المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المحتويات الافتتاحية: حكم إتيان الكهف ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم سماحة / الشيخ عبد - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة

- ‌ التأمين فيه مصلحة

- ‌الفتاوى

- ‌ الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر

- ‌ للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيا، أو راكبا

- ‌ طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الكفار إلى الإسلام

- ‌ حكم الشعر والغناء والموسيقى

- ‌ محدثات الأمور وما معناها

- ‌ دعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌نداء جاه النبي والرسول صلى الله عليه وسلم عند النهوض من المجلس، أو نداء رضا الوالدين

- ‌ كيف نرد على القائلين بأن (الله في كل مكان)

- ‌ تحية المسجد

- ‌ الفرق بين السحر والعين

- ‌ انحناء الرأس لمسلم عند التحية

- ‌ إبليس من الجن، أو من الملائكة

- ‌ لماذا سمي الدين الإسلامي (بالإسلام)

- ‌ حكم النذر في الإسلام

- ‌ القراءة في كتاب دلائل الخيرات

- ‌ الطرق التي يدخل بها الشيطان على الإنسان

- ‌ الاجتماع في دعاء ختم القرآن

- ‌ هل ترى ليلة القدر عيانا

- ‌ تفسير قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ}

- ‌بيان التوحيد والتحذير من الشرك

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌ توحيد الألوهية:

- ‌ توحيد الأسماء والصفات:

- ‌ بيان الشرك:

- ‌حدوث الشرك في العالم وسببه:

- ‌ظهور الشرك في هذه الأمة:

- ‌معنى الشهادة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء

- ‌مباحث السنة عند الأصوليين

- ‌تعريف السنة في اللغة والاصطلاح:

- ‌أنواع السنة

- ‌منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة

- ‌منزلة السنة من القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام

- ‌خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌دلالة فعل الرسول صلى الله عليه وسلمعلى الحكم الشرعي

- ‌تقسيم السنة من حيث وصولها إلينا

- ‌الاحتجاج بالحديث المرسل

- ‌آراء العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل

- ‌خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس

- ‌خبر الواحد الصحيح إذا نسيه الراوي أو عمل بخلافه

- ‌الاحتجاج بخبر الواحد الصحيح فيما تعم به البلوى

- ‌ المراجع

- ‌توطئة

- ‌موضوع الرسالة:

- ‌النص المحقق

- ‌التحذير من التعامل بالربا وبيان سوء عاقبته

- ‌مقابلة مع سماحة الرئيس العامأجرتها صحيفة الراية السودانية

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌المحتويات الافتتاحية: حكم إتيان الكهف ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم سماحة / الشيخ عبد

‌المحتويات

الافتتاحية:

حكم إتيان الكهف ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم سماحة / الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7

موضوع العدد:

التأمين (القسم الثاني) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13

الفتاوى:

فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 145

من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 185

ص: 4

البحوث:

بيان التوحيد والتحذير من الشرك الدكتور / صالح بن فوزان الفوزان 191

نفي تقول سخيف على الجناب المحمدي الشريف الشيخ / عبد الله كنون 207

معنى الشهادة في اللغة واصطلاح الفقهاء الدكتور / عبد الله بن محمد الزين 219

مباحث السنة عند الأصوليين الدكتور / حسين مطاع الترتوري 234

تحقيق مخطوطة "فتيا في حكم القيام والانحناء والألقاب

لشيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيق الشيخ / الوليد بن عبد الرحمن الفريان 287

كلمة ومقابلة:

التحذير من الربا وبيان سوء عاقبته سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 303

مقابلة مع سماحة الرئيس العام، أجرتها صحيفة الراية السودانية 305

بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال الشغب

التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين في موسم حج / عام 1407هـ 317

ص: 5

صفحة فارغة

ص: 6

الافتتاحية

حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم

سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.

فقد شاع بين الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزوج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1){إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2). وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3).

(1) سورة الجن الآية 26

(2)

سورة الجن الآية 27

(3)

سورة النمل الآية 65

ص: 7

فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة وأنهم لا يعلمون الغيب وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون، قال تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1){وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3) وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (4){فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5). فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارته ومآله في الدنيا والآخرة وأنه لا يأتي بخير وأن ما يتعلمه أو يعلمه يضر صاحبه ولا ينفعه كما نبه سبحانه أن عملهم باطل وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (6)» متفق على صحته.

