الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُومَان رُولَان وَرِسَالَةُ الْهِنْدِ
الشاب المسلم في 26/ 6/ 1953
ــ
إن القرن العشرين يحفظ، في أعماق ضميره، الأفكار التي زرعها في التاريخ ويحفظ معها أسماء الزراع الكبار الذين زرعوها.
كأنما ثمة معبد تحفظ فيه الأفكار الخالدة، ويدخل فيه أيضا إلى الخلد أصحاب تلك الأفكار، كما فعل أهل الكهف أولئك الفتية المؤمنون، حين أووا إلى كهف الخلد بعد أن كانوا شهود هذا الزمن، والرسل الذين بلغوه رسالة الهند.
فعندما تنزل هاتان الكلمتان من القلم على القرطاس، يأتي وراءهما حشد من الاسماء الجليلة، نذكر طبعا من بينها غاندي .. طاغور .. وإذا ما أوغلنا فسنذكر فيفيكانندا، وربما ذكرنا معه أستاذه راما كريشنا.
لكن حافظ المعبد ربما أضاف إلى هذه الاسماء اللامعة اسم شري نهرو، ذلك الرجل الذي يسير في طريقهم اليوم، ويحتذي حذوهم، ذلك التلميذ الذي لا يزال على قيد الحياة وفياً للأستاذ، غاندي، حتى في موكب التتويج يوم تتويج الملكة اليزابيت حيث نراه يسير في هذا الموكب العظيم، دون أن تصحبه أية أبهة عسكرية، كتلك الابهة التي رافقت من سار معه من ممثلي دول الكمونولث، فكان بذلك يعلن فكرة اللاعنف بصورة رمزية، في حدث هام من أحداث الحياة الدولية.
ولقد تراودنا الفكرة، إِذا ما كنا مسلمين، أن نتساءل: هل من بين هؤلاء الزراع لفكرة اللاعنف، وهؤلاء الشهود الكبار الذين أووا إلى الكهف في القرن العشرين، هل من بينهم مسلمون؟
ويؤسفنا أن لا نجد من بينهم حتى إقبال، ذلك الفكر الذي لا ينسى، عندما ينكب على مشكلات العالم الإِسلامي، لا ينسى ولا يتناسى ((التصميم العام الذي يشمل الكتلة البشرية كلها)).
لكننا لا نرى واحدا من الكتاب في الغرب أو في الشرق يذكر اسم إقبال من بين تلك الاسماء ونحن سنغض الطرف كمسلمين عن هذا النسيان الغريب، إذ ربما يعود سببه الأول إلى حدة المزاج عند الحافظ الأول لأسماء أهل الكهف في القرن العشرين. وأول سدنة المعبد الذي تحفظ فيه أسماؤهم الخالدة، ونعني رومان رولان.
إننا نتساءل إن لم يكن هذا المؤمن الذي فر بإيمانه من قيود الكنيسة، وهذا الأستاذ الذي زهد في كرسي أستاذيته، وهذا المواطن الفار من حدود القومية الضيقة، ومن حدود الطبقة، ومن كل إِطار رسمي ليكون مجرد انسان ((فوق الخصومة)) (1) - أي في الواقع ليكون في صميم المعركة من أجل الحق والعدالة والجمال- أو بكلمة موجزة: إننا نتساءل إن لم يكن هذا الرجل، الذي تخلص من كل العقد التي يرثها الناس في الغرب من ثقافة القيصرية، لم يتخلص بعد من بعض العقد الموروثة في بلاده ضد الإسلام؟
ولكننا كمسلمين سنغض الطرف عن هذا السؤال أيضاً، لنقول كلمة واحدة: فربما كان الرجل يحمل عن الإِسلام وعن الفكرة الإسلامية صورة مشوهة، كتلك الصورة التي تنقل في بلاد الغرب عن الإِسلام والمسلمين تشويها لسمعتهم.
لكن ينبغي الحذر حتى لا نعطي للخصوم مبررات التشويه، فالهند التي يقودها نهرو لا زالت وفية لمبدأ اللاعنف، أما القطاع من البلاد الذي تولى أمره جناح فإِنه أصبح دولة ألقت بالملايين من المسلمين في سياسة الأحلاف العسكرية
(1) عنوان كتاب لرومان رولان نشره في أيام الحرب العالمية الأولى وقد أثار به ضجة كبرى في أوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص.
