الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقَدِّمَة المؤلف
سبق لي أن نشرت في هذه السلسلة دراسة تحت عنوان ـ[الصراع الفكري في البلاد المستعمرة]ـ.
ولكنني شعرت خلال بعض ملاحظات أبداها إخوان يهتمون بهذه القضايا، أنه ربما يتبقى- عند من يقرأ تلك الدراسة من دون خبرة سابقة بالموضوع- يتبقى عنده شيء من الإِبهام حول الفكرة العامة التي يعرضها الكتاب. إبهام يتطلب رفعه مزيدا من التوضيح، حتى لا تبقى هذه الفكرة في نظر القارئ مجردة، لا تحيط بها إلا العموميات، وإلا الاعتبارات النظرية التي نفس فكرة الصراع هذا.
فالقارئ يريد الدخول في الموضوع عن طريق الظروف الواقعية، والتفاصيل المادية التي تحيط بفكرة الصراع الفكري، كما يحيط الوسط الطبيعي بالكائن الحي الذي يتكون فيه، ويتضمن كل الشروط اللازمة لتكوينه ونموه.
إن فكرة الصراع الفكري تكونت عندي في ظروف معينة وفي نطاق تجربة شخصية لم نستطع إلا ذكر بعض تفاصيلها عند الحاجة أما وصفها بالتفصيل فذلك نمسك عنه لسببين: لأن هذا الوصف لا يكون مجدياً إلا في كتاب مذكرات، ولأن بعض التفاصيل لا يتقبلها القارئ، حين يصورها الاستعمار كمبالغة مقصودة، حتى إن الكاتب يخطىء حين ينقلها بقصد الإِفادة.
إذ أسلوب الصراع الفكري يفرض أن لا تقال كل الوقائع التي تتصل به، ولا تذكر كل الظروف التي تحيط به في لحظة معينة.
فهناك حد وسط يجب التزامه بين الإِفراط الذي يستغله الاستعمار على
أنه مبالغة، والتفريط الذي يستفيد منه أيضاً على أنه سكوت عن بعض الحقائق التي لا بد أن تقال.
فرغبة القارئ الذي يريد مزيداً من التوضيح تستحق أن تلبى في هذا الحد بالضبط.
فهذا الكتاب يهدف إلى ذلك وقد جمعنا فيه تحت عنوان ـ[في مهب المعركة]ـ بعض المقالات المترجمة، التي كتبت فعلا في ظروف المعركة الواقعية، بما يحيطها أحيانا من غموض عندما يريد الاستعمار أن يسدل الظلام على بعض المواقف المشبوهة التي ليس من مصلحته أن تعرف، وعلى بعض الأفكار التي لا يريد أن يرتفع الى مستواها الرأي العام، وعلى بعض التوجيهات حتى لا تصير واقعاً اجتماعياً.
إن المقالات المترجمة التي جمعناها في هذا الكتاب تتضمن هذه العناصر التي تكون مادة الصراع الفكري، وواقعه اليومي. الواقع الذي يريد الاستعمار أن يسدل عليه ستاراً من الظلام، حتى يبقى الرأي العام في قيود لا تراها إلا عين بصيرة وحتى يبقى الفكر في أغلال ما يسمى ((الواقعية)) وهي جحود الواقع، وحتى تبقى السياسة سوقا تشترى فيه الضمائر وتباع، ويبقى النشاط الاجتماعي معطلا بسبب شروط سلبية تفرضها إرادة خفية على حياتنا، ويجعلها من له بها صلة في بلادنا، مبررات فشلنا.
إننا ننشر هذه المقالات لأنها تعبر عن ذلك الواقع المرير الذي يدركه القارئ من دون تعليق من طرفنا، مع أننا نأتي أحيانا ببعض التعليق على الهامش عندما نراه ضروريا.
وننشرها لأنها تتصل بهذا الواقع من نواح مختلفة، من الناحية التاريخية عندما تصف ظروفا معينة مهدت للثورة الجزائرية مثلا، ومن الناحية العلمية عندما تضع بعض جوانب الاستعمار الخفية تحت المجهر، ومن الناحية الاجتماعية عندما تحاول فك بعض العقد وبعض المركبات التي نشأت في نفوسنا من مواجهة
بعض المشكلات التي لا زالت قائمة في البلاد الإسلامية، كمشكلة المرأة ومشكلة التراب، ومن الناحية الثقافية عندما تحاول توسيع الفكر عند شبابنا المثقف حتى يكون في موقفه إزاء بعض القضايا المتصلة بمصير الإنسانية وبمصيرنا، أكثر وعياً وأكثر فعالية.
القاهرة في 27/ 8/ 1961
مالك بن نبي