المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التأمين فيه مصلحة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة

- ‌ التأمين فيه مصلحة

- ‌الفتاوى

- ‌ الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر

- ‌ للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيا، أو راكبا

- ‌ طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الكفار إلى الإسلام

- ‌ حكم الشعر والغناء والموسيقى

- ‌ محدثات الأمور وما معناها

- ‌ دعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌نداء جاه النبي والرسول صلى الله عليه وسلم عند النهوض من المجلس، أو نداء رضا الوالدين

- ‌ كيف نرد على القائلين بأن (الله في كل مكان)

- ‌ تحية المسجد

- ‌ الفرق بين السحر والعين

- ‌ انحناء الرأس لمسلم عند التحية

- ‌ إبليس من الجن، أو من الملائكة

- ‌ لماذا سمي الدين الإسلامي (بالإسلام)

- ‌ حكم النذر في الإسلام

- ‌ القراءة في كتاب دلائل الخيرات

- ‌ الطرق التي يدخل بها الشيطان على الإنسان

- ‌ الاجتماع في دعاء ختم القرآن

- ‌ هل ترى ليلة القدر عيانا

- ‌ تفسير قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ}

- ‌بيان التوحيد والتحذير من الشرك

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌ توحيد الألوهية:

- ‌ توحيد الأسماء والصفات:

- ‌ بيان الشرك:

- ‌حدوث الشرك في العالم وسببه:

- ‌ظهور الشرك في هذه الأمة:

- ‌معنى الشهادة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء

- ‌مباحث السنة عند الأصوليين

- ‌تعريف السنة في اللغة والاصطلاح:

- ‌أنواع السنة

- ‌منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة

- ‌منزلة السنة من القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام

- ‌خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌دلالة فعل الرسول صلى الله عليه وسلمعلى الحكم الشرعي

- ‌تقسيم السنة من حيث وصولها إلينا

- ‌الاحتجاج بالحديث المرسل

- ‌آراء العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل

- ‌خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس

- ‌خبر الواحد الصحيح إذا نسيه الراوي أو عمل بخلافه

- ‌الاحتجاج بخبر الواحد الصحيح فيما تعم به البلوى

- ‌ المراجع

- ‌توطئة

- ‌موضوع الرسالة:

- ‌النص المحقق

- ‌التحذير من التعامل بالربا وبيان سوء عاقبته

- ‌مقابلة مع سماحة الرئيس العامأجرتها صحيفة الراية السودانية

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ التأمين فيه مصلحة

ك-‌

‌ التأمين فيه مصلحة

، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح.

نذكر فيما يلي الكلام في المراد بالمصلحة وفي الاحتجاج بها عند العلماء السابقين، ثم نذكر ما تيسر من كلام الفقهاء المعاصرين في بيان الاستدلال بهذا الدليل.

أما كلام العلماء السابقين، فقال الآمدي في بيان المصلحة المرسلة: هي ما لم يشهد الشرع باعتبارها ولا إلغائها. وقد اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها إلا ما نقل عن مالك مع إنكار أصحابه لذلك عنه والحق في ذلك مذهب الجمهور؛ لأن ما لا يكون معتبرا في الشرع لا يكون دليلا شرعيا، وما يقال: إنه ما من وصف مصلحي إلا وقد اعتبر ما هو من جنسه غير صحيح؛ لأنه إن أريد المشاركة بينه وبين الوصف المعتبر في الجنس القريب منه فهو الملائم ولا نزاع فيه، وإن أريد به الجنس الغائي فكما قد شارك الوصف المعتبر فيه فقد شارك الأوصاف الملغاة فيه وليس إلحاقه بالمعتبر أولى من الملغى (1).

وقال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الطريق السابع: " المصالح المرسلة " وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها " المصالح المرسلة " ومنهم من يسميها الرأي. وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته وهذه مصلحة لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ

(1) منتهى السؤل في علم الأصول 4/ 56.

ص: 58

النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.

وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة من غير خطر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الخمسة فقط، فقد قصر.

وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.

وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها.

وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.

والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله "غالبا" وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك، فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحا والحسن هو المصلحة

ص: 59

فالاستحسان، والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له؛ إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشرع ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة. كما قال تعالى في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1).

وقال الشاطبي رحمه الله المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام.

إحداها: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله، وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها.

والثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا

(1) سورة البقرة الآية 219

ص: 60

لم يشهد الشرع باعتبار هذا المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين، ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين، فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل في الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين إلى أن قال.

الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين:

أحدهما: " أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث بالمعاملة بنقيض المقصود بتقدير أن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرائض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله.

والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.

وذكر عشرة أمثلة لذلك، ثم قال: فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور:

أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.

ص: 61

والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون (1) المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك:

ثم ذكر مجموعة أمثلة توضح ذلك ثم قال:

والثالث: " أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به. . . " فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. اهـ (2).

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في بيان وجه الاستدلال بهذا الدليل:

فقال عبد الرحمن عيسى: ومن الإنصاف أن نقرر أن التأمين نشأ وليد الحاجة، ولم تزل عملياته تتعدد وتتنوع تبعا لما يحققه من مصالح اقتصادية كبيرة فقلما نجد باخرة تعبر البحار إلا مؤمنا عليها، وقلما نجد البضائع تشحن من الخارج بحرا أو جوا إلا مؤمنا عليها، وكذلك قلما نجد العمارات الشاهقة والمتاجر الكبيرة إلا مؤمنا عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البنوك ومخازن الشركات للقطن والحبوب وغيرها مؤمن عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البترول والزيوت ومخازن الأخشاب وكذلك المصانع الكبيرة وعمالها مؤمن عليها، وكذلك السيارات والطائرات، فقد دفعت قواعد الاقتصاد الناس دفعا إلى التأمين لدى شركات التأمين ليأمنوا الكوارث المالية الفادحة التي يتعرضون لها نظير

(1) كذا في المطبوع، ولعله " على سنن ".

(2)

انظر الاعتصام ج3 ص 283 - 284 وص 286 - 287 وص 307 - 313.

ص: 62

ما يدفعون لشركات التأمين من مال لا يذكر بجانب الكوارث والخسارة إذا نزلت بفرد منهم.

وكم سمعنا من قبل التأمين عن بيوت عظيمة للتجار خربت بغرق بضائعهم وسفنهم، وكم سمعنا عن محال تجارية نشيطة أكلتها النيران وأمسى ذووها يتكففون الناس، وكم وكم من كوارث حلت بذوي الحظ العاثر فبددت الثروات وجلبت الذل والخسران، ولكن التأمين وقد انتشر وظهرت آثاره حقق معناه فأمن الناس من هذه الكوارث المخربة للديار العامرة وخففت من فداحتها.

فعن رضا تام من طالب التأمين يتعاقد مع شركة التأمين ويدفع أقساط التأمين، وعن رضا تام من الشركة تتعاقد معه وتدفع قيمة الخسارة إذا نزلت به، فإنها تجمع منه ومن غيره مبالغ كثيرة، وفي الغالب تكون السلامة بحيث يبقى لها بعد سداد الخسائر أرباح كثيرة (1).

وقال الأستاذ عبد الرحمن عيسى أيضا:

وقد قرر العلماء أن المصالح العامة إذا كانت تناسب حكما شرعيا فإن ذلك الحكم الذي تناسبه يثبت للعمل الذي يحقق المصلحة العامة اعتبارا بهذا الوصف المناسب للحكم، ولهم في ذلك سلف عظيم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم، فقد جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صحف بعد موقعة اليمامة؛ خوفا من ضياعه بقتل القراء ولم يكن ذلك من قبل أبي بكر.

وقد نسخ عثمان بن عفان من هذه الصحف أربعة مصاحف، ووزعها

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 473 - 474.

ص: 63

على الأقطار وأمر بحرق كل صحيفة تخالف الصحف؛ منعا لاختلاف الناس في القرآن.

ولعمر بن الخطاب من ذلك الكثير لإثبات الحكم الشرعي للعمل الذي يحقق المصلحة العامة؛ فهو الذي أنشأ الدواوين وأنشأ البريد، بل قد أسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة مع أنها صنف من الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه رأى أن هذا الصنف كان يأخذ من الزكاة مراعاة لمصلحة المسلمين إذا كان فيهم ضعف، وكانوا في حاجة إلى تألف هذا الصنف، ولكن لما قويت شوكة المسلمين ولم يصيروا في حاجة إلى تأليف هؤلاء رأى عمر رضي الله عنه وهو البصير بأمر المسلمين ألا مصلحة في إعطاء هذا الصنف من الزكاة، بل المصلحة في منعهم؛ لئلا يظن بالمسلمين الضعف. كذلك أسقط عمر حد السرقة عن السارق عام المجاعة لما اشتدت، ربما تكون هي التي دفعت تحت تأثير العوامل الطبيعية إلى السرقة ليحصل السارق على الطعام الذي لا يكاد يجده، فتكون حالة الضرورة هي الدافع على السرقة فاقتضى عدم إقامة الحد مراعاة لهذه العوامل الطبيعية.

فهذه المواقف وأمثالها من الخلفاء الراشدين على مشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم إنكارهم؛ دليل على أنهم يرون أن المصالح العامة من الأمور المناسبة للحكم الشرعي، والتي ينبني عليها ثبوت ذلك الحكم. . . وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة وهامة؛ فيكون حكمه الجواز شرعا اعتبارا لما يحققه من المصالح العامة (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي 474 - 475.

ص: 64

وقال أيضا: قد يبدو ما قررناه ظاهرا وجليا من أن التأمين يحقق الصالح العام بالنسبة للتأمين ضد أخطار الملكية؛ كالتأمين ضد الحريق وضد الغرق وضد السرقة.

وقد يبدو محتاجا إلى ظهور وجلاء بالنسبة للتأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية فنجلي عمليات التأمين بالنسبة للأخطار الشخصية بما يأتي:

إن التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار كالتأمين على بعض الحواس كالسمع والبصر وغيرهما، أو على بعض أجزاء الجسم؛ كاليدين والساقين وغيرهما، هذا التأمين يحقق الصالح العام في الصناعات والمهن الخطيرة فيه تخفيف آلام الكوارث التي تنزل برجال الصناعات، وتهون الشدائد التي تقع على المخاطرين من رجال الأعمال لهذا يكون التأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة جائزا شرعا (1).

وقد علق الأستاذ أبو زهرة على كلام الأستاذ عبد الرحمن عيسى في الاستدلال بالمصلحة على جواز التأمين فقال:

لا بد أن أتعرض لبعض أمور جزئية ثارت في أثناء المناقشات أو جاءت في بعض البحوث ومن ذلك الكلام على أمر يتعلق بالمصلحة فقد جاء في بحث فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى أن عمر بن الخطاب ترك بعض النصوص لأجل المصلحة، وذكر مسألتين أبلاهما التكرار، وهما مسألة المؤلفة قلوبهم، ومسألة قطع اليد وإهماله عام المجاعة.

ونقول بالنسبة للأولى: إن عمر بن الخطاب ما أسقط سهم المؤلفة

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 477.

