الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاِسْتِعْمَارُ يَفْتَحُ وِجْهَةٌ ثَالِثَةٌ فِي التَّارِيخِ
الجمهورية الجزائرية في 13 و20/ 11/ 1953
ــ
عندما ينزل جيش أجنبي بأرض شعب، فإن هذا الشعب يكون معرضاً ليرى إما احتلالا مؤقتاً في بلاده، وإما عملية ضم تضعه نهائياً تحت سلطة شعب آخر.
وكلا هذين الاحتمالين له خصائصه بالنسبة للشعب الذي يتعرض لهما:
فأما الاحتلال المؤقت فإنه لا يؤثر في حياته إلا بصفة عابرة كمجرد حدث يخضعه مؤقتاً لحاجات جيش أجنبي يفرض متطلباته من حيث الأمن والتموين في البلد المحتل وذلك طبقاً لشروط يهيمن عليها قانون عسكري ينتهي نفوذه مع تصفية الوضع الحربي.
وأما في حالة الضم فإن الأشياء تتخذ اتجاهاً آخر يؤثر في حياة الشعب الذي جرت عليه عملية الضم من الداخل، حتى إنه يغير أحياناً مصيره في التاريخ بصورة مطلقة، وعندما يقع مثل هذا التغيير، فهو يظهر في صورة مجتمع جديد، تكون فيه البناءات الداخلية نتيجة اندماج خصائص الشعبين العنصرية، مصهورة في بوتقة أسرة جديدة، وهذا الاندماج قد يكون أحياناً مطبوعاً بخصائص أحد الشعبين أكثر من خصائص الشعب الآخر، وليس حتماً أن تكون خصائص الشعب الغالبة هي ذاتها خصائص الشعب المنتصر، فالصين على وجه المثال لم تتخذ طابع الشعوب التي احتلت أرضها عبر التاريخ، كالمغول والمندشو، بل هي التي وضعت طابع حضارتها العريقة على تلك الشعوب.
وغالباً ما يكون الاندماج مشتملا على خصائص الطرفين، بحيث يكون أثر كليهما واضحاً فيه، كما وقع في تكوين المجتمع ((السلتي- الروماني)) حيث
اندمجت فيه خصائص العبقرية السلتية والعبقرية الرومانية على حد سواء، بعد واقعة أليزيا، اندماجاً موفقاً رغم الفوارق الجوهرية بين ما يتصف به كلا الطرفين، من مزاج الشمال، ومن مزاج البحر الأبيض.
ولكن مهما تكن النسبة التي تعزى إلى كلا الطرفين في هذا التركيب من الناحية الأخلاقية، فإن النسبة الاجتماعية بينهما تكون دائماً على حد التساوي: فالغالب والمغلوب يتمتعان في النهاية بالحقوق نفسها.
بل وفكرة هذا الازدواج نفسها تنمحي في النهاية، بحيث يسود المجتمع الجديد شعور وحدته، لا شعور ازدواجه، ولا ينشأ هذا الاتزان الاجتماعي من تصريحات خطابية فيها ما فيها من الرياء، بل ينشأ من صميم الواقع، من التعديلات الطبيعية التي يأتي بها التاريخ في صلات شعبين تعارفا في ميدان القتال، ولكنهما التحما في ميدان الحياة، حيث اضطرتهم مشكلاتها إِلى جمع وسائلهم وحاجاتهم ومكاسبهم وخسارتهم.
ومن هذه الاعتبارات العامة، نتصور ما قد يكون الموقف في الجزائر غداة نزول الجيش الفرنسي برأس سيدي فرج: فالجزائر كانت معرضة للاحتمالين اللذين وصفناهما، لولا الاستعمار، فبعد قرن من يوم الاحتلال تبين أن الجيش الفرنسي لم ينزل بأرضنا لاحتلال مؤقت ولا لجرد ((الضم)) بالمعنى التقليدي للكلمتين، لأن الاستعمار أدخل في التاريخ وجهة ثالثة، هي الاستعمار ذاته.
إن نزول الجيش الأجنبي برأس سيدي فرج سنة 1830، أعلن حالة الحرب التي دشنت ((الحضور الفرنسي)) بالجزائر، ولكن عبارة ((فرنسي - عربي)) التي صاغها هذا العهد لم تعبر عن الواقع التاريخي الذي نجده تحت عبارة ((سلتي - روماني)) كما تقدم، فما هي إلا تلفيق خطابي لفقه الاستعمار، كي يخفي به حقيقة مجتمع جديد ليس بالعربي ولا بالفرنسي.
