الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَسَاسُ الْغَيْبِيِّ لِفَلْسَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ
الجمهورية الجزائرية في 29/ 9/ 1950
ــ
إن المقالة التي نشرها الدكتور عبد العزيز خالدي (1) بعنوان ((الاستعمار والحرية)) - وربما كانت تستحق عنوانا آخر لأنها تتعرض لمشكلة في منتهى الأهمية بالنسبة إلى كفاحنا اليومي- قد وضحت عقدة جوهرية في النفسية الأوروبية تجاه الإنسان، العقدة التي تمنع الفكر الأوروبي من فهم الإنسان بمعناه التام، أو كما يقول صاحب المقالة، في عبارة موفقة، فهم ((الإنسان بأكمله)).
وهذه الحقيقة واضحة في النفسية الأوروبية كما سنحاول توضيحها في هذه السطور. ولكن الدكتور خالدي يعزو هذه العقدة إلى ظاهرة رأسمالية، وبالضبط إلى الثقافة الرأسمالية التي، حسبما يرى هو، قد أذابت سفهوم ((الإِنسان الأبيض المتحضر)) و ((الإنسان الملون المتهمج دون رجعة، والمتخلف بصورة مزمنة)).
فهذا التفسير للقضية، أي تفسيرها على أنها من معطيات المجتمع الرأسمالي، يكون مقبولا لو أنه تمشى مع الوضع الأوروبي منذ عهد معين، أي منذ ظهور الرأسمالية في أوروبا وتكوين الأمبراطورية الاستعمارية، ولا شك أن الواقع الاستعماري، الذي نعرف آثاره الغربية في أوروبا، بحيث يعمي الأبصار حتى ينظر الناس إلى الرجل الأشقر من جبال الأوراس بالجزائر على أنه ((الزنجي)) بينما يرون الرجل الأسمر الذي يعيش مثلا بجبال قسطيليا أسبانيا على أنه ((الأبيض))، لا شك أن الفكر الاستعماري، الذي يمارس تحريف الواقع بهذه الصورة المكشوفة حتى في مجلة للأطفال، لا شك أن هذه الأشياء تجعلنا نركن إلى رأي الدكتور خالدي في القضية.
(1) الدكتور عبد العزيز خالدي هو صاحب كتاب ((القضية الجزائرية أمام الضمير العالمي)) سنة 1946
ولكن القضية على جانب من الأهمية تستحق أن توضع في التاريخ في حدودها الحقيقية.
إن الرأسمالية تفسر، لا شك، أشياء كثيرة في النفسية الأوروبية ولكنها لا تفسر كل شيء.
لقد أشرت في مرة سابقة، في فصل من فصول كتاب ((شروط النهظة)) إلى أن الاستعمار نكسة في تاريخ الإِنسانية تعود بالتاربخ إلى العهد الروماني.
ويجب أن نلاحظ أن هذه النكسة لم تقع في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، عندما بدأ يتكون الوضع الرأسمالي والاستعماري في أوروبا، بل وقعت في غرة القرن السادس عشر، مع تلك الحركة المعقدة التي يسميها التاريخ حركة النهضة، والتي عبرت عن نفسها بأنها ((رجوع إلى العهد الروماني والاغريقي)).
إن دراسة ظهرت هذه الأيام في علم الإِنسان بقلم المسيو ريموند شواب، تحت عنوان ((النهضة الشرقية)) تبين كيف وقع أفول للانسانيات في الغرب بهذا ((الرجوع إلى العهد الروماني)).
إنني أطالع، بكل أسف، هذه الدراسة، ولكنني شعرت بقيمتها من خلال ما قاله فيها النقد، حيث يقدمها لنا على أنها ((دراسة كبيرة توسع نطاق الإنسانيات)) ويقدم صاحبها لنا على أنه يرى ((في التقاليد الرومانية، لا في القيم المسيحية)) السبب الكبير، إن لم نقل الوحيد، لانفصال الفكر الغربي عن الإِنسانية الشرقية.
إن هذه الكيفية في فهم القضية سليمة، فيما يبدو لي، ولكنها تقتصر على اعتبارها بالنسبة إلى محور (الشرق - الغرب) فقط، مع أن الحقيقة تشمل موقف الأوروبي إزاء الانسانية بصفة عامة، إذ أنه في حالة انفصال عنها. منعزل عنها، ملتفت عنها كأنه ليس منها، بل يتربص بها الدوائر، كي يجعل منها ((حاجة)) يملكها، و ((شيئاً)) يغتصبه، عندما تدق ساعة الفتوحات الاستعمارية.