ص: 65

قلوبهم وما كان في استطاعته أن يسقط نصا قرآنيا، ولكن عمر منع إعطاء أناس كانوا يأخذون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق رضي الله عنه كالزبرقان بن بدر وغيره، فهو ما اعتبر إعطاءهم حقهما مكتسبا، بل اعتبر مثل هذا العطاء موقوفا بحال الشخص وحال المسلمين.

وقد يقول: ولكنه لم يعط غيره، ونقول: إنه رأى أنه لا موضع لتطبيق النص؛ لعدم حاجة المسلمين إليه، ومثل ذلك سهم المدينين، فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يجد مدينا يسد عنه، وكذلك سهم الرقاب فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يوجد عبد مسلم يعتق.

ولذلك قرر الفقهاء بالإجماع أنه إذا وجدت حال يكون فيها إعطاء ناس تأليفا لقلوبهم فيه تقوية للإسلام فإن النص القرآني يجب الأخذ به؛ ولذلك لا يصح لأحد أن يقول: إن عمر رضي الله عنه أسقط سهم المؤلفة قلوبهم، إن ذلك قول الإفرنجة الذين لا يرجون للإسلام وقارا ويريدون توهين نصوصه، وتبعهم بعض كبار العلماء عن غير بينة وكل امرئ يخطئ ويصيب مهما كانت منزلته العلمية.

وأما مسألة عدم قيام الحد عام الرمادة، وهو السنة التي اشتدت فيها المجاعة على المسلمين، فذلك لأن عمر رضي الله عنه وجد شبهة في إقامته، ومن المقررات الفقهية أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم (1)» والشبهة أنه رأى السارقين في حال جوع شديد واضطرار، ويعلم كل فقير أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن من كان في حال جوع يتعرض فيه

(1) خرجه ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة.

ص: 66

للتلف إذا لم يأكل يباح له مال غيره بقدر ما يسد رمقه، وإذا منعه فقاتله فقتل صاحب الطعام لا دية فيه، والقصة تنبئ عن ذلك فإن غلمان حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها وأكلوها، فهم عمر بأن يقيم الحد عليهم، ولكنه تبين له أن حاطبا يجيع غلمانه، فلم يقم الحد وغرمه، أليس في الخبر ما يدل على أنه درأ الحد بشبهة الاضطرار، وقد اشتكوا إليه، وثبتت صحة شكواهم والعام عام مجاعة، ولذلك يقرر فقهاء الحنابلة وكثيرون غيرهم أن من شرط إقامة الحد في السرقة ألا يكون السارق قد سرق طعامه في مجاعة لمكان شبهة الاضطرار في إقامة الحد (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 525.

ص: 67

ل- التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة.

لقد ذكرت اللجنة في بحث الشرط الجزائي كلاما مفصلا عن العلماء السابقين على أن الأصل في الأشياء الإباحة فرأت الاكتفاء بذكره هناك عن إعادته هنا.

وأما وجه استدلال العلماء المعاصرين بهذا الدليل فقد أوضحه الشيخ عبد الرحمن عيسى بقوله:

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1). قال المفسرون: أي هو الذي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض لتنتفعوا به في دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي دينكم بالاعتبار والاستدلال.

وقالوا أيضا: استدل كثير من أهل السنة بالآية على أن الأصل في

(1) سورة البقرة الآية 29

ص: 67

الأشياء الإباحة وقال صاحب تفسير المنار: إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إن الأصل في الأشياء الإباحة ".

هذا الأصل يتبعه أن تكون معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم مباحة إلا ما ورد فيه دليل بخصوصه يقتضي غير ذلك فبمقتضى هذه القاعدة تكون عمليات التأمين التي بيناها مباحة؛ لأنها من معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم، ولم يرد بخصوصها نص يحظرها (1).

وقال أيضا بالنسبة للتأمين على الحياة: ويمكن أن نثبت للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة الجواز أيضا من ناحية الإباحة التامة الثابتة لكل عمل يتصل بما خلقه الله لمنفعتنا، ولم يرد فيه بخصوصه دليل يقتضي الحظر؛ لأن كل ذلك ينطبق على هذا التأمين (2).

وقال الأستاذ مصطفى الزرقا: رأينا الشخصي في الموضوع في نظري أن نقطة الانطلاق في بحث حكم الشريعة الإسلامية في عقد التأمين يجب أن تبدأ من ناحية هي عندي حجر الأساس، وهي هل أنواع العقود في الشريعة الإسلامية محصورة لا تقبل الزيادة؟ أي هل نظام التعاقد في الإسلام يحصر الناس في أنواع معينة من العقود المسماة، وهي العقود المعروفة في صدر الإسلام من بيع وإجارة وهبة ورهن وشركة وصلح وقسمة وإعارة وإيداع وسائر العقود الأخرى المسماة، التي ورد لها ذكر وأحكام في مصادر فقه الشريعة من كتاب وسنة وإجماع، ولا يبيح للناس إيجاد أنواع من العقود غير داخلة في أحد الأنواع السابقة

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 475، 476.

(2)

أسبوع الفقه الإسلامي / 478.

ص: 68

المذكورة لهم، أم أن الشريعة تركت الباب مفتوحا للناس في أنواع العقود وموضوعاتها فيمكنهم أن يتعارفوا على أنواع جديدة إذا دعتهم حاجاتهم الزمنية إلى نوع جديد ليس فرعا من أحد الأنواع المعروفة قبلا، ويصح منهم كل عقد جديد متى توافرت فيه الأركان والشرائط العامة التي تعتبر من النظام التعاقدي العام في الإسلام؛ كالشرائط المطلوبة شرعا في التراضي والتعبير عن الإرادة وفي محل العقد بحيث لا يتضمن العقد ما يخالف قواعد الشريعة التي عبر عليها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:«كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط (1)» .

فكتاب الله في هذا المقام معناه القواعد العامة في الشريعة وليس معناه القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول أي ما كتبه الله على المؤمنين وأوجبه عليهم كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2).

والجواب على هذا السؤال أن الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفى الشرائط العامة المشار إليها.

وهذا ما نراه هو الحق وهو من مبدأ سلطان الإرادة العقدية في الفقه الإسلامي، وقد استوفيت بحثه في كتابي " المدخل الفقهي العام " وهو الجزء الأول من سلسلة الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد. وقد خالف في ذلك الظاهرية فاعتبروا أن الأصل في العقود هو التحريم ما لم يرد في الشرع دليل الإباحة (3).

(1) خرجه بهذا اللفظ البزار والطبراني عن ابن عباس. وأصله في الصحيحين وأحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والبيهقي عن عائشة.

(2)

سورة النساء الآية 103

(3)

أسبوع الفقه الإسلامي / 387 - 388.

ص: 69

وقد ذكر الأستاذ الزرقا بيع الوفاء عند الحنفية شاهدا على أن العقود لا تنحصر فيما كان موجودا في عصر التنزيل أو الصحابة.

فقال: ومن الشواهد الواقعية في المذهب الحنفي على أن الأصل في العقود الجديدة هو الإباحة شرعا عقد " بيع الوفاء " الذي نشأ في القرن الخامس الهجري.

ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره لا من حيث موضوع العقدين، بل من حيث الملابسات الخارجية والاختلافات التي أحاطت بكل منهما، فبيع الوفاء أيضا عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كل عقد آخر من العقود المسماة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة، وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرمة؛ لأنه يخفي وراءه ألوانا من الربا المستور وهو الحصول على منفعة من وراء القرض حيث يدفع فيه الشخص مبلغا من النقود ويسميه ثمنا لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ الذي يسمى مشتريا للعقار لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء بشرط أن صاحب العقار الذي يسمى في الظاهر بائعا متى وفى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استرد العقار، ونتيجة ذلك أن ما يسمى مشتريا بالوفاء لا يستطيع أن يتصرف بالعقار الذي اشتراه، بل عليه الاحتفاظ بعينه كالمرهون؛ لأنه سوف يكلف رده لصاحبه متى أعاد إليه الثمن، ولكل منهما الرجوع عن هذا العقد أي فسخه وطلب التراد ولو حددت له المدة.

هذه خلاصة بيع الوفاء الذي تعارفه الناس في بخارى وبلخ في القرن الخامس الهجري، وثارت حوله اختلافات عظيمة بين فقهاء العصر إذ ذاك حول جوازه ومنعه وتخريجه، أي تكييفه، أعظم مما هو واقع اليوم عقد التأمين.

ص: 70

أ- فمن الفقهاء من نظر إلى صورته فاعتبره بيعا، وطبق عليه شرائط البيع فاعتبروه بيعا فاسدا؛ لأن الشرط المقترن به مفسد وأفتى فيه بذلك.

ب- ومنهم من اعتبره بيعا صحيحا وألغى فيه شرط الإعارة معتبرا أن هذا الشرط من قبيل الشرط المفسد وأفتى بذلك، وهذا مشكل جدا وفيه ضرر للبائع؛ لأن الثمن فيه عادة أقل من القيمة الحقيقية للعقار كالدين المرهون له فيه.

ج- ومنهم من نظر إلى غايته لا إلى صورته، فرآه في معنى الرهن الذي اشترط فيه انتفاع المرتهن بالمرهون، فاعتبره رهنا وألغى فيه شرط الانتفاع، وأفتى بذلك.

قال العلامة الشيخ بدر الدين محمود بن قاضي سماوه في الفصل - 18 - من كتابه " جامع الفصولين " نقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين عمر بن محمد النسفي ما نصه:

البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا وأسموه بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمر وأتلفه من شجره ويسقط الدين بهلاكه، لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين، وإن سمياه بيعا لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين؛ إذ العاقد " أي البائع " يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات المقاصد والمعاني؛ فهبة المرأة نفسها مع تسمية المهر وحضرة الشهود نكاح، وهكذا.

ثم قال: قال السيد الإمام: قلت لإمام الحسب الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفتواك أنه رهن وأنا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس. فقال: المعتبر اليوم فتوانا،

ص: 71

وقد ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله. انتهى كلام النسفي.

أقول أبرز المخالفون بعد ذلك أنفسهم، واستقرت الفتوى في المذهب الحنفي على ما سمي:" القول الجامع " وهو أن بيع الوفاء ليس بيعا صحيحا، ولا بيعا فاسدا ولا رهنا، وإنما هو عقد جديد ذو موضوع وخصائص مختلفة عما لكل واحد من هذه العقود الثلاثة، ولكن فيه مشابه من كل عقد من هذه الثلاثة؛ لذلك قرر فقهاء المذهب بعد ذلك أحكاما مستمدة من هذه العقود الثلاثة جميعا، ولم يلحقوه بأحدها ويطبقون عليه أحكامه، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه من مؤلفات المذهب الحنفي وبهذا القول الجامع أخذت مجلة الأحكام العدلية حتى جاء قانوننا المدني سنة 1949 م فمنع بيع الوفاء استغناء بأحكام الرهن الحيازي، والتاريخ اليوم يعيد نفسه فتتجدد لدينا مشكلة نظير مشكلة بيع الوفاء هي مشكلة عقد التأمين، فبعض العلماء يراه عقد مقامرة، وبعض آخر يراه عقد رهان يتحدى فيه قضاء الله وقدره، وبعض آخر يراه التزام ما لا يلزم وآخرون يرونه عقد تعاون مشروع على ترميم المضار وتحمل مصائب الأقدار فهو نظام معاوضة تعاونية، وإن انحرف به ممارسوه وأحاطوه بشوائب ليست من ضرورة نظامه، وواضح أني لا أعني تشبيه عقد بيع الوفاء بعقد التأمين من حيث الموضوع، وإنما أعني أن بيع الوفاء شاهد واقعي في تاريخ الفقه الإسلامي على جواز إنشاء عقود جديدة، وأنه اعتراه في أول نشأته ما اعترى اليوم عقد التأمين من اختلاف في تخريجه وتكييفه وإلحاقه ببعض العقود المعروفة قبلا وتطبيق شرائطه عليه، أو اعتباره عقدا جديدا مستقلا يقرر له من الأحكام الفقهية ما يتناسب مع خصائصه وموضوعه (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 387 وما بعدها.