وحقيقة هذا التلفيق تظهر عندما نعتبر الأشياء بالنسبة إلى نقطة بداية مناسبة.
فلو اتخذنا سنة 1830 كنقطة بداية لتاريخ التطور الاجتماعي بفرنسا والجزائر، لرأينا أن التطور لم يسر في البلدين في نفس الاتجاه.
إننا نلاحظ أولا في بداية هذا التطور، أي عندما لم يكن النمو العلمي والصناعي قد أثر في الحياة الاجتماعية ولم يحدد بعد صورتها الجديدة، هنا نجد مستوى المعيشة للشعبين متساوياً. وربما وجدنا الشعب الجزائري يتمتع بيسر مادي أكثر من الشعب الفرنسي، حيث كان الإِنتاج الزراعي متوفراً نسبياً في الجزائر أكثر من فرنسا، كما تدل على ذلك: الصفقات التي عقدتها الحكومة الفرنسية في عهد ((الإدارة Directoire)) مع شركة تصدير جزائرية يديرها يهوديان، وكان الإِنتاج العقلي أوفر بفرنسا حيث كان الشعب الجزائري يتمتع بكل ما ينتج تراب خصب، والشعب الفرنسي يتمتع بكل ما تنتجه حضارة في قمة انطلاقها.
ولكن سرعان ما وضع الاستعمار يده على كل الثمرات التي ينتجها التراب الجزائري، والتي كانت تتيح العيش الرغد لكافة الشعب الجزائري، لأن تعاليم الإِسلام لا تترك عنده مجالا لفكر ((الطبقات)) ولظاهرتها، مع ما يتبعها من نتائج متناقضة، تلك المناقضات التي شوهت المجتمع الغربي، حيث كان، ولا يزال أحياناً، يجمع بين الرفاهية المفرطة والبؤس، بين الإنتاج الزائد عن الحاجات والنقص الفظيع في الغذاء.
والاستعمار يحاول طبعاً تفسير كل الثمرات التي تنتجها الأرض الجزائرية على أنها ثمار جهده وعبقريته، فهو في هذا ينطبق عليه معنى المثل الشعبي، حين حاول ((تغطية الشمس بالغربال)).
ومهما يكن، فقد كان في استطاعة الشعب الجزائري سنة 1830، على الأقل أن يقتفي خطوات الشعب الفرنسي، عبر قرن البخار والكهرباء.
بينما نرى في نهاية الأمر، أن الشعب الفرنسي يصل وحده إلى عتبة العهد
الذري .. ونجد الشعب الجزائري قي قافلة المتخلفين، بعيداً عن جبهة التطور العالمي
…
لم يخرج بعد من مرحلة الأمية.
وعندما نعبر عن هذا الواقع بلغة النسبية، فإننا نقول إن قرنا من ((حياة مشتركة)) لم يخفض من التخلف بين الشعبين بل زاد فيه، وفي هذه اللغة نتصور الأشياء خلال القرن الذي مضى كأن الشعب الفرنسي انطلق إلى الأمام، بينما الشعب الجزائري رجع إلى الوراء.
وهذا التخلف بين الشعبين يبدو بطبيعة الحال في الحالة الثقافية في البلدين، ويمكن توضيح هذه الحالة ببعض الأرقام التقريبية إذ ليس لدينا الاحصائيات الأخيرة المتصلة بالموضوع.
فلنذكر أن عدد الطلبة الجامعيين يبلغ تقريباً 300،000 طالباً بفرنسا، بينما لا يبلغ عددهم في الجزائر 300 على وجه التقريب، وإذا كان لهذا الرقم معنى من حيث الكم فإن الواقع يكشف وراءه حقيقة الأمر من حيث الكيف.
وعلى سبيل المثال، فإِنني أشك في أن العرض الذي نشرته جريدة ((الجمهورية الجزائرية)) في عددها الأخير (1) قد يجد صدى لدى بحار جزائري واحد، لأن الاستعمار وضع كل النشاط البحري تحت تصرفه، تطبيقاً لما يسمى قانون ((احتكار الراية))، وهذا الاحتكار قتل في حينه النشاط البحري الجزائري الذي لا ينكر - رغم إِنكار الاستعمار له كي يبرر بذلك نظرية ((الاستعمار المحضر)) - حيث كان صيته معروفاً في الأوطان حتى أن الاستعمار نفسه يدعي أنه إنما أتى لوضع حد لما يسميه ((القرصنة الجزائرية)).