وهذا يدل على عظم جريمة السحر؛ لأن الله قرنه بالشرك وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر

(1) سورة البقرة الآية 102

(2)

سورة البقرة الآية 103

(3)

سورة طه الآية 69

(4)

سورة الأعراف الآية 117

(5)

سورة الأعراف الآية 118

(6)

صحيح البخاري الوصايا (2767)، صحيح مسلم الإيمان (89)، سنن النسائي الوصايا (3671)، سنن أبو داود الوصايا (2874).

ص: 8

كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف (2)» وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل السحرة من الرجال والنساء، وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عن الجميع، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء، فقالوا يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه فيخلطوا معها مائة كذبة (3)» رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس رضي الله عنهما «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (4)» رواه أبو داود وإسناده صحيح. وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه (5)» .

وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن وعبادتهم شرك بالله عز وجل.

فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن كما ورد بالحديث الذي مر ذكره ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك وكذا من يفتح الكتاب زعما منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب وهم كفار

(1) سورة البقرة الآية 102

(2)

سنن الترمذي الحدود (1460).

(3)

صحيح البخاري الطب (5762)، صحيح مسلم السلام (2228)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 87).

(4)

سنن أبو داود الطب (3905)، سنن ابن ماجه الأدب (3726)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 311).

(5)

سنن النسائي تحريم الدم (4079).

ص: 9

بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة به وهي علم الغيب ولتكذيبهم بقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2) وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (3) الآية ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر.

لما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (4)» ، ولما رواه أصحاب السنن والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (5)» ، وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (6)» .

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (7)» .

رواه البزار بإسناد جيد، وبما ذكرنا من الأحاديث يتبين لطالب الحق أن علم النجوم وما يسمى بالطالع وقراءة الكف وقراءة الفنجان ومعرفة الحظ وما أشبه ذلك مما يدعيه الكهنة والعرافون والسحرة كلها

(1) سورة النمل الآية 65

(2)

سورة الأنعام الآية 59

(3)

سورة الأنعام الآية 50

(4)

سنن الترمذي الطهارة (135)، سنن أبو داود الطب (3904)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 429)، سنن الدارمي الطهارة (1136).

(5)

سنن الترمذي الطهارة (135)، سنن أبو داود الطب (3904)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 476)، سنن الدارمي الطهارة (1136).

(6)

صحيح مسلم السلام (2230)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 68).

(7)

سنن الترمذي الطهارة (135)، سنن أبو داود الطب (3904)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 476)، سنن الدارمي الطهارة (1136).

ص: 10

من علوم الجاهلية التي حرمها الله ورسوله، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به.

ونصيحتي لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره وأن يعتمد على الله وحده ويتوكل عليه في كل الأمور مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة، وأن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها، ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم؛ طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحفاظا على دينه وعقيدته، وحذرا من غضب الله عليه، وابتعادا عن أسباب الشرك والكفر التي من مات عليها خسر الدنيا والآخرة.

نسأل الله العافية من ذلك ونعوذ به سبحانه من كل ما يخالف شرعه أو يوقع في غضبه كما نسأله سبحانه أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

الرئيس العام

لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 11

صفحة فارغة

ص: 12

التأمين

القسم الثاني

ب- قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

فيما يلي كلام العلماء السابقين في الوعد هل يجب الوفاء به أو لا. ثم ما تيسر من كلام علماء العصر في هذا الدليل مع المناقشة.

قال أحمد بن علي الرازي في كلامه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1){كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) قال أبو بكر يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة أو أوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك، وهذا فيما لم يكن معصية. وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح، فإن الأولى الوفاء مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله، وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعدو في ضميره أن لا يفي به؛ لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه، ومقت فاعله عليه وإن كان في عقد ضميره الوفاء به، ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف فيه (3).

(1) سورة الصف الآية 2

(2)

سورة الصف الآية 3

(3)

أحكام القرآن 3/ 543 وما بعدها.