ص: 72

وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: قد قرر أن الأصل في العقود عند الحنابلة وخصوصا ابن تيمية الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ونقول: إن موضوع الكلام كان في الشرط لا في أصل العقود، ولقد أجاب عن ذلك الأستاذ بأن المشارطات قد تؤدي إلى تغيير معنى العقد، وأن الاختلاف في العقود هو ذات الاختلاف في الشروط، ونقول: إن المذكور في كتاب العقود لابن تيمية هو في الشرط، ومجيئه للعقود إنما هو من أن الشروط بطبيعها تغير مقتضى العقد فهي تتضمن تغييرا في ماهيته من بعض النواحي، وإذا كان الأمر كذلك فإن عقد التأمين عقد جديد فهل يباح بمقتضى هذه القاعدة؟ وقد نساير الأستاذ الجليل ولا نمنع الإباحة ما دام العقد متفقا مع ما قرره الشارع من أحكام للعقود وليس مجافيا لها فالعبرة في هذا العقد من ناحية لا من حيث إنه عقد جديد يجوز، بل من ناحية ما اشتمل عليه، أيتفق مع أحكام الشريعة أم يخالفها.

وبالنسبة لبيع الوفاء قلنا: إن هذا العقد معناه أن يبيع شخص عينا على أن له استردادها إذا رد الثمن في مدة معلومة، وفي غالب أحوال هذا العقد تكون العين ذات غلة، فتكون غلتها للمشتري ويكون مؤدى العقد أن يكون قد اقترض البائع مبلغا فائدته هي غلة العين، وإذا لم تكن لها غلة فإن الربا ينتفي عنه وإن كان يندر ذلك.

وإن هذا العقد قد شاع في بلاد ما وراء النهر، وصارت القروض لا تكون إلا على أساسه، وللناس حاجة فيها فصارت الحاجة تطلبه، والحاجات إذا عمت نزلت منزلة الضرورات؛ ولذلك نقل ابن نجيم صحته والذين قالوا بصحته اختلفوا: أيخرج على أنه رهن أم يخرج على أنه بيع فيه شرط الخيار للبائع أو المشتري، وعلى الأول لا تباح الغلة وعلى الثاني

ص: 73

لا تنتقل الملكية إلى المشتري؛ لأنه إذا كان الخيار للبائع تستمر ملكيته للمبيع بمقتضى أحكام المذهب الحنفي وتنتقل الملكية للمشتري مع حق الفسخ إذا كان الخيار له.

والكثيرون من الفقهاء لا يبيحونه، ولسنا ندري لماذا يستشهد الأستاذ بعقد تحيط به الشبهات على هذا النحو، وعلى فرض إباحته فقد أدخل في عقد قائم إما الرهن وإما البيع، فلا يكون جديدا، وقد كتب الأستاذ ردا، ولم يجئ بالنسبة لبيع الوفاء بجديد غير أنه نقل نصوص الفقهاء فيه ونحن مسلمون بها ابتداء (1).

وعقب على ذلك الأستاذ مصطفى الزرقا، فقال: قال الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: " إن الخلاف بين الظاهرية وغيرهم في مشروعية التعاقد إنما هو في الشروط التي يشرطها العاقد في العقد لا في إنشاء عقود جديدة، فالظاهرية يتطلبون في إباحة الشرط نصا شرعيا وسواهم يطلب دليلا مطلقا من نص أو سواه، وإن الحنابلة جعلوها مباحا في الزواج، وابن تيمية أباحه مطلقا. . . " إلخ.

وجوابي على هذه الملاحظة: إن الخلاف في جواز المشارطات العقدية التي لم يرد فيها نص شرعي إذا توافر فيها المعيار الشرعي في الشروط هو نفسه الخلاف في جواز إنشاء عقود جديدة لم يرد فيها نص شرعي وهو مشمول بقاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة " والخلاف الذي فيها، وذلك لأن الشرط جزء من العقد الواقع فيه. فما يقال في الشروط الجديدة التي لم يرد فيها نص شرعي من حيث الجواز وعدمه يقال في العقود الجديدة التي ليس فيها نص وأستاذنا المفضال أبو زهرة نفسه يقرر هذا في كتبه وهو أمر مفروغ منه. اهـ.

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 515.

ص: 74

وقال الأستاذ الجليل أبو زهرة بمناسبة ذكرى بيع الوفاء شاهدا من الواقع التاريخي في الفقه الإسلامي على جواز عقود جديدة غير العقود المعروفة قبلا قال- رحمه الله: إن بيع الوفاء قد أباحه الحنفية على أساس أنه عقد من العقود المعروفة، وهو يرى أنه ليس عقدا جديدا، بل هو بيع ربوي اخترعه أكلة الربا، ولا يجوز أن يباح للضرورة، وجوابي على هذه الملاحظة أن ما بينه الأستاذ أبو زهرة هو صحيح بالنسبة إلى بداية ظهور بيع الوفا في القرن الخامس الهجري حيث إن فقهاء العصر إذ ذاك اختلفوا في تخريجه والحكم فيه على أساس إلحاقه بأحد العقود المعروفة؛ فمنهم من ألحقه بالبيع الصحيح واعتبر شرط الوفاء والإعادة فيه لغوا، ومنهم من ألحقه بالبيع الفاسد، ومنهم من ألحقه بالرهن وهم الأكثر، ولكن المتأخرين من الفقهاء بعد ذلك ضربوا بكل هذه التخريجات عرض الحائط؛ لعدم انطباقها على حقيقة بيع الوفاء وطبيعته العرفية وقصد المتعاقدين فيه، وخرجوا فيه برأي جديد سمي " القول الجامع "، ورجح بعلامة الفتوى وخلاصته: أنه عقد جديد لا يشبه أي عقد آخر من العقود المعروفة، وأثبتوا له حكما مركبا من بعض أحكام البيع الصحيح وبعض أحكام البيع الفاسد وبعض أحكام الرهن، وصححوه على هذا الأساس إذا استوفى شرائط الانعقاد العامة، كما أوضحته في المحاضرة، وهذا مقرر في الدر المختار ورد المحتار وتنقيح الفتاوى الحامدية للعلامة ابن عابدين وغيرها من كتب المتأخرين وأخذت به المجلة في المادة - 118 - وبنت عليه أحكام بيع الوفاء في الفصل الذي عقدته له وأوضحه شراحها.

وأما كونه حيلة اخترعها أكلة الربا كما يقول الأستاذ أبو زهرة فهذا أمر آخر، وإنني لم أبحث فيما ينبغي أن يحكم به على بيع الوفاء في نظري

ص: 75

من الجواز وعدمه فقد أكون متفقا مع الأستاذ أبي زهرة في رأيه فيه، ولكني أستشهد به شاهدا واقعيا على إقرار فقهائنا السابقين له بصفة أنه عقد جديد وليس صورة من عقد سابق معروف؛ فتكون قضية جواز إنشاء عقود جديدة غير الأنواع المعروفة في العصر الفقهي الأول قد وقعت فعلا، ولم تبق في الحيز النظري فقط.

وتكون النتيجة بالنسبة إلى موضوعنا هي: إن كون التأمين عقدا جديدا خارجا عن نطاق العقود القديمة ليس بمانع من جوازه شرعا إذا لم يكن فيه ما يخالف الشرائط الشرعية العامة في نظام التعاقد (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 539 - 541.

ص: 76

م- الاستدلال على جوازه بالعرف.

نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام بعض العلماء السابقين في معنى العرف وأقسامه، ومستند اعتباره، ورجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف وشروط اعتباره وحكمه عند معارضته للشرع وكيفية أعماله، وهل هو دليل مستقل أو لا. ثم نذكر وجه استدلال بعض الفقهاء المعاصرين به على جواز التأمين ومناقشته هذا التوجيه.

1 -

قال أحمد بن فارس بن زكريا: " عرف " العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بحضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة.

فالأول العرف: عرف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه. ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا، أي بعضها خلف بعض. . . والأصل الآخر المعرفة والعرفان. تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأنه من أنكر

ص: 76

شيئا توحش منه ونبا عنه. . . والعرف والمعروف، وسمي بذلك؛ لأن النفوس تسكن إليه. . . (1)

وقال ابن عابدين: قال في الأشباه وذكر الهندي في شرح المغني: العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة؛ كوضع القدم. والعرفية الخاصة؛ كاصطلاح كل طائفة مخصوصة؛ كالرفع للنحاة والفرق والجمع والنقض للنظار، والعرفية الشرعية؛ كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية. انتهى.

وفي شرح الأشباه للبيري عن المستصفى: العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. اهـ.

وفي شرخ التحرير: العادة هي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية. اهـ.

قلت بيانه: إن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المقاصد وإن اختلفا من حيث المفهوم (2).

2 -

وقال ابن عابدين - مبينا أقسام العرف - ثم العرف عملي وقولي؛ فالأول كتعارف قوم أكل البر ولحم الضأن، والثاني كتعارفهم إطلاق

(1) معجم مقاييس اللغة 4/ 281.

(2)

مجموعة رسائل ابن عابدين 2/ 114.

ص: 77

لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، والثاني مخصص للعام اتفاقا كالدراهم تطلق ويراد بها النقد الغالب في البلدة، والأول مخصص أيضا عند الحنفية دون الشافعية فإذا قال: اشتر لي طعاما أو لحما انصرف إلى البر ولحم الضأن عملا بالعرف العملي كما أفاده التحرير (1).

3 -

وقال ابن عابدين - مستدلا على اعتبار العرف - واعلم أن بعض العلماء استدل على اعتبار العرف بقوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (2) وقال في الأشباه القاعدة السادسة: العادة محكمة وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (3)» قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4).

4 -

وقال ابن عابدين - مبينا رجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف - واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فخر الإسلام. انتهى كلام الأشباه وفي شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5).

(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2/ 114 - 115.

(2)

سورة الأعراف الآية 199

(3)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 379).

(4)

مجموعة رسائل ابن عابدين 2/ 115 والأشباه النظائر للسيوطي / 80 والفروق للقرافي 3/ 149.

(5)

مجموعة رسائل ابن عابدين 2/ 115.