وربما استطاع من يريد التسلية والترفيه العقلي أن يجمع هكذا أقوال الاستعمار المتنافية كي يبطلها الواحد بالآخر.
ومهما يكن في الحقيقة من شأن ((القرصنة الجزائرية))، فالشيئ الواضح
(1) العرض يطلب بحارة جزائريين اختصاصيين للشغل في بحرية أندونسيا التجارية.
أن الجزائريين وجدوا أنفسهم مطرودين من الملاحة بقانون ((احتكار الراية))، وسار الأمر على هذا المنوال في كل الاتجاهات الأخرى، أي في جميع ميادين النشاط التي تتطلب تدريباً مهنياً ومعرفة فنية.
وهذا الوضع يظهر على وجه الخصوص في صورة أي مدرسة مهنية في مدينة من مدن الجزائر اليوم، فإن المدرسة تضم عدداً من الأقسام يناسب عدد الصناعات الموجودة غالباً في الوطن، ولكن الطالب الجزائري يوجه فيها إلى قسم صناعة الخشب على وجه الخصوص، أي إلى صناعة غير مربحة لأن السوق مكتظ بمن يشتغل فيها، بينما يوجه الطالب الأوروبي إِلى الصناعات الميكانيكية التي لها رواج ومستقبل.
وهذا التوجيه ليس من محض الصدف، بل من أثر التوجيه العام للتعليم ((الأهلي)) لأن هذا التعليم ليس موجها في مبدئه لتكوين أطر من الفنيين في الوطن أو إنشاء قيادة صناعية فيه، هو لا يستهدف خلق نخبة مثقفة، وإنما تكوين نواة من برجوازيين صغار يحملون الشهادات، وبالإضافة إلى هذا فإن الثقافة ((الأهلية)) مقدرة بحيث لا تخرج من حدود معينة، وإذا ما أبديت رغبة أو ظهر استعداد في اتجاه خدمة الآخرين، في صورة عمل خيري أو نشاط سياسي، أو في صورة اهتمام علمي، فإِن الصاعقة تنزل على (المجرم) الذي يبدي هذه الرغبة، والجحيم يحيط به من كل جانب.
وإِذا ما أبدى (المثقف) أي اهتمام بالهندسة أو بالآلة المتحركة فإن ثمن الإدانة لا يقل عن ذلك.
فمنذ سنتين نشرت صحيفة ((التيمس)) مقالة رئيسية عن الموقف في تونس مشيدة بالعلاقات الحسنة بين الفرنسيين والتونسيين، فأشارت إلى أن هذه العالاقات قد نجحت ((لأن التونسيين المثقفين يتصفون بالميل إلى الأدب أكثر منهم إلى التكنيك .. )).
إن الإنجليز مشهورون بالمزاح
…
فلعل الصحيفة اللندنية كانت تمزح ..
ولكن عندما يتناول هذا البرهان ولي عام سابق، ويظهر لنا كما فعل أخيراً، تعجبه من العدد القليل للطلاب المسلمين المنتسبين إلى كلية العلوم بالجزائر، وعددهم لا يزيد فعلا عن أصابع اليد، فإننا نشعر بثقل هذا المزاح، فلدينا سوابق تذكرنا كيف يفتك بعائلتنا، حين حاولنا بالقدر الصغير الممكن الخروج من حدود ((الثقافة الأهلية)) والقيام بمجهود ما في سبيل تحضير أنفسنا بأنفسنا.
ولا يمكن أن نصور هذه الحالة الدرامية بطريقة أحسن من الإِشارة إلى جانبها المضحك، فهناك قصة طريفة ترددها الألسنة في مدينة تبسة، فقد دعي جزائري كان يطلب وظيفة في الإِدارة الخاصة بالشؤون الأهلية، للمثول أمام الحاكم الفرنسي كي يختبره، وبعد أن خرج الجزائري من مكتبه سجل الحاكم هذه الملاحظة، ((فكر خطير: إنه يعرف الحساب إلى العشرة)).
ومهما يكن في الأمر، فثمرة هذه ((الثقافة الأهلية)) شاخصة اليوم في حالة البلد الثقافية، حيث تدل دلالة واضحة على أن الخرق قد اتسع، وأن تخلف أولئك المساكين ((الذين يحسنون الحساب إلى العشرة)) بالنسبة إلى التطور العام في القرن العشرين قد تفاقم.
