فيها، وهي تحاول أن تختفي وراء مصلحتك.
ولكن مهما يكن في موقف هذين الزائرين من انتفاعية بسيطة متخفية، فإنهما على كل حال، يعرضان عليك شيئاً معيناً، مقابل نقودك.
ولكن كيف نحكم على من يأتي إلى بابك كي يبيع لك الحضارة؟. إن بعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها إلا كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار.
فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى .. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحداً ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من ((شنطته))، أو من حقيبته الدبلوماسية. ذرة واحدة منها.
فهذه الاعتبارات تجعلنا نقف، من الجلسة التي عقدتها، أخيراً، أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية للاستماع إِلى مدام لويزفيس، التي تحث الغرب على
مواصلة عمله في البلاد المستعمرة كي يقي هذه البلاد من العودة إلى الفوضى .. فإننا لا نرى في هذه الجلسة أي جانب بناء، كأنها مجرد جلسة تسلية لهذا المجلس المحترم.
إنه لا يمكننا الحكم المدقق على قيمة ما قيل خلالها كوثيقة تخص علم الإنسان في القرن العشرين، لأنه ليس لدينا العرض الكامل للجلسة .. إنه يمكننا فقط أن نتصور هذا العرض من ملخص ما نشرته جريدة (لوموند) ومن التحفظات التي يدلي بها المسيو لالند بالنسبة إلى بعض المسلَّمات التي يستند إليها الحديث الذي دار خلال الجلسة .. ولكننا نريد إِسناد ملاحظاتنا إلى نيات مدام لويزفيس ذاتها .. لا فيما يتعلق بنياتها الشيخصية الخاصة، لأننا نحترمها كشيء يتعلق بحرمة الذات الإِنسانية، ولكن بالنسبة إلى ما هو من وحي الثقافة العامة المتمثل في ((نية تحضير البلاد المستعمرة)) أي في العبارة التي نجد فيها أكبر تعبير عن نفاق الاستعمار.
ومن الطبيعي أن ((نية)) كهذه، تخلق اشتباهاً يجعل فعلي ((حضر)) و ((استعمر)) بمثابة المترادفين، ونجد شخصيات لامعة مثل الأستاذ شيجفرد والقسيس بجنر والكاتب دوهميل يشاطرون مدام فيس هذه النية أي هذا الالتباس ..
والنتيجة العاجلة للمسلَّمة التي تتضمنها هذه ((النية))، أو إِحدى نتائجها في نطاق السياسة، هي تلك المرافعة، التي شرعت فيها مدام فيس، في محاضرتها ضد ما تسميه، زعماء الشعوب المتخلفة، حيث أنهم في نظرها، يحرمون هذه الشعوب من الخيرات التي تقدمها لهم الحضارة الغربية وعليه فإن الإِثم والجريمة يتكفل بها ((الزعماء الوطنيون)) أنفسهم وهم المسؤولون بالجزائر مثلا- كما يستنتج من كلام هذه المحاضرة المحترمة- هم المسؤولون عما يعاني الشعب الجزائري من فقر وجهل وعطلة
…
وهم، بطبيعة الحال، الذين يقررون الأجور المخزية التي يتقاضاها العامل الجزائري اليوم، إذا ساعده الحظ فوجد عملا. كما يقررون، طبعاً، الأسعار
المنحطة للبضاعة الأهلية، مثل الحلفة، في الأسواق العالمية
…
وهم .. وهم
…
ولكن فلنكف عن هذه التسلية
…
ولنعد للجد: إننا لا نستطيع أن نتصور أن المحاضرة المقتدرة على هذا الجانب من البساطة حتى تعتقد أن الشعب الجزائري يدين بحالته التعيسة إلى بعض الأرواح الشريرة المتجسدة في قادته، وأن الاضطهاد الرهيب الذي يئن تحته الشعب التونسي اليوم من صنع فرحات حشاد (1) على سبيل المثال؟
ولكن فلنحذر أن ننزلق إلى الاعتبارات السياسية .. وليبق حديثنا على ((النية التحضيرية)) إننا لا نتصور هذه النية في سياسة الغرب في المستعمرات لأننا لا نعرف الركن الذي تشغله هذه النية في شيء يسمى ((ضمير الاستعمار))
…
بل نشعر أحياناً بأنه يجب قلب ما قالته مدام فيس لنكون في الصواب، لأننا نرى فعلا الاستعمار يتدخل في شؤون ((الحياة الأهلية)) - كما يعبرون- في اتجاه ينافي تماماً كل حضارة وكل نية تحضير
…
ولا حاجة لنا بتجربة نادرة كي نتأكد من هذه الحقيقة.