ص: 78

وقال ابن القيم في إعمال العرف في كثير من المسائل:

وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع؛ منها: نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع الحمامي لفظا، وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد. وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره، والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوي عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه؛ إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الأضرار به وترك التصرف ههنا هو الإضرار.

ومنها لو استأجر غلاما فوقعت أكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم

ص: 79

يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه، ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط، ومنها لو قصد العدو مال جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن، ومنها لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به، وإن لم يأذن في ذلك لفظا، ومنها لو جذ ثماره أو حصد زرعه، ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظا.

ومنها لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه ويأكل منه، ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرف في بابه لم يأذن له فيه لفظا ومنها الاستناد إلى جواره والاستظلال به. ومنها الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر، وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاء بالدينار والشاة الأخرى (1)، فباع وقبض بغير إذن لفظي اعتمادا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه عام، وإنما الإشكال في استشكاله، فإنه جار على محض القواعد كما عرفته (2).

5 -

لقد اشترط العلماء رحمهم الله شروطا لاعتبار العرف نذكرها فيما يلي:

(1) خرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني.

(2)

إعلام الموقعين 2/ 393 - 394.

ص: 80

الشرط الأول- أن يكون العرف مطردا أو غالبا. قال السيوطي: إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا (1).

الشرط الثاني- أن يكون العرف عاما في جميع بلاد الإسلام قال ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصا المذهب الأول. قال في البزازية معزيا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه. الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص وقيل يثبت. وذكر مجموعة أمثلة (2).

الشرط الثالث - أن لا يكون العرف مخالفا لأدلة الشرع وقد مضى بيانه عن السيوطي في تعارض العرف والشرع.

الشرط الرابع- أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودا وقت إنشائه بأن يكون حدوث العرف سابقا وقت التصرف، ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه سواء أكان التصرف قولا أو فعلا.

قال السيوطي: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.

قال الرافعي: العادة الغالبة تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا، ولا يؤثر في التعليق والإقرار، بل يبقى اللفظ على عمومه فيها، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار، فلأنه إخبار عن وجوب سابق، وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد قبل. ثم ذكر طائفة من الأمثلة (3).

الشرط الخامس- وهو أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 83.

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم 102.

(3)

الأشباه والنظائر للسيوطي / 87.

ص: 81

كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن، واتفق العاقدان صراحة على الحلول، قال العز بن عبد السلام: كل ما يثبت العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح (1).

6 -

وقال السيوطي - في حكم العرف عند معارضته للشرع - " فصل " في تعارض العرف مع الشرع. هو نوعان:

أحدهما أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالسمك، وإن سماها الله لحما ثم ذكر جملة أمثلة، وقال: فيقدم عرف الاستعمال على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف.

والثاني أن يتعلق به حكم فيتقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، ثم ذكر جملة أمثلة، وقال: ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي التخصيص اعتبر خصوصي الشرع في الأصح، فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة إلى آخر الأمثلة (2).

7 -

وقال السيوطي في كيفية إعمال العرف: قال الفقهاء كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرة، وذكر كثيرا من الأمثلة (3).

8 -

بقي أن يقال: هل العرف دليل شرعي مستقل أو لا؟

قال عبد الوهاب بن خلاف: وبالنظر الدقيق في العرف وأمثلته وما قال الأصوليون والفقهاء فيه يتبين أن العرف ليس دليلا مستقلا يشرع الحكم في الواقعة بناء عليه، وإنما هو دليل يتوصل به إلى فهم المراد

(1) القواعد الكبرى 2/ 178.

(2)

الأشباه والنظائر 83 - 84.

(3)

الأشباه والنظائر 88 - 90.

ص: 82

من عبارات النصوص ومن ألفاظ المتعاملين وإلى تخصيص العام منها وتقييد المطلق، ويستند إليه في تصديق قول أحد المتداعيين إذا لم توجد لأحدهما بينة وفي رفض سماع بعض الدعاوى التي يكذبها العرف. وفي اعتبار الشرط الذي جرى به العرف وفي الترخيص بمحظور دعت إليه ضرورة الناس وجرى به عرفهم، وفي أمثال هذا مما يجعل اجتهاد المجتهد أو قضاء القاضي ملائما حال البيئة ومتفقا وإلف الناس ومصالحهم. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين (1).

وأما كلام الفقهاء المعاصرين، فقالوا: كثر التعامل في التأمين وتعارف عليه الناس والعرف مصدر شرعي فيكون التأمين جائزا بناء على قاعدة العرف.

وقد أجاب أبو زهرة عن الاستدلال بالعرف، فقال: أهذا العقد وهو التأمين غير التعاوني قد صار الآن عرفا عاما أو خاصا؟ إننا لو أحصينا عدد المستأمنين بهذا النوع من التأمين نجد نسبتهم بالنسبة لعموم الشعب الإسلامي نسبة ضئيلة جدا لا تسوغ لنا أن نعتبرهم موجدين لعرف.

ثم إن هذا العرف المدعى يصادم أمورا مستنبطة من النصوص، وقد وضحنا هذه الأمور، وإذا قيل: إنها شبهات، نقول قد تكاثفت وكثرت حتى صرنا نحكم معها بأن هذا النوع من العقد لا يتلاءم مع مقاصد

(1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه 126.

ص: 83

الشارع ولا مع ما قرره الفقهاء، بل نقول: إنها تصادم نصا وهو نص الربا، فالربا يحيط بها من كل ناحية (1).

(1) أسبوع الفقه الإسلامي 523.

ص: 84

ن- الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في تعريف الضرورة، ونتبعه ببيان بعض الفقهاء المعاصرين لوجه الاستدلال به.

أما كلام الفقهاء السابقين فقال الجصاص في معرض كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل؛ إما على نفسه أو عضو من أعضائه، فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة (1).

وقال الزركشي والسيوطي: هي- أي الضرورة- بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه عضو (2).

وقال ابن قدامة في كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل (3).

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بالضرورة على جواز التأمين، فقد بينه الأستاذ عبد الرحمن عيسى بقوله: دين الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4).

(1) أحكام القرآن 1/ 151.

(2)

قواعد الزركشي " المنثور في ترتيب القواعد الفقهية " مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق - 8543 -

(3)

المغني 8/ 595.

(4)

سورة البقرة الآية 185

ص: 84

وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1).

وقد بنى العلماء على ذلك قواعد منها " إذا ضاق الأمر اتسع " و " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " و " ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ".

وقد ناط الفقهاء معرفة المشقة التي تجلب التيسير بالعرف فالرجوع إليه فيما شق على الناس وما لا يشق عليهم أمر لا بد منه.

وقد تبين في التأمين أن حاجة الناس إليه قد اشتدت وعظمت، وأنه يشق عليهم جدا ألا يمارسوا عمليات التأمين ليدفعوا بها الكوارث الفادحة التي تقضي على الثروات وتخرب الديار، وإن الاقتصاد الصحيح يحتم على ذوي المتاجر أو المصانع الكبيرة ممارسة عمليات التأمين حفاظا على أموالهم ودفاعا لما قد ينزل بهم من خسائر تبدد ثرواتهم وتخرب العامر من بيوتهم، كل هذا يحققونه بالتأمين لدى شركات التأمين في مقابلة ما يدفعون لهذه الشركات من مال يتضاءل بجانب ما يجنون من ثمرات مع اطمئنان قلوبهم واستقرارها من جهة المحافظة على ثرواتهم، وقال أيضا: بالنسبة للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة.

قال: كذلك يمكن أن يثبت لهذا التأمين الجواز من ناحية أن الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر؛ لأن التأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة قد اشتدت إليه الحاجة وعظمت لما يدرأ من الكوارث وما يخففه منها عن رجال الصناعات والأعمال في المصانع الكبيرة لهذا يشق على الناس في هذه الصناعات والمهن الخطيرة

(1) سورة الحج الآية 78

ص: 85

أن تمنعه من ممارسة هذا النوع من التأمين الذي تطمئن به أفئدتهم، وتستقر قلوبهم على أنفسهم كلا وبعضا حتى يؤدوا أعمالهم فيكون جائزا شرعا دفعا للحرج والعسر. انتهى المقصود (1).

وقال أيضا: أما التأمين ضد الأخطار الشخصية سواء كان تأمينا على الحياة أو على أي جزء من أجزاء الجسم في غير الصناعات والمهن الخطرة فينظر فيه:

فإن كان من نوع التأمين المختلط وهو الذي يجمع بين التأمين والادخار كان جائزا شرعا؛ لأن فيه تشجيعا على الادخار فهو يحقق الصالح العام من الناحية الاقتصادية بشرط أن يتفق طالب التأمين مع الشركة على عدم استغلال أقساط تأمينه في الربا والكسب الحرام، حتى تبرأ ذمة المؤمن له من هذه الناحية التي قد تستوجب الحرمة بطريق التسبب. . . .

أما التأمين ضد الأخطار الشخصية في غير الصناعات والمهن الخطيرة إذا كان تأمينا عاديا، فإنه لا يجوز شرعا؛ لأنه لا يحقق صالحا عاما ولا يترتب على تركه مشقة يقرر العرف أنها لا تتحمل كما أنه لا تدعو إليه حاجة تتصل بالمصالح العامة (2).

وقد أجاب عن ذلك الأستاذ الصديق محمد الأمن الضرير بقوله: " والواقع أن الضرورة بالمعنى الذي يقصده الفقهاء لا تتحقق بالنسبة لعقد التأمين، ولكن مما لا شك فيه أن الناس سيقعون في حرج لو منعنا عقد التأمين بالكلية بعد أن ألفوه وتغلغل في جميع نواحي حياتهما،

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 476 وما بعدها.

(2)

أسبوع الفقه الإسلامي / 478.

ص: 86

فالتأمين وإن لم يكن من ضروريات الناس إلا أنه من حاجياتهم التي يترتب على فقدها الضيق والمشقة، وقد أبيحت كثير من المعاملات التي يقتضي القياس منعها؛ لأن حاجة الناس تدعو إليها. ورغم كل هذا فإني لا أرى إباحة عقد التأمين بوضعه الحالي؛ لأنه لا يصح أن نلجأ إلى استخدام الضرورة أو الحاجة إلا إذا لم نجد سبيلا غيرها " (1).

وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة رحمه الله عن ذلك، فقال: ونحن نقر بهذه الوقائع؛ لأننا لا نحاول إنكار الواقع ولكن لكي نحكم بأن التأمين غير التعاوني أمر ضروري لا بد أن نفرض أنه لا يمكن أن يوجد تأمين سواه؛ لأن الضرورة لا تكون إلا حيث تستغلق الأمور ويتعين المحرم سبيلا للإنقاذ، فهذا الذي يبلغ به الجوع أقصاه ولا يجد إلا الخنزير يأكله فإنه يباح له أكله، ولكن إن وجد طعاما آخر ولكنه دون الخنزير اشتهاء مع أنه طيب حلال لا يعد في حال ضرورة.