وأعراض هذا التفاقم ليست واضحة في المستوى الفكري- مستوى النخبة المثقفة- فحسب، بل هي واضحة أيضاً في المستوى الاجتماعي: مستوى الجماهير الكادحة بل الجماهير العاطلة ..
وفي هذا المستوى نجد أسباب التفاقم قد تضاعفت، حين أضيف التعطيل الضخم الذي فرضه الاستعمار على حياة الشعب المستعمر، إلى أسباب داخلية ناتجة عن الجمود الكبير الذي كبل تلك الجماهير بمرض القابلية للاستعمار.
ففي سنة 1830 كان الشعب الجزائري يعيش منذ زمن بعيد في حالة شبه نباتية، لقد كان يعيش من أجل المحافظة على كيانه فقط دون تطور ولا تقدم، بل كان يفقد مفهوم التقدم ذاته- ذلك المفهوم الذي يعتبر من ثمار الفلسفة التي
تبعت عهد دروين- قد كان يفقده لأسباب عامة سنذكرها في دراسة أخرى ربما تنشر قريباً (1).
ولكن الاستعمار أتى وأضاف، في ظروف مناسبة جداً إلى هذه العوامل الداخلية ووطأتها الشديدة، ظروفاً تسارعت فيها عوامل التعجيل، وقد بدأت عملها في تطوير الشعوب المعاصرة
…
منذ سنة 1830 تقريباً، حين بدأت تظهر فيه النتائج الاجتماعية للحركة العلمية العصرية وللتصنيع.
فالشعب الجزائري حرم من النتائج هذه كلها، لأن رفع مستوى المعيشة في أوروبا، ورفع المستوى الثقافي، مع النتائج التي حققتها الحركة النقابية، مع تحديد حقوق العامل، كل هذه الأشياء تحققت بعد نزول الاحتلال برأس سيدي فرج، أي بعد حدث يعتبر رئيسياً سواء بالنسبة للشعب الجزائري، أم بالنسبة للشعب الفرنسي، الذي سيجد نفسه مندفعاً في تيار التعجيل بالوسائل العلمية والصناعية التي أشرنا إليها، ومن بينها الوسائل التي حصل عليها باحتلال الجزائر، في الوقت الذي سيجد الشعب الجزائري نفسه محروماً من تلك الوسائل وبسببها محروماً من وسائل العلم والصناعة.
فمن هذه الناحية، يمكننا فعلا أن نعتبر الوضع الاستعماري في البلد كعملية حجر على موارده كلها لحساب المستعمِر وحده: عملية حجر في صورة شركة مساهمة يحمل أسهمها الأوروبيون فقط ويديرونها لمصلحتهم فقط، فكان لهذا الانفراد الأوروبي بالمصلحة الجزائرية، أن يؤدي بطبيعة الحال إلى وضع يحمل نزعة ضد ((أهالي)) البلد، كما تؤدي إليه في أقصى نتائجها تلك اللائحة التي وجهها الملك شارل العاشر إلى الحكومات الأوروبية قبيل الاحتلال وبقيت في تقاليد الكي دورسيه ((وزارة الخارجية الفرنسية)) في تحديده السياسة الاسلامية للحكومة الفرنسية في عهودها الثلاثة: الملكية والأمبراطورية والجمهورية.
(1) ذكرت هذه الأسباب في كتاب ((وجهة العالم الإسلامي)).
ولكن يبدو أن العهد الجمهوري كان منذ سنة 1875 أوفى هذه العهود لذلك التقليد، حتى رأينا سنة 1951 وزيراً فرنسياً، هو المسيو مايير يواجه الانتخابات البرلمانية تحت شعار ((وحدة الأوروبيين)) و ((وفاء المسلمين)).
وهكذا نرى كيف هذا ((الاكسلانس)) الجمهوري يعرف الفرق بين الكع والبع ويلح عليه
…
وعليه، فإِنه لم يبق للشعب الجزائري إلا أن يتبع تطوره الخاص وبدون وسائل تقريباً، على هامش ((وحدة أوروبية))، تدير شؤون بلاده بمفردها.
وما التخلف الذي نشاهده اليوم في تطور الشعب الجزائري إلا نتيجة هذه الإدارة منذ سنة 1830، بعد أن نأخذ في الحساب الأسباب التي تعود إِلى القابلية للاستعمار.
***