الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ التُّرَابِ الْجَزَائِريِّ
الجمهورية الجزائرية في 30/ 4/ 1954
ــ
لقد قرأنا في جريدة ((الفيجارو)) مقالتين لمسيو انجلهرد، تثري بصفة محسوسة معلوماتنا عن مشكلة التراب.
لقد نعلم أن هذه المشكلة قائمة في الشمال الافريقي بصفة خاصة وأنني وضعت، فيما يخصني، مصطلحاً لهذه المشكلة أعتقد أنه يعبر عن جوهرها بكلمة Saharisation ( أو مصير التراب إلى الصحراء).
ولكن المسيو أنجلهرد يعمم هذه النظرية، حيث يضع الظاهرة التي نشير إليها في الشمال الأفريقي، في نطاق ظاهرة عالمية تتصل منذ القدم بفناء الحضارات، عندما يفقد التراب العناصر العضوية اللازمة للحياة بسبب ( érosion) التآكل.
وكأن هذه المعلومات تأتي، في عبارة في منتهى الوضوح، غداة التجارب النووية التي ألقت أضواءها الرهيبة على الجانب السياسي والعلمي في مأساة زماننا، لتؤكد في تلك المأساة جانباً طبيعياً وكونياً، وتكشف لنا دور الإنسان إزاء هذا الجانب الطبيعي: دور ((تلميذ الساحر)) الذي يطلق عن علم أو غير علم، عنان بعض طاقات الطبيعة، ثم يفقد التصرف فيها.
وقد يبدو في ضوء المعلومات التي اكتسبناها من المسيو أنجلهرد أن بعض الإجراءات- مثل قطع الأشجار ونزع قشرة النبات الطبيعي على وجه الأرض- تؤدي إلى اختلال التوازن الموجود في ذلك المركب الطبيعي- شجر ونبات وتراب- الذي يكوّن الشرط الأساسي لحياة البشر، ولحياة الحضارة بصورة خاصة.
وعندما يحدث هذا الخلل في المركب الطبيعي المذكور، فإن الرياح والمياه
تبتدئ عمل التخريب، تلك المأساة التي تنتهي بموت التراب، وتترك شعباً بدون خبز.
والمسيو أنجلهرد يذكرنا أن القارات في طريقها إلى الذوبان مثل قطعة سكر في الماء، ويذكر أرقاماً في منتهى الدلالة، ففي إِيطاليا على سبيل المثال، نرى أن نهر ((البو)) يلقي وحده في الإدرياتيكي أكثر من أربعين مليون طناً من التراب سنوياً، أي مساحة مائة وأربعين كيلو متراً مربعاً.
وفي أمريكا، حيث يبدو أن هذه الظاهرة بدأت مفعولها حوالي لسنة 1890، على أثر الإجراءات الزراعية الكبيرة التي أجريت في المناطق الغربية فإن أثرها بلغ أوجه حوالي سنة 1920 وكان تخريب الرياح بالمقدار الذي جعل مزارعاً من ((التكساس)) يعبر عن المأساة ((بنكتة))، فيقول: إِنني أرى ((عزب)) منطقة الأكلاهومة تطير فوق رأسي، فمن الصبح إلى الآن قد غرق منها أكثر من مياه عزبة في خليج المكسيكي.
وقد تتأكد خطورة المشكلة في نظرنا، إذا ما عقدنا المقارنة بين الأرقام التي تدل على نقصان الأرض الصالحة للزراعة والتي تدل على زيادة السكان في العالم.
وقد تتضمن هذه المناقضة كل مشكلات العالم الاجتماعية والسياسية المقبلة.
وفيما يخص الشمال الإشريقي، فإِن هذه المشكلات قائمة منذ الآن، وقائمة بالحدة التي تكون عليها الأشياء عندما لا تصبح المصلحة العليا- مصلحة الشعب- مقدمة على المصالح الخاصة، إذ أنه كلما كانت الأولوية للمصلحة العليا، فإن أعمال أولي الأمر تتصف بتلك الأولية حتى لا يبلغ السيل الزبى.
فأولو الأمر في أمريكا، مثلا، بعد أن قاموا بأعنمال تؤدي إلى اختلال التوازن الطبيعي الذي ذكرناه، قد تداركوا الأمر في الوقت المناسب وضربوا لنا مثلا قد نخطئ إِن لم نحتذه.
والاتحاد السوفييتي أيضاً واجه هذه المشكلة، بل منذ عهد القياصرة،
إذ على أثر أزمة جفاف لم يسبق له مثيل، اهتمت السلطات بالموضوح، وعينت حوالي 1892، العالم دوكتشايف لدراسته، فأسس هذا العالم الروسي معهداً علمياً من أجل ذلك، معهداً ولد فيه علم جديد ( Pédologie) أي علم تكوين التراب.