والأمر هنا كذلك فإن التأمين الاجتماعي فتح الأبواب، وإن لم يكن قائما أقمناه، وإن كان ضيقا وسعناه، وإذا كان الأفق محدودا وضعنا بين أيدي المفكرين أوسع الآفاق. ويعجبني أن قائدي السيارات في الخرطوم عندما فرض عليهم نظام التأمين كونوا من بينهم جماعة تعاونية تكون هي المؤمنة فيكونون جميعا مستأمنين ومؤمنين حفظ الله لهم إيمانهم، وبارك لهم في رزقهما؛ فهلا دعونا العالم الإسلامي إلى إيجاد نظام تعاوني بدل هذا النظام غير التعاوني الذي لا نزال مصرين على أنه بدعة يهودية.

إنه لا يصح لنا دينا أن نترك أمرا بينا نيرا ضاحيا، ونسير على أمر إن لم يكن حراما فهو مشتبه فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دع ما يريبك

(1) أسبوع الفقه الإسلامي / 464.

ص: 87

إلى ما لا يريبك (1)». ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " دعوا الربا والريبة "(2).

ومن القائلين بجواز التأمين مطلقا الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، إلا أنه لا يرى الاستدلال على جوازه بما استدل به غيره من قياسه على بعض العقود المعروفة، وإنما يراه عقدا مستحدثا قائما بذاته، ونظرا لذلك أوردنا رأيه بدليله بعد كلام المانعين وكلام المجيزين، وفيما يلي ما برر به رأيه.

الوقوف عند أحد جانبي عقد التأمين وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، دون مجاوزة ذلك إلى الجانب الآخر، وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن ولمجموع المؤمن لهم حيث لا يكون المؤمن إلا وسيطا بينهم ينظم تعاونهم جميعا على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل منهم، هو الذي دفع بكثير ممن تصدوا للإفتاء في مشروعية التأمين في الفقه الإسلامي إلى القول بعدم مشروعيته. وتكون فتواهم في هذه الحالة صحيحة؛ لأنه إذا نظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، ومن جهة هذه العلاقة وحدها، لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة أو رهان كما قدمنا، ويكون غير مشروع، لا فحسب في الفقه الإسلامي، بل أيضا في القانون المصري وفي جميع القوانين التي تحرم المقامرة والرهان.

ولكن الجانب الآخر من

(1) خرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم عن الحسن بن علي. وأحمد أيضا عن أنس مرفوعا وموقوفا. والطبراني عن ابن عمر. صححه الترمذي وأبو الجوزاء السعدي. وهو قطعة من حديث طويل ذكر فيه قنوت الوتر.

(2)

أسبوع الفقه الإسلامي / 524 وأثر عمر ذكره الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 94.

ص: 88

عقد التأمين وهو الجانب الذي يجب الوقوف عنده؛ لأنه هو الذي يؤصل التأمين ويحدد طبيعته تنظيما دقيقا بين عدد كبير من الناس معرضين جميعا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارا جسيمة تحقيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون.

وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة، وهي أسس معقدة في أشد الحاجة إلى جهود شركات ضخمة، وسنعرض لها فيما يلي: فالتأمين إذن هو تعاون محمود، تعاون على البر والتقوى: يبر به المتعاونون بعضهم بعضا ويتقون به جميعا شر المخاطر التي تهددهم. فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟

وقد كثرت الفتاوى الشرعية في التأمين، بعضها يحله وبعضها يحرمه، ومن الفتاوى البارزة في تحليله فتوى الأستاذ الإمام محمد عبده في شأن التأمين على الحياة - ثم ذكر فتوى الشيخ محمد عبده وأشار إلى أقوال الأستاذ الزرقا ومناقشة أبي زهرة له وقول برهام محمد عطا الله وأحمد السنوسي وعيسوي أحمد عيسوي، ثم ذكر رأي المانعين أمثال الشيخ ابن عابدين والشيخ محمد بخيت والشيخ أحمد قراعة والشيخ ابن زهرة والأستاذ أحمد إبراهيم، ثم قال بعد ذلك:

وفيما قدمناه من هذه الآراء المختلفة نقف عند المسائل الآتية:

(أ) لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي، فكلاهما يقوم على أساس واحد ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمن. فمن قال بجواز التأمين الاجتماعي وجب أن يقول بجواز التأمين الفردي.

ص: 89

(ب) لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي، فهو لا يشبه عقد المضاربة في شيء، ولا هو كفالة، ولا هو وديعة بأجر، ولا عقد موالاة، ولا يدخل في ضمان خطر الطريق، ولا في الوعد الملزم، ولا في نظام العواقل إلى آخر ما جاء في التشبيهات.

(ج) وإنما التأمين عقد جديد له مقومات وخصائصه، وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويأخذ عليه المحرمون له أنه مقامرة، وفيه غرر، وينطوي على الربا.

(د) أما إن فيه مقامرة، فقد بينا أن عقد التأمين بعيد كل البعد عنها. فهو من الناحية الفنية الاقتصادية ليس بمقامرة، لا بالنسبة إلى المؤمن فهو يأخذ الأقساط من المؤمنين له، ثم يعيد توزيعها عليهم ولا يعرض نفسه لاحتمال الخسارة أو المكسب بأكثر مما يعرض نفسه أي شخص آخر في تجارة مشروعة، ولا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو لا يقامر معتمدا على الحظ والمصادفة، بل على العكس من ذلك تماما يقصد أن يتوقى شر الحظ والمصادفة، ويتعاون مع غيره من المؤمن له على توزيع أضرار ما يبيته الحظ والمصادفة لهما جميعا، ولا يجوز أن نسمي التعاون مقامرة.

(هـ) وأما الغرر، فقد بينا في كتابنا "مصادر الحق في الفقه الإسلامي " أن هناك تطورا ملحوظا في الفقه الإسلامي، في هذه المسألة، وأن أكثر المذاهب تطورا فيها هو مذهب مالك.

فقد بين ابن رشد في عبارة جليلة الأصل عند مالك في ذلك فقال: (والأصل عنده أن من الغرر يجوز لموضع الضرورة) " مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء 3 ص (32 - 33).

ص: 90

(و) وأما الربا، فهذه مسألة لا تقتصر على عقد التأمين، بل تتناول ضروبا كثيرة التعامل، وقد بحثناها بحثا مفصلا، وميزنا بين ربا الجاهلية من جهة وبين ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى، فالأول غير جائز إلا للضرورة، والثاني غير جائز أيضا إلا للحاجة. فإذا قامت الحاجة في نظام اقتصادي معين إلى دفع فوائد ضرورية على رءوس الأموال، كان هذا جائزا ما دامت الحاجة قائمة، وإلا عاد الأمر إلى أصله من عدم الجواز (انظر تفصيل ذلك في مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء ص (196 - 277).

(ز) بقي أن يقال: إن عقد التأمين لا يدخل في العقود المعروفة في الفقه الإسلامي وليس له نظير فيها، وقد وردت هذه العقود على سبيل الحصر، فأي عقد جديد لا يستند إليها يكون غير جائز.

وقد سبق لنا أيضا أن بحثنا هذه المسألة، وقلنا في صددها ما يأتي: " هل العقود في الفقه الإسلامي مذكورة على سبيل الحصر؟ يبدو لأول وهلة أنها كذلك. ففي كتب الفقه لا نجد نظرية عامة للعقد، بل نجد على النقيض من ذلك عقودا مسماة تأتي عقدا بعد عقد على ترتيب غير منطقي، ويختلف هذا الترتيب في كتاب عنه في كتاب آخر، حتى ليظن الباحث أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا هذه العقود المسماة، وأن أي اتفاق لا يدخل تحت عقد من هذه العقود لا يكون مشروعا. ولكن هذه النظرة إلى الفقه الإسلامي نظرة سطحية؛ فإن الباحث يلمح من خلال الأحكام التي يقررها الفقهاء في صدد هذه العقود المسماة إنهم يسلمون بإمكان أن يمتزج عقدان أو أكثر من هذه العقود في عقد واحد،

ص: 91

يجمع بين خصائص العقود التي امتزجت فيه، بل ويلمح أن هناك قاعدة فقهية مسلمة، هي أن المسلمين عند شروطهم، وأن كل اتفاق تتوافر فيه الشروط التي يقررها الفقه الإسلامي يكون عقدا مشروعا. ويكفي أن نشير إلى ما جاء في البدائع في هذا الصدد:

" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «المسلمون عند شروطهم (1)» . فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خص بدليل؛ لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه، وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به. وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلا للتصرف والمحل قابلا وله ولاية عليه (البدائع جزء 5 ص 259). ومن ثم فما ذكره الفقهاء من العقود المسماة، إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنه فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها كانت عقودا مشروعة (مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف الجزء الأول ص 80 - 83)، ويؤخذ من ذلك أن عقد التأمين لا يجوز القول بعدم مشروعيته من ناحية أنه عقد جديد غير معروف في الفقه الإسلامي، وإنما قد يتوهم أن يتسرب إليه عدم المشروعية من ناحية الربا أو من ناحية الغرر، وقد سبق أن نفينا عنه كلا من الناحيتين. اهـ (2).

الرأي الثالث:

رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

(1) خرجه أبو داود وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة والحاكم وصححه. والدارقطني والحاكم عن عمرو بن عوف المزني والحاكم عن أنس، والطبراني عن رافع بن خديج، والبزار عن ابن عمر.

(2)

حاشية على ج من الوسيط ص 1087 - 1090.

ص: 92

فحرم التأمين على الحياة أو بعض أعضاء الجسم كالحنجرة أو الأصابع، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المانعون للتأمين التجاري مطلقا من كونه قمارا، ونوعا من بيوع الغرر، ومتضمنا بيع دراهم بدراهم مثلا نسيئة مع التفاضل، وأباح التأمين على السيارات من الحوادث التي تصاب بها وما تصيب به غيرها من الأضرار في النفوس والأموال، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المجيزون للتأمين التجاري مطلقا من كونه من باب التعاون والوفاء بالعقود، وقد أمر الله بذلك، وكون الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ولم ينهض دليل على منع عقود التأمين، وقاسه على ضمان الحقوق وضمان المجهود، ومن كونه مصلحة ولشدة حاجة الناس إليه، وناقش كل أدلة مخالفيه بما ناقش كل من الفريقين السابقين مخالفه فلذا اكتفت اللجنة بما تقدم من استدلال الفريقين، ومناقشتها خشية الإطالة بما لا جدوى فيه.

وسلك جماعة في التفصيل طريقا أخرى هي التفريق بين ما كان من عقود التأمين خاليا من الربا فيجوز، وما كان منها مشتملا على الربا إلا إذا دعت الضرورة إباحة فيرخص فيه مؤقتا حتى تتاح الفرصة للتخلص مما فيه الربا، وقد تقدم استدلال المانعين وجه اشتمال عقود التأمين على الربا، ومناقشة المجيزين لذلك فلا نطيل بذكره خشية التكرار.