كحلف بغداد وهذا يجعلنا نتساءل ما إذا كان المرحوم أبو الكلام آزاد قد اختار البقاء بنيودلهي ليبقى وفيا لطريقة الساتياجراها التي حررت البلاد؟
ومهما يكن الأمر فرومان رولان لم يشرك أحدا من المسلمين في أمر الساتياجراها وفي رسالة الهند على وجه العموم، وليس من المتيسر أن نضيف أحدا إلى قائمة أبطال الفكرة في العالم دون أن نخل شيئا ما بقداسة التقليد الذي نشأ من إشعاع الفكرة، لا نستطيع إفممافة أي اسم لهذه القائمة الخالدة حتى ولو اسم تولستوي، مع أنه كان في طليعة هذه الدعوة- دعوة السلام- بل كان أول داعية وأول مبشر بها، بحيث يمكن اعتباره، با لنسبة إلى غاندي وإلى الساتياجراها بمثابة يحيى المعمدان بالنسبة إلى دعوة المسيح.
ولكن فلنحدد أولا دخول هذه الفكرة في تاريخ العالم. وهنا يمكن، بل يجب، أن نعتبر خطواتها الأولى في التاريخ، تلك الرحلة التي قام بها في أوائل هذا القرن قبل غاندي ومدرسته فيفيكانندا حول العالم، وزيارته إلى أمريكا الشمالية على وجه الخصوص، إذ ذهب هذا الشاب- والفيلسوف المتصوف- لينشر دعوته، الدعوة إلى ((قداسة الإِنسان)) هذا المذهب الذي سيكرس طاغور، فيما بعد، حياته للدفاع عنه، والتبشير به، وكانت هذه الرحلة أول بلاغ لرسالة الهند في العالم.
ولكن هذه الصرخة غير المنتظرة، وغير المألوفة. لم تثر إلا اهتمام بعض الاوساط المهتمة بما يسمى علم الأرواح و ((الإِلهيات)) حتى أن صرخة فيفيكانندا:(إلهي!! إِليك الفقراء من كل وطن ومن كل جنس!)
…
هذه الصرخة الرائعه التي تعبر في أعماق ضمير ممتاز عن مذهب يدين بخدمة الإِنسان، يدين بفكرة من يقول: إذا أردت أن تجد الله فاخدم الإنسان .. هذه الصرخة مرت مع خطوات الزائر دون أن تترك صدى كبيراً في الضمير الأمريكي، ولم يسجل لها أثر في التاريخ، سوى أثر تلك الفتاة الأمريكية التي اعتنقت المذهب، وسارت وراء خطوات صاحبه، كما ستسير فيما بعد، تلك الفتاة الانجليزية، مسز سلاد،
وراء خطوات غاندي، لتمثل في قصة الساتياجراها دور المجدلنية في هذا العصر.
أما في أوروبا، فلم يكن لهذه الصرخة أي صدى، وما كان لها أن تترك أثراً في تلك البلاد المنهمكة في نعيم ((العصر الجميل)) (1) حيث كانت الجماهير الأوروبية ترقص فيه رقص فيينه، على نغمات شتراوس الساحرة، تحت سيول الأضواء الكهربائية التي بدأت تنير، إذ ذاك الحياة المتمدنة. ولم يكن المعاصرون للملكة فيكتوريا أولئك الذين طبعوا ذلك العصر بما في نفسيتهم ومزاجهم، لم يكونوا يزورون الهند من أجل أن يسمعوا صرخة الإِنسان الهندي، بل ليتمتعوا بصوت النمر الرهيب في غابات البنغال الكثيفة.
ولكن هناك، في البنغال بالضبط، حيث قمعت بالدماء بعض أحداث ثورية بدأ يصعد، حوالي سنة 1905، صوت طاغور. الذي وجه نداء الهند لأول مرة إلى أوروبا، ولقد كان في أوروبا ضمير يقف بالمرصاد، وأذن رقيقة الحساسية تتحسس كل هبوب تدفعه الروح، وكل نداء يأتي من الإنسان، وكل أنين يصعد من الآلام
…
، وهكذا سمع رومان رولان بكل حساسيته النادرة صوت طاغور، ((صوت ذلك العصفور)) كما سيسجل في مذكراته عندما يسجل اسم الشاعر الكبير لأول مرة.