ولا شك أن تأسيس المصلحة التي تقوم بإصلاح التراب بالجزائر، تلبي ضرورة حيوية في البلاد، ولكن نجاحها في مهمتها- وهي تعويض الأشجار والغابات التي قطعت- لا يتم إلا بقدر ما تعيد ذلك التوازن الطبيعي الذي أشرنا إليه، بينما لا نرى أن السلطات التي بيدها الأمر تقاوم كما ينبغي عوامل التخريب للتراب الذي تستهدف إصلاحه.
إن الصحافة قد نوهت، منذ بضعة أشهر، بما حدث في ناحية مدينة باتنة، حيث أن ما يقرب من عشرين ألف شجرة قد قطعت بموافقة بعض ممثلي إدارة المياه والغابات.
ولم يبلغ إلى علمنا أن السلطات قامت بأي تحر لتحديد المسؤوليات في هذه القضية.
حتى إن الحالة التي تواجهها مصلحة إصلاح التراب بوسائل ربما ليست كافية بالنسبة لاتساع الرتق، قد تزيد تفاقماً وتصبح تلك الوسائل مضحكة، إذا ما زادت الأعمال التخريبية التي نشير إليها في خطورة الحالة.
ومما يزيد في هذه الخطورة، هو أن المسؤولين يقررون موقفمهم إزاء القضية، على مبدأ أن المسلم هو المسؤول عن الخلل الذي حدث في توازن العناصر الفعالة - شجر، نبات، تراب- في صلاحية التراب للزراعة بالشمال الإفريقي.
وقد نعلم الأعمال الاضطهادية التي تعرض لها الشعب الجزائري بسبب هذا المبدأ عندما يطبق في صورة قانون المسؤولية الجماعية.
وقد نجد أثر هذا الرأي الرسمي حتى في وجهة نظر المسيو أنجلهرد ذاته، كما يبدو من خلال أحد التفاصيل التاريخية التي تتناولها دراسته، حيث من بين الأسباب التي أضرت بمنطقة الغابات الموجودة بأوروبا الجنوبية، يذكر صناعة السفن
الخشبية في ذلك العصر، ومعها .. العرب الفاتحين.
والغريب في الأمر: أن المسيو أنجلهرد، عندما يذكر العرب من بين أسباب تخريب الغابات بجنوب أوروبا، يقع في مناقضة دون أن يشعر بذلك عندما يعترف من ناحية أخرى بأن شبه الجزيرة الأبيرية (أي بلاد أسبانيا والبرتغال) التي تتسم اليوم بمظهر القحط الخاص بالمناطق الجبلية العارية من الأشجار، كان ترابها يغذي ثلاثين مليوناً من السكان في عصر الخليفة عبد الرحمن.
وإذا كان هذا الخطأ الذي وقع فيه هذا الاختصاصي المحترم من الأخطاء التي ربما لا نقدرها من الناحية الأخلاقية (كمناقضة للحقيقة) أو من الناحية التاريخية (كمناقضة للواقع)، فإننا لا نستطيع أن نزهد في أثره من ناحية سيكولوجة الإدارة، حيث يصبح هذا الخطأ القناع الذي يخفي الحقيقة بالنسبة إلى ما يحدث اليوم من تخريب في شبكة الغابات الموجودة بالجزائر، ويعطي المبررات التي يقدمها أصحاب هذا التخريب الحقيقيين، كما يقدم للمسؤولين ما يعفيهم مسبقاً من المسؤولية حتى أنه ينشأ من هذا الخطأ أكبر صعوبة تقف في وجه مشروع إصلاح التراب بالجزائر، ذلك المشروع الذي يلاقي من الآن الصعوبات التي يلاقيها بمقتضى وسائل قليلة ومهمات كبيرة في بلد لم يستيقظ فيه بعد الرأي العام إِلى أههمية هذه المهمات.
وليس مما هو أقل إفادة فيما كتبه المسيو أنجلهرد، أن أمريكا نفسها واجهت مثل هذه الصعوبات النفسية، حتى التجأت إلى ما يسميه الكاتب ((تلقين ضمير الشعب)) حتى يستيقظ لأهمية هذه القضية.
وكنت، قبل أن أقرأ شيئاً في الموضوع، خصصت مقالاً سنة 1951، كي ألفت الرأي العام إليه، ويسرني، بعدما قرأت المسيو أنجلهرد، أن وجهة نظري تطابق الإجراءات التي اتخذتها السلطات الأمريكية، تلك الإجراءات التي غيرت وجه الأرياف الأمريكية في مدة عشرين سنة.
ونتمنى أن تتكرر هذه المعجزة في أرض الجزائر حيث نرى الإنسان مهدداً في قوته اليومي بسبب قضية التراب.