وتردد بعض العلماء المعاصرين في الحكم على التأمين التجاري بحل وبحرمة، ورأى أن هذه المسألة عامة ولها أهمية كبرى فينبغي أن لا تترك لفرد يفتي فيها، بل يجب على علماء العصر أن يوفروا جهودهم ويكدسوها لبحثها، وأن يتعاونوا على حل مشاكلها لينتهوا من بحثهم إلى رأي واضح يذهب ببلبلة الأفكار ويقضي على اختلاف الآراء أو يحد من كثرتها ويخفف من شدتها. ومن نظر في هذا لم يجد فيه حكما موافقا

ص: 93

أو مخالفا لما تقدم، وإنما هو نصيحة لعلماء العصر ومشورة عليهم بما يجب أن يعملوه وإرشاد إلى الطريق التي يجب أن يسلكوها لحل المشكل والوصول إلى نتيجة مرضية.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في المعاقد حلالها وحرامها تتعلق بما سبق من الأدلة رأينا أن نتبعها ما تقدم؛ لما تشتمل عليه من زيادة البيان.

قال رحمه الله تعالى: فصل. القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها.

والأصل في ذلك: أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا، وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق.

وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا، والميسر، فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة، وسور آل عمران، والروم، والمدثر، وذم اليهود عليه في سورة النساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه، فنهى صلى الله عليه وسلم بيع الغرر، كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والغرر: هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن

ص: 94

حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين، ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر.

وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد، ولهذا قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2)، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرب عند الناس، وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألف حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف، وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى الأجل من هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج، بخلاف الميسر، فإن المظلوم فيه غير معين، ولا محتاج إلى العقد، وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها، والربا فيه ظلم محقق لمحتاج، وبهذا كان ضد الصدقة، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

سورة البقرة الآية 279

ص: 95

عليهم إعطاء الفقراء، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه، فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى، والغريم محتاج إلى دينه، فهذا من أشد أنواع الظلم، ويعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآخذ، وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة، وشاهديه وكاتبه، لإعانتهم عليه.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد؛ لإفضائها إلى الفساد المحقق، كما حرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيره مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى؛ إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل: كون الدرهم صحيحا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك، ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما، فلم يروا به بأسا، حتى أخبرهم الصحابة الأكابر- كعبادة بن الصامت وابن سعيد وغيرهما- بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل.

وأما الغرر: فإنه ثلاثة أنواع. إما المعدوم؛ كحبل الحبلة، وبين السنين، وإما المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق، وإما المجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه أو قدره؛ كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي، أو بعتك عبيدا. فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته؛ كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي، أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك، ففيه خلاف مشهور، وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال، كقول الشافعي الجديد، والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روى عن أحمد: لا خيار له. والثالثة

ص: 96

- وهي المشهور- أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة، وهو قول مالك.

ومفسدة الغرر أقل من الربا؛ فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجات منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار بالجملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، فإنه يصح مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور؛ كمالك والشافعي وأحمد، وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.

وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل. فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره.

ولما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص، فلم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب، على اختلاف القولين للشافعي وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب.

إذا تبين ذلك: فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمع لذلك كله، ولهذا وافق أحمد كل واحد من

ص: 97

التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته، ولهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب. فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال له بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.

وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود.

فالأول مسألة " مد عجوة " وضابطها: أن يبيع ربويا بجنسه، ومعها أو مع أحدهما ما ليس من جنسه، مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر، حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار.

فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة " مد عجوة " بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما، وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا. وأما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد، والمنع: قول مالك والشافعي، والجواز: قول أبي حنيفة، وهي مسألة اجتهاد.

وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي، كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن: فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز.

والنوع الثاني من الحيل: أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير

ص: 98

مقصود، مثل أن يتواطأ على أن يبيعه الذهب بخرزة، ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب، أو يواطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا، ثم يبيعه المبتاع لمعاملة المرابي، ثم يبيعه المرابي لصاحبه، وهي الحيلة المثلثة، أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك، مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين، أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك.

فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال:«لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (1)» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو من جنس حيل اليهود، فإنهما إنما استحلوا الربا بالحيل، ويسمونه المشكند، وقد لعنهم الله على ذلك.

وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها (2)» ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أدخل فرسا بين فرسين- وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس قمارا، ومن أدخل فرسا بين فرسين- وقد أمن أن يسبق- فهو قمار (3)» وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (4)» .

ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة،

(1) سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2223)، صحيح مسلم المساقاة (1582)، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257)، سنن ابن ماجه الأشربة (3383)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 25)، سنن الدارمي الأشربة (2104).

(3)

سنن أبو داود الجهاد (2579)، سنن ابن ماجه الجهاد (2876)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 505).

(4)

رواه البخاري ومسلم بنحوه من حديث عبد الله بن عمر.

ص: 99

ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك، وذكرنا ما يحتج به من يجوزها، كيمين أبي أيوب، وحديث تمر خيبر، ومعاريض السلف، وذكرنا جواب ذلك (1). ومن ذرائع ذلك: مسألة العينة، وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة. وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه حتى تراجعوا دينكم (2)» ، وإن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني، سدا للذريعة، ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ. ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالا، ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا، وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه.

ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق. ففي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.

ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.

وأما الغرر: فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي، أما الشافعي: فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من

(1) في كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل.

(2)

سنن أبو داود البيوع (3462)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 84).

ص: 100

الفقهاء، مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز، مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر، فخرج ذلك له قولا، واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الإصطخري، وروي عنه أنه ذكر له: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحب حتى يشتد (1)» فدل على جواز بيعه بعد اشتداده، وإن كان في سنبله، فقال: إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا، وكذلك ذكر أنه رجع عن المولى بالمنع.

قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقال الشافعي مرة: لا يجوز، ثم بلغه حديث ابن عمر، فرجع عنه وقال به، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به.

وذكر بعض أصحابه قولين. وأن الجواز هو القديم، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة، متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف، حتى اشترط فيما في الذمة- كدين السلم- من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره، ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود، من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة، وصلح أهل الهدنة، وجزية أهل الذمة: ما اشترطه في البيع عينا ودينا، ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها، أو يشترط لها شروط أخر.

وأما أبو حنيفة: فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، ويجوز جهالة المهر كجهالة مهر المثل،

(1) سنن الترمذي البيوع (1228)، سنن أبو داود البيوع (3371)، سنن ابن ماجه التجارات (2217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 250).

ص: 101

ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة، مع الخيار؛ لأنه يرى وقف العقود، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك، ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد.

وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق. وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا.

فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك.

وأما مالك: فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره، بحيث يحتمل في العقود، حتى يجوز بيع المقاتي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر والفجل ونحو ذلك.

وأحمد: قريب منه في ذلك، فإنه يجوز هذه الأشياء، ويجوز- على المنصوص عنه- أن يكون المهر عبدا مطلقا، أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق، كأبي الخطاب، ومنهم من يوافق الشافعي، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع، وكأبي بكر عبد العزيز، ويجوز- على المنصوص عنه- في فدية الخلع أكثر من ذلك، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر، كقول مالك مع اختلاف في مذهبه، وليس هذا موضعه، لكن المنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع

ص: 102

المغيب في الأرض، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع، وقال: هذا الغرر شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ والمنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة، ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة، كقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن ذلك غرر، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب، كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك، كقول مالك.

وقال الشيخ أبو محمد: إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله، كالبصل المبيع أخضر، والكراث والفجل، أو كان المقصود فروعه. فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض؛ لأن الحكم للأغلب، وإن تساويا لم يجز أيضا؛ لأن الأصل اعتياد الشرط، وإنما سقط في الأقل التابع.

وكلام أحمد يحتمل وجهين، فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض؟ قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه، هذا الغرر، شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ فعلل بعدم الرؤية.

فقد يقال: إن لم يره كله لم يبع. وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد.

وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها. كما هو العادة غالبا.

فقال قوم من المتأخرين: يجوز ذلك؛ لأن بيع أصول الخضروات. كبيع الشجر، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز. فكذلك هذا. وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

ص: 103

وقال المتقدمون: لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه. وهو إنما نهى عما يعتاده الناس، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده. فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز، وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز، وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه، فإن كانت الأرض هي المقصود: جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا. وإن كان المقصود هو الثمر والزرع، فاشترى الأرض لذلك لم يجز، وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر، فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضروات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر.

وقد خرج ابن عقيل وغيره وجهين:

أحدهما: جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره. ولا شك أنه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا: لا يصح بيع ما لم يره. فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب.

والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا، كمذهب مالك، إلحاقا لها بلب الجوز. وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين:

أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرفون غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد.

ص: 104

الثاني: أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه. فإنه إذا لم يبع حتى يقلع، حصل على أصحابه ضرر عظيم. فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه. وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر.

وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب، أو البائع إلى أكل الثمر، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله.

وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها. وإن كان فيها ما لم يصلح بعد.

وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا: إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود، وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه.

والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر؛ لأنه يجب على البائع سقي الثمرة، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ، فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد، لا ما كان من موجبات الملك.

ص: 105

وأيضا: فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق؛ هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين:

أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه، وهي اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا.

والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع.

وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعهما.

ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ: بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير، كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح، ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير، كأبي الخطاب وجماعات، وهو قول مالك والشافعي والليث، وزاد مالك، فقال: يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة. وحكوا ذلك رواية عن أحمد.

واختلف هؤلاء: هل يكون صلاح النوع- كالبرني من الرطب - صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: المنع، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد. والثاني: الجواز، وهو قول أبي الخطاب. وزاد الليث على هؤلاء، فقال: صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار. ومأخذ من جوز شيئا من ذلك: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين، ومن سوى بينهما، فإنه قال:

ص: 106

المقصود الأمن من العاهة، وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح. ومأخذ من منع ذلك: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يبدو صلاحها (1)» يقتضي بدو صلاح الجميع.

والغرض من هذه المذاهب: أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه، فقياس قوله: جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها. والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر؛ إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق، فإنه أمر لا ينضبط. فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت.

والغرض من هذا: أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل، كما قد يروى عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين، فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت، ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر، وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد، فقالت طائفة منهم أبو الخطاب: لا يخرج، وقال الجمهور - كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله، ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا، وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا له، وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة

(1) صحيح البخاري الزكاة (1486)، صحيح مسلم البيوع (1534)، سنن أبو داود البيوع (3367)، سنن ابن ماجه التجارات (2214)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 123)، موطأ مالك البيوع (1303)، سنن الدارمي البيوع (2555).

ص: 107

لا يفرق بينهما شرعا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنتم أعلم بأمر دنياكم. فأما ما كان من أمر دينكم فإلي (1)» .

وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلماء قد يسمى تناقضا أيضا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام. وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام، فقد تناقض قولاه. وهو مصيب في كليهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب. وإنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده.

وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكما في الباطن، علمه في إحدى المقالتين، ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه، ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين.

هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد. وأما أهل الأهواء والخصومات، فهم مذمومون في مناقضتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان:

(1) خرجه مسلم في صحيحه عن أنس وعائشة رضي الله عنهما.