وتصاغ للتعبير عن هذا الانفصال الكلي الكلمات المناسبة: فكل ما ليس بأوروبي فهو ((الأهلي المتوحش))، ولا يخرج عن هذه القاعدة أحد في أوروبا، حتى ماركس الذي ثارت ثائرته يوما، في وثيقة خرجت من يدي ومن ذاكرتي، عندما رد بكل عنف على مؤرخ معاصر له، لأن هذا المؤرخ قد وضع على صعيد واحد، في نظره، ((آسيا)) في ذلك العهد وإلى حد ما اليوم أيضاً، في درجة ما من التأخر بالنسبة إلى أوروبا، ولكن ماركس كان يدلي بحكمه في القضية بصورة قطعية مطلقة، كأنهما آسيا في نظره، خلقت لتكون على طول الزمن ((آسيا المتوحشة))
…
ولكن مثل هذه الأحكام لا تخضع للمنطق حتى عند ماركس، لأنه لا يحكم هنا بما يمليه العقل
…
ولكن بما يمليه الوسط والثقافة.
الواقع- كما يلاحظ المسيو شواب- هو أن صورة ((الشرق)) في الذهن الغربي تتجلى من خلال عاطفة متعالية ومطلقة، تعبر عن شعور الغرب نحو نفسه ونحو الآخرين.
غير أن القضية تستحق مزيداً من الوضوح: فإِن هذا التعالي المطلق ليس - فيما يخص الحقل الفكري على الأقل- واقعا خاصاً بطبقة معينة، إذ أن الفرد الأوروبي يحمل جراثيم هذه الكبرياء دائما لأنه يتلقاها من الجو الأمومي الذي يتكون فيه منذ الطفولة، ويتكون فيه تصوره للعالم وللانسانية، فهو يعتقد، على وجه الخصوص، أن التاريخ والحضارة يبتدئان من أثينا، ويمران على روما، ثم يختفيان فجأة من الوجود لمدة ألف سنة، ثم يظهران من جديد بباريس في حركة النهضة .. أما قبل أثينا فليس شيء يذكر في ذهن هذا الفرد المشحون بالكبرياء
…
الذي لا يرى بين أرسطو وديكارت إلا الفراغ.
وإننا- عندما نلاحظ هذه الملاحظات- لا نشير إلى أسرة الفراشين المحترمين في الجامعات الغربية، بل نعني أساتذة هذه الجامعات أنفسهم.
إن هذه النظرة الخاصة للغربيين هي التي تشوه منذ اللحظة الأولى فلسفة
الإِنسان عندهم، وتشوه بالتالي السياسة الغربية في العالم، وربما يجب بعض الاستثناء بخصوص ما يسميه الدكتور خالدي: المعجزة الانجليزية، عندما يشير إلى الاتجاه الجديد الذي اتخذته انجلترا إزاء المستعمرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن أليس مما يستحق الملاحظة أن انجلترا كانت، في الوقت ذاته الذي تعلن فيه استقلال بعض مستعمراتها مثل الهند، تفسح المجال إلى جيوش الاستعمار الهولندي التي تنزل بميناء سانغافورة كي تحتل أندونيسيا من جديد.
ولكن فلنعف عن ((المعجزة)) لأنها ما قبلت ولا تقبل التحليل ولنتركها قابعة في سرها، وحسبنا أن نسجل هذا الاتجاه الجديد في سياسة انجلترا باعتباره قد اتخذ فعلا في التاريخ مبادرة تحرير مستعمراتها دون أن تشعر في ظاهر الأمر، بضغط من الخارج.
ولكن هل ان هذا التطور الرسمي الذي ظهر أثره في أعمال الحكومة الانجليزية، قد تجاوب مع تطور حقيقي في نفسية الفرد الانجليزي تجاه الإنسان؟
…
القضية في هذا المجال فيها نظر
…
والواقع أن فلسفة الانسان لا زالت في الغرب رهينة تعابير ومصطلحات لا تسمح للذهن الغربي أن يتصور وحدة الانسان، وتضامن ملحمته على وجه الأرض .. ، فهناك كلمات مثل ((الأهلي)) و ((الولد)) و ((الولود)) و ((الأسود)) و ((الجلد الأحمر)) تعبر، في الغرب، عن عينات إِنسانية سفلى، وهناك عبارات تضفي على بعض الأجناس صفات أو ألقاباً معينة إلى الأبد، مثل ((الهندي الخفي)) و ((العربي غير المكترث)) و ((الصيني الغامض)) ألخ ....