وفيما يخصني، فإنه يمكنني القول، بأن أي مجهود حضاري بذلته منذ عشرين سنة، كرجل يمارس الحياة الفكرية إلى حد ما، قد رجع علي، من الناحيه الإِدارية بكل شر
…
وعلى سبيل المثال أذكر أنني قدمت، بعد نهاية دراستي سنة 1936، طلباً إلى الوزير المسؤول بباريس من أجل تأسيس معهد بقسنطينة لتحضير الطلبة الذين يرغبون في الدخول إلى كليات الهندسة
…
فلم يأتني رد.
وفي سنة 938 1 - 1939 أسست بمدينة مرسيليا مدرسة للأميين في سن متقدم من بين إخواننا العمال المشتغلين بفرانسا، فدعتني الإدارة المختصة ومنعتني من أن أواصل التدريس في هذا المعهد البسيط بدعوى أنه ليس لدي المؤهلات.
(1) فرحات حشاد هو أحد شهداء الحركة الوطنية التونسية وقد قتله الاستعمار ومثل به بصورة شنيعة.
الكافية لتدريس ألف باء
…
وعليه فالنية الحضرية، بعيدة بعداً كلياً عن واقع الاستعمار، بل ما هي في كلامه إلا مجرد مبرر يبرر به موقفه، وحتى على احتمال أن هذه النية موجودة فعلا في واقع الاستعمار أو في رسالته كما يقولون، وهذا طبعاً أقصى ما يمكن تسليمه لمدام فيس- على سبيل المناقشة- فيبقى أن المشكلة التي وضعتها للبحث في جلسة أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية: ليست موضوعة على أساس، لأنها تتضمن مسلَّمة لا تقنع أحداً ألا وهي تلك التي تجعل من فعلَي ((استعمر)) و ((حضَّر)) مترادفين.
والواقع أن الحضارة ليست شيئاً يأتي به سائح في حقيبته (مع أن صورة السائح لا تورط مفهوم الحضارة مثلما تورطه صورة المستعمر) لبلد متخلف كما يأتي بائع الملبوسات
…
البالية بل إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها البعيدة، وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب من أصالته. وليست الحضارة في نية المستعمر ولو صحت هذه النية بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضير، وفي إِرادة هذا الشعب إزاء الحضارة أي عندما يضع في كل تفصيل من حياته مضمونه الأخلاقي والجمالي والعملي حتى يكون هذا التفصيل كأنه خطوة نحو التقدم.
وفي هذا المضمون مع ما تضعه فيه عبقرية ابن المستعمرات هندوكياً كان أو بوذياً أو مسلماً- نجد ما تضعه فيه أيضاً العبقرية الغربية. لأن الحضارة الغربية ستبقى مثل ما سبقها من الحضارات مرحلة في تاريخ الإِنسانية وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة فاصلة بمقتضى ارتباطها بعصر الذرة، فإن الإنسانية سوف لا تدين بالتالي بحضارتها إلى ((نية)) الغرب أو إلى عبقريته بل تدين إلى العناية الإلهية التي تضع مصيرها تحت قوانين سماوية تسير تاريخها.
***