ص: 108

أحدهما: لازم قول الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.

والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه. وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.

ص: 109

وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله. وما لا يرضاه فليس قوله. وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه. فإذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها. وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها.

فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكونه ملتزما لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين.

ص: 109

وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق الخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء. فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (1)، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين، شبيها بالضالين.

فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه. وثم قسم آخر- وهم غالب الناس- وهو أن يكون له هوى،

(1) سورة النجم الآية 23

ص: 110

وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» . فالمجتهد المحض مغفور له، أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى: فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية.

وأكثر المتأخرين- من المنتسبين إلى فقه أو تصوف- مبتلون بذلك. وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما: هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم، فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل، ولا يمكنه ذلك، ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة يذكرونها. فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها، وإنما هي من جنس اللعب. ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وكما قال تعالى (4: 160) {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في

(1) سورة النساء الآية 160

ص: 111

التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما أوجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: (33: 72){وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1).

وأصل هذا: أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان، كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات: كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره، لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه:(5: 91){إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) فأخبر سبحانه: أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب، فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك، وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع أنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام- عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك:«فإما لا، فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر (3)» ، كالمشورة لهم

(1) سورة الأحزاب الآية 72

(2)

سورة المائدة الآية 91

(3)

مسند أحمد بن حنبل (2/ 77)، سنن الدارمي البيوع (2555).

ص: 112

يشير بها، لكثرة خصومتهم واختلافهم. وذكر خارجة بن زيد: أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر. رواه البخاري تعليقا، وأبو داود إلى قوله: خصومتهما " وروى أحمد في المسند عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحهما» . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون: أصابنا الدمان والقشام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تبايعوها حتى يبدو صلاح (1)» .

فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر، وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس، وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر أو تصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (2)» ، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر حتى يزهو (3)» ، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك ".

قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة (4)» من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط.

فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكل المال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون.

(1) سنن أبو داود البيوع (3372)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 190).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2199)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن النسائي البيوع (4526)، موطأ مالك البيوع (1304).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2197)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن النسائي البيوع (4526)، سنن ابن ماجه التجارات (2217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 161)، موطأ مالك البيوع (1304).

(4)

صحيح البخاري البيوع (2208)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن النسائي البيوع (4526)، سنن ابن ماجه التجارات (2217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 250)، موطأ مالك البيوع (1304).

ص: 113

وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته (1)» ، فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا.

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، أو أكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى.

ولهذا كانت مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (2)» ، وفي رواية لمسلم عنه:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح (3)» والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث- وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه- أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن

(1) سنن النسائي الخيل (3578)، سنن أبو داود الجهاد (2513)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 148)، سنن الدارمي الجهاد (2405).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1554)، سنن النسائي كتاب البيوع (4528)، سنن أبو داود البيوع (3470)، سنن ابن ماجه التجارات (2219)، سنن الدارمي البيوع (2556).

(3)

صحيح مسلم المساقاة (1554)، سنن النسائي كتاب البيوع (4528)، سنن أبو داود البيوع (3470)، سنن ابن ماجه التجارات (2219)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 309)، سنن الدارمي البيوع (2556).

ص: 114

التخلية بين المشتري وبينه قبض، وهذا على أصل الكوفيين أمشى؛ لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم: القبض الناجز بكل حال، وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، ويفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا. ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه، وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ (1)» ، فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا، فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق. فكذلك في البيع.

وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء، وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله.

فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها. وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة (2)» ، وفي لفظ لمسلم عنه «نهى عن بيع النخل حتى تزهي، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري (3)» وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض (4)» .

فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما. فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد، وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة. فإن هذا لا سبيل إليه؛ إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين (68: 17، 18) {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (5){وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (6)

(1) صحيح البخاري البيوع (2199)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن النسائي البيوع (4526)، موطأ مالك البيوع (1304).

(2)

صحيح مسلم البيوع (1534)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 51)، سنن الدارمي البيوع (2555).

(3)

صحيح مسلم البيوع (1535)، سنن الترمذي البيوع (1227)، سنن النسائي البيوع (4551)، سنن أبو داود البيوع (3368)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 51).

(4)

سنن أبو داود البيوع (3369)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 458).

(5)

سورة القلم الآية 17

(6)

سورة القلم الآية 18

ص: 115

وما ذكره في سورة يونس في قوله: (10: 24){حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (1) وإنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر؛ إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح. وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب.

فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته.

ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه.

وأيضا: ففي صحيح مسلم عن أبي رافع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء (2)» .

ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون

(1) سورة يونس الآية 24

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1600)، سنن الترمذي البيوع (1318)، سنن النسائي البيوع (4617)، سنن أبو داود البيوع (3346)، سنن ابن ماجه التجارات (2285)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 390)، موطأ مالك البيوع (1384)، سنن الدارمي البيوع (2565).

ص: 116

من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث، خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛ لأن القرض موجب لرد المثل، والحيوان ليس بمثلي، وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال.

وفيه دليل على أن يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة، كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين، ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة. وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه: هو التقريب، وإلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان، لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي، وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة.

وأيضا: فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد. إحداهما: يجوز كقول مالك، وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه.

وأيضا: فقد دل الكتاب في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1)، والسنن في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء: على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق. وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي. وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي

(1) سورة البقرة الآية 236

ص: 117

صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن بيع اللمس والنجش وإلقاء الحجر (1)»، فضمت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل على الفرق بينهما. وسببه أن المعقود عليه في النكاح- وهو منافع البضع- غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فلذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة. فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه. ولذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي. قال لهم:«إني قائم فخاطب الناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس، فقال: إني رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا (2)» ، فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة، إلى أجل متقارب غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح، ويخرجون منها. واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد.

فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم. وعن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة (3)» رواه أبو داود.

(1) صحيح مسلم البيوع (1512)، سنن ابن ماجه التجارات (2170)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 59)، سنن الدارمي البيوع (2562).

(2)

سنن النسائي كتاب الهبة (3688)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 218).

(3)

سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3041).

ص: 118

فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس، غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون، وقد لا يكون.

فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال- كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب - ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه ضرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده. اهـ (1).

(1) القواعد النورانية ص 115 - 137.

ص: 119

" خلاصة الأمر الثاني "

2 -

الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم، مع المناقشة.

تمهيد:

يتوقف إبداء الحكم في التأمين على أمرين، الأول تصويره، لمعرف واقعه، وقد تقدم ذلك في الأمر الأول.

الثاني معرفة المصادر الشرعية التي يرجع إليها في الحكم عليه، من نصوص عامة، أو مقاصد شرعية، أو قواعد فقهية عامة، أو نظائر جزئية من الفقه الإسلامي يقاس عليها، ومع معرفة الأمرين قد يقع الاختلاف في الحكم عليه بين العلماء، إما لاختلاف نظرهم في شيء يرجع إلى تفصيل الأمر الأول، ككون الغرض الأصلي منه التجارة والربح أو التعاون على الخير، وكونه عقدا احتماليا أو غير احتمالي، وإما لاختلاف نظرهم في تطبيق النصوص العامة، أو في إدراجه تحت قاعدة شرعية عامة، أو في إلحاقه بنظير جزئي بعد تسليم حكم النظير، ولهذا اختلف الباحثون العصريون في حكمه أو في حكم صور منه وفيما يلي بيان ذلك مع الأدلة والمناقشة:

الأول: اختلف الباحثون من المعاصرين ومن سبقهم في حكم التأمين التجاري، فمنهم من قال بتحريمه مطلقا، ومنهم من قال بجوازه مطلقا، ومنهم من فصل فحرم بعض صوره، وأباح منه صورا أخرى، مع اتفاق من اطلعنا على كلامه من الكاتبين المعاصرين على جواز ما يسمى بالتأمين التعاوني أو التبادلي.

ص: 120

وقد يقال: من أن ما يسمى بالتأمين التبادلي حرام؛ لأنه ربا، بناء على توسع في تطبيق القاعدة المشهورة "كل سلف جر نفعا فهو حرام"، فإن كل مشترك يعتبر مسلفا بالنسبة لمن أصابه الحادث، وهو ينتظر أن يعود إليه نفع من رصيد الاشتراك إن قدر أن ينزل به حادث، فالقصد إلى الانتفاع بالرصيد محقق عند دفعه قصد الاشتراك ولولا ذلك ما اشترك، وسواء انتفع في المستقبل بالفعل أم لم ينتفع.

الثاني: أدلة هذه الأقوال مع المناقشة:

ص: 121

1 -

أدلة القائلين بمنع التأمين التجاري مطلقا:

أ- استدلوا بأن عقد التأمين من عقود المعاملات المالية الملزمة، على ما عرف من نظام التأمين وهي مشتملة على الغرر، فكانت ممنوعة شرعا، وبيانه من وجهين:

الأول: إنها عقود يلتزم فيها كل من المتعاقدين بعوض مالي للآخر، فهي عقود معاوضة مالية، ويقصد كل منهما الربح، ولذا يقوم المؤمن بالإحصاء، ويحتاط بالشرط ونحوها ليربح من وراء جملة المستأمنين غالبا، وإن خسر بالنسبة لبعض العقود، والمستأمن يقصد إلى الأمان بضمان المؤمن مبلغ التأمين له، فهو إذن عقد تجاري يقصد منه الربح، وإذا كان عقدا تجاريا ملزما لكل من المتعاقدين بما التزم به. من العوض المالي حرم فيه الغرر بخلاف عقود المعاون والتبرعات، فإنها ليس فيها مغالبة ولا قصد إلى ربح مادي فلا مخاطرة فيها أو لا يضر فيها الغرر والمخاطرة.

الثاني: أنه عقد احتمالي كما اعترف به رجال التأمين، وذكروه في خصائصه، وذلك لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي وما يأخذ، ولا مدى كسبه أو خسارته حيث إنه معلق على

ص: 121

أمر غير محقق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله في المستقبل، فكان من عقود الغرر.

ونوقش أولا: بأن عقود التأمين ليست من عقود المعاوضة التجارية التي يقصد بها الربح حتى يكون ما ادعى فيها من الغرر موجبا للتحرز، وإنما هي عقود تعاونية لما فيها من المساعدة على تكوين رءوس الأموال، وإنما الثروات، والنهوض بالمشروعات وتحقيق الأمن للأسر، والإنقاذ من الشدائد عند نزول الكوارث، إلى غير هذا مما يعد من مزايا التأمين. وأجيب بأنها مجرد دعوى يردها واقع عقود التأمين وما ذكر في خصائصها مما أشير إليه في الاستدلال فهي عقود معاوضة مالية رائدة الكسب، وباعثها الربح، وحاميها احتياط شركات التأمين لأثرتهم بالاحتياط بالنظم والشروط والخداع والتغرير، وليس للمستأمن عند التعاقد إلا التسليم لما في وثائق التأمين، ولذا سميت عقود إذعان، وفسرت عند التقاضي لمصلحة المستأمن، ووقفت الحكومات منها موقف المدافع عن المستأمن، وما ينشأ عنها من التعاون فهو أمر ثانوي بالنسبة إلى الأصل فيها من أنها عقود تجارية القصد الأول منها الكسب عن طريق طابعه التغرير والخداع.