ومن تلك اللحظة، يبدأ تاريخ الساتياجراها، أو رسالة الهند في العالم. لأن رومان رولان بدأ من تلك اللحظة تبليغها ونشرها ليس في أوروبا فحسب - موطن دمه- ولكن في العالم، موطن روحه.
ولم يقم بهذه الدعوة دون أن يشعر بجلالها وقداستها، كما نرى ذلك من خلال مذكراته عندما يذكر بعض رفاق الطريق، وعلى وجه الخصوص، عندما يذكر رفيقين قضيا نحبهما في ذلك الطريق، في خدمة الدعوة، لقد رافقا غاندي في الأيام الأولى عندما كانت الدعوة في بدايتها بافريقيا الجنوبية، وهكذا يتساءل
(1) يطلق هذا الاسم في أوروبا على العهد الذي ملكت فيه الملكة فيكتوريا تقريبا إلى إبان الحرب العالمية الأولى.
رومان رولان في شأنهما، فيكتب في مذكراته:((من سيتحدث عن القديس أندريوس وعن القديس بير سون؟)).
من سيتحدث عنهما؟.
وهل شهادة تشيد باسميهما وتخلدهما في التاريخ أكثر من هذه الشهادة التي أراد رومان رولان أن يضفي عليها طابع القداسة فأعطى فيها لكلا الرفيقين لقب القديس؟
ولكننا بدورنا نتساءل: من سيتحدث عن القديس رومان رولان!؟ والواقع أن عملية تعمية بدأت تحيط باسمه منذ اليوم، حيث نجد تعريفه في القاموس بهذا النص:((رجل متمسك بمبدأ السلام والاشتراكية العالمية، صاحب كتاب (جان كريستوف))).
إن هذا التعريف يكفي لا شك لتخليد اسم في الأدب، ولكن رومان رولان يستحق أكثر من ذلك!
إننا لو اعتبرنا في تاريخ القرن العشرين ((أفكار غاندي)) كتيار رئيسي في هذا القرن، لوجدنا نفوسنا في اللحظة ذاتها مضطرين إلى اعتبار رومان رولان لا كمجرد مبلغ لأفكار الغبر، ولكن كأستاذ بالنسبة لهذا التيار، لأنه لم يقم فقط بدور من عرف أفكار غاندي في العالم المتحضر، بل إنه أحيانا وسع نطاق تلك الأفكار وعمقها.
لقد عمقها في كل مرة شعر فيها بضرورة إِضافة عنصر من عناصر تفكير فيفيكانندا إليها. أي من تفكير ذلك الفيلسوف الإنساني الذي يشعر بضعف الإِنسان أكثر من غاندي الذي ربما وجدنا عنده بعض المعاني الإنسانية المتحجرة. بسبب الشدة التي يقتضيها أحيانا العمل في الحقل السياسي، عندما يكون العمل السياسي مطبوعا بشدة التمسك بالمبدأ كما كان الأمر بالنسبة إلى غاندي ..
إذ كان يفقد أحيانا الشعور بحدود طاقة الإنسان.
فرومان رولان وسع نطاق هذه الأفكار، في كل مرة شعر أن صلاحيتها تمتد إلى أبعد من مصلحة الهند وحدها، هكذا نراه يعمد، إلى تخليص تلك الأفكار من الإطار الهندي الذي خصصها غاندي له لتصبح صالحة لخدمة الإِنسانية كلها.
إن رومان رولان استطاع أن ينقل الأفكار التي وضعها غاندي في فلك الهند، إلى الفلك العالمي الذي كان يشعر به أكثر من غاندي
…
إذ كان ابن ذلك الفلك الأوروبي الذي أصبح- بمقتضى انتشار الحضارة والثقافة الغربية- الفلك العالمي
…
ـ[(ضاع ما يتبع من هذا المقال)]ـ.
***