ص: 13

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء، وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم وتعلقوا بسبب الآية فإنه روي- أنهم كانوا يقولون- لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو حديث لا بأس به، وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل، والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له أن لا يفعل فما أرى ذلك يلزمه، وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء، فقال: أشهدكم أني وهبت له من أن يؤدي إليكم فإن هذا يلزمه، وإما أن يقول: أنا أفعل، ثم يبدو له فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي لا يقضي عليه بذلك، فأما مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم، وقد أثنى الله على من صدق وعده ووفى بنذره، فقال:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (1) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقد تقدم بيانه.

وقال القرطبي أيضا: الرابعة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل

(1) سورة البقرة الآية 177

(2)

سورة مريم الآية 54

(3)

سورة الصف الآية 2

ص: 14

فيكون خلفا وكلاهما مذموم وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) أي: لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون؛ فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول.

وقال القرطبي أيضا: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزمه منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع. انتهى المقصود.

وقال القرافي: الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2){كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزمه أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا. وقال عليه السلام: «من علامة المنافق ثلاث: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف (4)» فذكره في سياق الذم دليل على التحريم، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «وأي المؤمن واجب» أي وعده واجب الوفاء به. وفي الموطأ «قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال عليه السلام: لا خير في الكذب، فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقوله لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك (5)»، فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضا النساء إنما يحصل به، ونفى الجناح على الوعد وهو يدل على أمرين:

(1) سورة الصف الآية 2

(2)

سورة الصف الآية 2

(3)

سورة الصف الآية 3

(4)

صحيح البخاري الإيمان (33)، صحيح مسلم الإيمان (59)، سنن الترمذي الإيمان (2631)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 536).

(5)

موطأ مالك الجامع (1859).

ص: 15

أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب.

وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.

وفي أبي داود قال عليه السلام: «إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه (1)» . فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد وأن ذلك مباح، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأولى. واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه، وكذلك عدم التأثيم فمن الفقهاء من قال: الكذب يختص بالماضي والحاضر، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله تعالى.

ومنهم من يقول: لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم؛ فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ولا بالمطابقة؛ لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما. وحيث قلنا: الصدق القول المطابق، والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل، وذلك مختص بالحال والماضي، وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان: الحيوان الناطق أو نحوه، إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقول، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وهذا التعليل يؤيد القول الأول.

ومنهم من يقول: الكل يدخله الكذب وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف؛ فعلى هذا لا فرق بين الكذب والوعد، والأول هو الذي

(1) سنن الترمذي الإيمان (2633)، سنن أبو داود الأدب (4995).

ص: 16

ظهر لي لعدم تعيين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق فلا يوصف بواحد منهما، ويختص بالماضي والحاضر- وبعد إيراده اعتراضا وإجابته عنه قال: واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا - سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم، ثم بدا لك لا، يلزمك ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير.

قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، واخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق، وقال أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا. وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا، لزمك، تسبب في ذلك أم لا. والذي لا يلزم من ذلك أن تعده، من غير ذكر سبب، فيقول: أسلفني كذا فتقول: نعم. بذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله وإن وعدت غريمك بتأخير الدين لزمك؛ لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت: له أؤخرك أو أخرتك، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك، وحينئذ تقول مرجع الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به وبعضها عدم الوفاء به: إنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم كما قال مالك وابن القاسم وسحنون، أو وعده مقرونا بذكر السبب كما قال أصبغ لتأكد العزم على الدفع حينئذ، ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية إنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواعا من الخيرات، وما فعلوها ولا شك أن هذا محرم؛ لأنه كذب، ولأنه تسميع بطاعة الله وكلاهما محرم

ص: 17

ومعصية اتفاقا، وأما ما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق فمعناه أنه سجية له ومقتضى حاله الإخلاف ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال: سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح، أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا، واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل لقوله عليه السلام للسائل لما قال: له أأكذب لامرأتي؟ قال: «لا خير في الكذب (1)» وأباح له الوعد وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ولا يدخله الكذب، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية وليس كذلك، وإن قلنا: إن الكذب لا يدخله ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما وما ذكرته أقرب الطرق في ذلك (2).

وقال ابن حجر قوله: " باب من أمر بإنجاز الوعد " وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادات على نفسه، قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ.

ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهيئة هل تملك بالقبض أو قبله، وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي " ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3)

(1) موطأ مالك الجامع (1859).

(2)

الفروق 4/ 20 - 25.

(3)

سورة الصف الآية 3

ص: 18

وحديث آية المنافق - قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد، وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (1).

وقال محمد بن مفلح: ولا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه (وهـ ش) لأنه يحرم بلا استثناء لقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (2){إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3).

ولأنه في معنى الهبة قبل القبض. وذكر شيخنا وجها: يلزم، واختاره، ويتوجه أنه رواية من تأجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل. ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال بخلف المواعيد، وهذا متجه، وقاله من الفقهاء ابن شبرمة، وقال ابن العربي المالكي: أجل من قاله عمر بن عبد العزيز لقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} (4) ولخبر «آية المنافق ثلاث. إذا وعد أخلف (5)» وحملا على وعد واجب. وبإسناد حسن «العدة عطية» وبإسناد ضعيف «العدة دين» أبو مسعود الدمشقي والبرقاني أن مسلما روى «ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه (6)» . ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بإسناد حسن «ثم لا يفي له فإن الكذب يهدي إلى الفجور (7)» . وفيه «والسعيد من وعظ بغيره (8)» . وفيه عبيد بن ميمون المدني روى عنه غير واحد، ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم مجهول، وعن ابن مسعود مرفوعا «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده، ثم تخلفه (9)» . رواه الترمذي وغيره.

(1) فتح الباري 5/ 290 طبع المطبعة السلفية ومكتبتها.

(2)

سورة الكهف الآية 23

(3)

سورة الكهف الآية 24

(4)

سورة الصف الآية 3

(5)

خرجه الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة.

(6)

سنن ابن ماجه المقدمة (46).

(7)

سنن ابن ماجه المقدمة (46)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 405)، سنن الدارمي الرقاق (2715).

(8)

صحيح مسلم القدر (2645).

(9)

سنن الترمذي البر والصلة (1995).

ص: 19

قال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب إذا لم يفعل كقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} (1) وذكر القاضي في مسألة الفرار من الزكاة لما قيل له: إن أصحاب الجنة عوقبوا على ترك الاستثناء في القسم، قال: لا؛ لأنه مباح، وعلى أن الوعيد عليهما. ومذهب "م" يلزم لسبب، كمن قال لغيره: تزوج وأعطيك كذا، واحلف لا تشتمني ولك كذا وإلا لم يلزم، وقد روى أبو داود والترمذي، عن أبي النعمان، عن أبي وقاص - ولا يعرفان- عن زيد بن أرقم مرفوعا:«إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه (2)» وتقدم آخر كتاب العهد وأنه غير الوعد، ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفظ والرعاية والوصية وغير ذلك، وفي سيد الاستغفار «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت (3)» قال ابن الجوزي: قال المفسرون العهد الذي يجب الوفاء به الذي يحسن فعله، والوعد من العهد، وقال في {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} (4) عام فيما بينه وبين ربه وبين الناس، ثم قال الزجاج: كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد (5).

وقال ابن حزم: مسألة، ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأنه يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقته أو لم يدخله كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا

(1) سورة الكهف الآية 69

(2)

سنن الترمذي الإيمان (2633)، سنن أبو داود الأدب (4995).

(3)

خرجه البخاري والنسائي وأحمد عن شداد بن أوس.

(4)

سورة الإسراء الآية 34

(5)

الفروع 6/ 415 - 416.

ص: 20

وكذا أو نحو هذا وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان، وقال مالك لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بموعد في كلفة فيلزمه ويقضي عليه، وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر.

فأما تقسيم مالك فلا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس.

فإن قالوا: قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة. قلنا: فهبكم أنه كما تقولون من أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.

وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر (2)» .

والآخر الثابت من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (3)» .

فهذان أثران في غاية الصحة، وآثار أخر لا تصح، أحدها من طريق

(1) سورة الصف الآية 3

(2)

هذا الحديث متفق عليه.

(3)

متفق عليه.

ص: 21

الليث، عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه، عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي: هاه تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أردت أن تعطيه؟ فقالت أعطيه تمرا، فقال لها عليه السلام أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة (1)» هذا لا شيء؛ لأنه عمن لم يسم.