ففي اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور يقع تحت نظري عدد من مجلة ((إيكو)) أرى على وجهها صورة رجل صيني، أراد محرر المجلة أن يعلق تحتها هذا السؤال ((ماذا يختفي وراء هذا الوجه الغامض))؟
وإنني أحدق في الصورة كي أرى ما يبرر هذا السؤال، فلا أجد أي غموض،
في ملامح هذا الوجه المريح المتفتح المستبشر: فلا شك أنني رأيت وجوهاً أكثر غموضاً منه بشوارع الجزائر أو باريس، مع أنني لم آلف بعد الوجوه الصينية. ومن المحتمل جداً أنني لم أر منها في حياتي العدد الذي رآه صاحب المجلة.
هكذا نجد أنفسنا، فجأة، في نقطة تقاطع، تتقاطع فيها نظريتان عن الإِنسان. ولقد أشعر بأن هذه الملاحظة كأنها تلتقط صورة غير مؤهبة، لنظرية أخرى عن الإنسان، صورة حية برزت من ضميري مباشرة كمسلم، في حالة شعور عابرة أو عن لا شعور، ليعبر عن شيء يمكن أن نطلق عليه ((فلسفة الإنسان في الإسلام)).
وإِنني أقدر موقع التعجب الذي تقعه هذه العبارة في ذهن من يقدر الكلمات بحرفها أكثر من معناها، إن معرفتي القليلة بأصول اللغة العربية لا تتيح لي الحكم الجازم بوجود كلمة عربية تعبر عن كلمة Humanisme [ التي نترجمها هنا بعبار فلسفة الإنسان] ولكن روح هذا المفهوم ليس مرتبطاً بلفظه، كما أن واقعه ليس خاصاً بإِدراك عقل عالم، بل هو في متناول أي ضمير بمجرد اتصاله الطبيعي بالإنسان.
فهذا الاتصال هو الذي يحمل معنى الكلمة ويعبر عن واقعها.
فإذا تحدثنا عن ((فلسفة الإنسان في الإسلام)) فإننا نعبر عن نوع اتصال بالإِنسان خاص، وضع فيه الإسلام أساساً غيبياً، حتى إن الضمير الإسلامي لا يمكنه أن يفصل مفهوم ((الإنسان)) عن هذا الأساس الغيبي، دون أن ينفصل هو عن الإِسلام الذي قرن هذا المفهوم بتكريم الله:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .
وهذا التكريم ليس خاصاً بالعربي أو المسلم بل بنوع ((ذي اليدين))، كله من ذرية آدم، ذي اليدين الذي يتمتع في نظر الضمير المسلم بقيمة تفوق كل قيمة طبيعية تحتمل ((الكم)).
إِذ ((الإنسان)) ليس، في نظر المسلم، ((الكم)) الذي تجري عليه الاحصائية والوزن، أي الشيء الذي تجري عليه تجارب المختبر، وعمليات المصنع، وحاجات الجيش.
فالإنسان ليس ((الكم)) بل ((الصفة)) التي قرنها الله بالتكريم في سلالة آدم، فالمسلم يكرم هذه الصفة بصورة مطلقة.
وكما هو منتظر فإن هذا التكريم له آثاره المحسوسة في الحياة: في التشريع وفي الآداب وفي العادات
…
فالإسلام يقرر لأقل عبد رقيق الحق في العتق إذا ما تبين أن ربه ظالمه في العمل أو في الغذاء.
ونرى الخليفة عمر يخضع للواقع عندما ترفض عجوز يهودية أن تسلم حقها في مِلْك يقع في حرم المسجد الذي بني بالمقدس.
وفي رحلات العرب، إِبان العصر الذهبي، مثل رحلات ابن بطوطة والمسعودي وأبي الفداء فإِننا لا نجد فيما يكتبون عن الشعوب والقبائل البدائية المكتشفة أي ثرثرة تشوه إنسانية هذه الشعوب، ولا نرى في اتصالهم بها أي آثار للكبرياء في علاقات الإنسان المتحضر العربي إزاء الإِنسان البدائي، ولا نجد فيما كتبه الرحالة العرب المصطلحات الدارجة التي تعبر عن الإنسان بالتشويه، والسخرية والاحتقار مثل العبارات التي أوجدتها لغة الاستعمار للتعبير عن الإنسان المستعمَر.
فشرف الإِنسان محرم في الإسلام حتى في الصورة التي عليها ملامحه في قطعة من الورق، فالمسلم يستحي بطبيعته من أن يستعمل هذه القطعة للاستبراء مثلا، بينما تجد صورة شيخ ذي وقار أو صورة فتاة ذات جمال فتان ملطخة في أماكن الراحة في البلاد المتحضرة، بل أكثر من ذلك، إنك لا تجد في هذه الأماكن في البلاد الإسلامية مجرد الورق المكتوب، لأن الكتابة في نظر المسلم البسيط صورة لفكر الإنسان، فهي على ذلك مقدسة.
فهذه الأشياء الطفيفة تحمل أثراً أعمق لفلسفة الإِنسان من تلك الكلمات المنمقة، التي تعبر بها عن تلك الفلسفة، البلاد التي أعدت مصطلح هذا المفهوم بحرفه، وزهدت في معناه، كما هو أعمق من هذا المفهوم نفسه، في ضمير أولئك
الكتاب الذين لا يستطيعون أن ينظروا إلى الإنسان، دون أن يحاولوا هتك حرمته والمس بعرضه، مثل زملائهم، أولئك الفنانين والمخرجين السينمائيين، الذين لا يلقون نظرتهم على الحياة الإنسانية، دون أن ينزعوا عنها برقع حيائها، فتراهم يركزون عدسات كامراتهم، على أكوام المزابل والنقائص والأسمال والجروح الضي تنز ..... بدعوى أنهم يخرجون أفلاماً للالستعلامات!
…
أو أنهم واقعيون.
فكم نشعر باحتقار هؤلاء الأدباء والفنانين للإنسان لأنهم يقدرونه بتقدير ((الكم)). هذا ((الكم)) الذي أراد أن يعبر عنه بلغته مخرج أمريكي مقتدر، في فيلم أخرجه أخيراً يقول أحد أبطاله في حوار مؤثر: إنما الإنسان نقطة حقيرة على وجه الأرض. فكل تقدير ((كمي)) هو في الواقع تقدير لشيء لا قيمة له، أي لمجرد نقطة، وما النجمة الضخمة من حيث ((الكم)) إلا نقطة تراها أعيننا في السماء، هذا إن كانت مرئية، وأحياناً تكون ((لا شيئاً)) إن لم تكن مرئية!.
أما الإسلام فقد أعطى للإنسان كل حجمه في ضمير المسلم، لأنه وضع قيمته في هذا الضمير، لا على تقدير الكم ولكن على أساس غيبي يجعلها قيمة لا متناهية.
ولا نقول أن ليس من يقدر الإِنسان هذا التقدير من غير المسلمين فلا شك أن الدكتور خالدي قد أصاب فيما لاحظ من تقدير إنساني في لهجة نهرو الذي يبدو أنه يعطي هو الآخر للإنسان كل حجمه وكل التقدير. إنني لا أدري إذا كانت لغة الأردو، التي يتكلم بها رئيس حكومة الهند قد صاغت المصطلح الذي يعبر عن فلسفة الانسان، ولكن لا أشك في أن ضميراً صاغته تعاليم غاندي لابد أنه يحتوي هذا المفهوم.
ومهحما يكن الأمر، فإن هذا المفهوم يستحق، بكل تأكيد، أقصى ما يمكن من الوضوح، في عصر بدأت فيه الإنسانية تقرر مصيرها في مستوى الكرة الأرضية.
ولا شك أن المجهودات المبذولة اليوم في الغرب، مثل ما نشاهد في كتاب المسيو
ريمند شواب، أو في إنتاج مدرسة رونيه جينون، تفتح عهداً جديداً.
وحبذا لو كان وراء هذه المجهودات الفردية تأييد المؤسسات الكبيرة، وإننا نجد فعلا في الأونيسكو ما يبشر بهذا. ولكن نتمنى لو كان مع ما نرى لموظفيها المحترمين من نشاط وراء جدرانها الشامخة، أكثر تفتحاً فيها على قضية الإِنسان ومشاكل الحياة الواقعية.
***