وآخر من طريق ابن وهب أيضا، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وأي المؤمن حق واجب (2)» هشام بن سعد ضعيف وهو مرسل.

ومن طريق ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة (3)» . وهذا مرسل، وإسماعيل بن عياش ضعيف.

ومن طريق ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قال لصبي تعال هاه لك، ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة (4)» ابن شهاب كان إذ مات أبو هريرة ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة، وأبو حنيفة ومالك يرون المرسل كالمسند، ويحتجون بما ذكرنا فيلزمهما أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولا بد وإلا فهم متناقضون فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها.

وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل أو عاهد على

(1) سنن أبو داود الأدب (4991)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 447).

(2)

رواه أبو داود في مراسيله والوأي: الوعد لفظا ومعنى.

(3)

سنن الترمذي البر والصلة (1995).

(4)

مسند أحمد بن حنبل (2/ 452).

ص: 22

معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإن ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد، كإنصاف من دين أو أداء حق فقط، وأيضا فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضا فإن الله تعالى يقول:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1){إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) فصح تحريم الوعد بغير استثناء فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد أحدا على معصية، فإن استثنى، فقال: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله تعالى، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى، وقد علمنا أن الله تعالى لو شاء لأنفذه، فإن لم ينفذه فلم يشأ الله تعالى كونه.

وقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) على هذا أيضا مما يلزمهم كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4){فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (5){فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (6) فصح ما قلنا؛ لأن الصدقة واجبة والكون من الصالحين واجب فالوعد والعهد

(1) سورة الكهف الآية 23

(2)

سورة الكهف الآية 24

(3)

سورة الصف الآية 3

(4)

سورة التوبة الآية 75

(5)

سورة التوبة الآية 76

(6)

سورة التوبة الآية 77

ص: 23

بذلك فرضان فرض إنجازهما، وبالله التوفيق، وأيضا هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك والنذر فرض (1).

وأما كلام علماء العصر في هذا الدليل، فقال الأستاذ مصطفى الزرقا:

وأما قاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية فخلاصتها أن الشخص إذا ما وعد غيره عدة بقرض أو يتحمل وضيعة عنه " أي خسارة " أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل فهل يصبح بالوعد ملزما ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزما؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء قد فصلها الحطاب في رسالته في الالتزامات، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة فتح العلي المالك- ج 2 ص 255 - في بحث مسائل الالتزام فمنهم من يقول: يقضي بالعدة مطلقا أي أنها ملزمة له، ومنهم من يقول: لا يقضي بها مطلقا أي أنها غير ملزمة، ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضي بها إذا ذكر لها سبب وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك، ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو وفاء دين- أو حراثة أرض إلخ. . . فإن الواعد ملزم ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع.

ومنهم من يقول: لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد أي إذا باشر السبب، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه فاشتراه فعلا، ومبلغ المهر في الزواج فتزوج ونحو ذلك وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة.

(1) المحلى لابن حزم 8/ 26 - 28.

ص: 24

أما عند الحنفية فإن المواعيد ملزمة إلا في حالات ضيقة إذا صدرت بطريق التعاون فإذا نظرنا إلى مذهب المالكية الأوسع في هذه القضية فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعا لتخرج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمن للمستأمنين ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرض له، أي أن يعوض عليه الخسائر، فقد نص المالكية أصحاب الرأي الرابع وهو الرأي الأضيق على أن لو قال شخص لآخر: بع كرمك الآن وإن- لحقتك من هذا البيع وضيعة " أي خسارة " فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة، كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة فيه " أي أن يتحمل عنه مقدار الخسارة "، وهو قول ابن وهب. قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا هو أحب إلي. قال ابن رشد: لأنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال " فتاوى عليش من المحل الآنف الذكر".

ولا يخفى أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين أنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير الالتزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية على سبيل المثال لا على سبيل الحصر (1).

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور:

الأول: أن عقد التأمين من عقود المعاوضات، والوعد الملزم من عقود التبرعات فلا يصح أن يقاس معاوضة على عقد تبرع لاختلافهما في التقعيد.

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 410.

ص: 25