ونوقش ثانيا: بأنها على تقدير كونها عقودا تجارية يقصد منها الربح لا غرر فيها؛ لأن كلا المتعاقدين قد دخل على شروط معلومة له وقت العقد ورضي بها، وكل منهما كاسب، فالمستأمن كاسب على كل حال، تحقق الخطر أم لم يتحقق، والمؤمن كاسب على كل حال بالنسبة لما يربحه من جملة المستأمنين.

وأجيب بأن المستأمن قد يدفع الأقساط كلها ولا يعود إليه شيء، وذلك عند السلامة من الخطر، وقد يدفع قسطا واحدا ويعود إليه مبلغ

ص: 122

التأمين، ويكون أضعاف القسط الذي دفعه، كما في التأمين على الحياة، وأما المؤمن فهو مخاطر مخاطرة فاحشة بالنسبة لكل عقد بانفراده، فإنه قد يخسر خسارة فادحة بدفعه لجميع مبلغ التأمين عند تحقق خطر الموت مثلا، بعد تسديد المستأمن قسطا واحدا، ولا يبيح له اقتحام المخاطرات في العقود الفردية ربحه الغالب من مجموع عقود التأمين، فإن كل عقد من عقود التأمين مستقل عن الآخر بالنسبة للحكم عليه بحل أو حرمة.

ونوقش ثالثا: بأن عقود التأمين على تقدير تحقق الغرر فيها فليس كل غرر في العقود المالية محرما، إنما المحرم منها ما كان فاحشا متجاوزا حدود التسامح، بحيث يعتمد على مجرد الحظ في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل مثلا، فإذا بلغ هذا المبلغ من المخاطرة لم يكن ما دخل فيه من عقود المعاملات مباحا، ولا أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، يؤيد هذا ما بين به النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن الغرر من بيع المضامين والملاقيح وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة، وما أجمع عليه من تحريم بيع السمك في الماء والطير في الهواء، وما إلى ذلك.

أما إذا كان الغرر يسيرا فلا يدخل في النهي عن بيع الغرر؛ إذ قلما تخلو منه تصرفات الناس ومعاملاتهما في تجارتهم وإجاراتهم وصناعاتهم، ولذا أجازه العلماء وتسامحوا فيه، وإلا لضاقت دائرة الحلول ووقع الناس في حرج.

وأجيب: بأن العلماء قسموا الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية وعدم تأثيره فيها ثلاثة أقسام، غرر كثير يفسد عقود المعاوضات إجماعا؛ كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وغرر يسير لا يفسدها إجماعا؛ كبيع الجزر والفجل واللوز والجح دون الوقوف على ما في جوفها بكسر وحفر مثلا، وغرر متوسط بينها؛ كبيع المعين على الوصف

ص: 123

دون رؤية، فهذا متردد بينهما لأخذه بشبه من كل منهما، ولذا كان مثار خلاف بين العلماء في الحكم بالتسامح فيه وفي اعتباره مؤثرا في العقود.

ولا شك أن غرر عقود التأمين من النوع الأول؛ لأن الخطر ركن من أركانها، وعنصر من عناصرها كما تقدم بيانه في أركان التأمين وعناصره.

ب- واستدلوا بأن عقد التأمين ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين، ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة بما يعطي وما يؤخذ أو برفعهما من جانب أو من الجانبين كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (1) الآيتين.

ونوقش بمنع كونه قمارا؛ لأن التأمين جد، وفيه تبادل المنافع من الجانبين مع وثوق كل من المؤمن والمستأمن من الوصول إلى الكسب والانتفاع، بخلاف القمار فإنه لعب ولهو، واقتحام لضروب من المخاطرة وجناية قد تأتي على المال كله، وقد يجاب بأن في التأمين أيضا اقتحاما للمخاطر، وعدم وثوق بقدر ما يصل إلى المستأمن أو المؤمن من الكسب والانتفاع أو زمن وصوله فكان التأمين قمارا أو في معناه فيحكم له بحكمه، ثم ليس كل ما فيه كسب أو انتفاع مشروعا حتى ترجح منفعته مضرته ويغلب خيره لشره.

(1) سورة المائدة الآية 90

ص: 124

جـ- واستدلوا بأن الربا أصيل في عقود التأمين، لا تنفك عنه إلا بالقضاء على عقوده نفسها والتخلص منها إلى بديل يرتفق به دونها، وإلى جانب ما فيها من ربا أصيل معاملات ربوية أخرى طارئة، وبيان ذلك:

الأول: إن المستأمن يدفع ما عليه من العوض المالي الربوي كله أو أقساطا، حسب مقتضى العقد ليأخذ المقابل من المؤمن بعد زمن أو يتحمله عنه إذا وقع الخطر، وهذا هو ربا النسأ المحرم بالنص والإجماع، ولا يمكن الانفكاك منه إلا بالتخلص من عقود التأمين نفسها؛ لأنه أساسها الذي لا يكون عقد التأمين إلا به.

الثاني: فيه ربا الفضل صريحا أو حكما للشك في التماثل بين ربويين، وربا الفضل محرم بالنص والإجماع، ومن روى عنه من الصحابة جوازه، فقد رجع عنه بعد مناظرة الصحابة وإطلاعه على نص التحريم.

الثالث: إن شركات التأمين تستغل رصيدها في معاوضات ربوية، وإن المستأمن يعود إليه مبلغ التأمين مع فائدة ربوية بعد انتهاء مدة التأمين دون حصول الخطر المؤمن منه.

ونوقش بأن موضوع البحث نفس عقود التأمين التي أبرمت بين الشركة والمستأمن لا ما تقوم به شركات التأمين في استثمار رصيدها استثمارا ربويا، فالدليل في غير محل النزاع، وأما ما يأخذه المستأمن من الفائدة الربوية في بعض صور التأمين فليس من أركان التأمين ولا لازما له، بل من الشروط التي يمكن التخلص منها باشتراط عدم الفائدة أو بترك اشتراطها على الأقل.

وأجيب: بأنه إن أمكن التخلص من الوجه الثالث من وجوه الاستدلال فلا يمكن التخلص من الاستدلال بالوجه الأول والثاني إلا بترك التأمين التجاري نفسه.

ص: 125

د - واستدلوا بأن التأمين من قبيل الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة، وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، ومن هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فهش لذلك وأعجبه (1). وأقر الصديق رضي الله عنه على ما كان بينه وبين مشركي العرب من المراهنة بشأن حرب كانت بين الروم والفرس (2). ولهذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان في ثلاثة بقوله:«لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (3)» . فما كان في معنى الثلاثة مما فيه نصرة الإسلام بالسلاح أو العلم والبرهان جاز، وليس التأمين من ذلك.

ونوقش ذلك بما تقدم من مناقشة الاستدلال على منع التأمين بأنه قمار، وأجيب عنه أيضا بما تقدم من الجواب عن هذه المناقشات هناك، فلا نطيل بالإعادة خشية كثرة التكرار.

هـ- واستدلوا بعموم النهي عن أكل الأموال بالباطل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) قالوا: إن عقود التأمين تتضمن الغرر والقمار والربا وأخذ مال الغير في المعاوضات التجارية بلا مقابل، فكان من أكل أموال الناس بالباطل، فدخل في عموم النهي في الآية.

ونوقش بأنه لا يدخل في عموم النهي حتى يقوم دليل تفصيلي على منعه؛ لأن أكل الأموال بالباطل كلمة مجملة. وأجيب بما تقدم تفصيلا من

(1) خرجه أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه.

(2)

خرجه الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

خرجه أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة.

(4)

سورة النساء الآية 29

ص: 126

الأدلة الدالة على اشتماله على الربا والغرر والقمار وغيرها من المحظورات، فكان داخلا في عموم النهي في هذه الآية وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة.

وواستدلوا بأن في عقود التأمين الإلزام بما لا يلزم شرعا، وبيانه أن المؤمن لم يحدث الخطر المؤمن منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفع المستأمن له، فكان حراما؛ لما فيه من تضمين من لا يضمن، وأيضا فيها أن المؤمن يأخذ مال المستأمن في عقود معاوضات مالية تجارية دون أن يبذل عملا للمستأمن.

ونوقش بأن المؤمن التزم بالضمان حين العقد برضاه وعن طيب نفس منه، فألزم بما التزم ولا غضاضة في ذلك؛ لوجود نظير له وهو الكفالة، وأجيب بالفرق فإن المؤمن لم يلتزم بالضمان تبرعا منه ورغبة في فعل المعروف، وإنما رغب طمعا في الكسب المادي، وحرصا على تملك ما بذله المستأمن له من العوض، فليس مثل الكفالة التي هي محض معروف وإعانة على سبب بعث الثقة في نفس المضمون له دون مقابل مادي يعطاه.

ص: 127

2 -

أدلة القائلين بجواز التأمين التجاري مطلقا.

أ- استدلوا بقياس عقود التأمين على عقد ولاء الموالاة، وفسروه بأن يقول شخص مجهول النسب لآخر: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت وترثني إذا أنا مت، أو أن يتفق شخص من غير العرب قد أسلم مع عربي مسلم على أن يلتزم العربي بالدية إذا جنى مولاه، ويلتزم غير العربي أن يرثه مولاه العربي إذا لم يكن له وارث سواه، ووجه الشبه بينه وبين

ص: 127

التأمين أن العربي يتحمل جناية غير العربي بعقد الموالاة مقابل إرثه، والمؤمن يتحمل جنايات المستأمن نظير ما يدفعه من أقساط التأمين، فالمؤمن نظير المسلم العربي في تحمل المسئولية، والمستأمن نظير المولى المسلم من غير العرب فيما يبذل من أقساط أو إرث، وقد صحح الحنفية عقد ولاء الموالاة، وأثبتوا به الميراث، وعقود التأمين وثيقة الصلة وقوية الشبه به فتخرج عليه ويحكم لها بحكمه وهو الجواز.

ونوقش بما يأتي:

الأول: بأن عقد ولاء الموالاة وإن كان معمولا به بالنسبة للنصرة ونحوها فهو مختلف في نسخه وأحكامه بالنسبة للإرث به، والأدلة الصحيحة تشهد لنسخ الإرث به؛ فلا يصح التخرج عليه.

والثاني: بأن من شرط القياس أن يكون المقيس عليه منصوصا أو مجمعا عليه وإلا فللمخالف في الفرع أن يمنع حكم الأصل فلا يكون القياس مفيدا في إلزام المخالف حكم الفرع، ثم هذا يتوقف على قول الحنفية بتحمل المولى جناية مولاه بعقد الموالاة، فهل الحنفية يقولون بذلك حتى يتم الشبه والتخرج على مذهبهم؟ ولم يبين المستدل ذلك.

والثالث: بوجود الفارق؛ فإن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه إلى التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع، وشتان ما بين عقد يكون المتعاقد به كفرد من الأسرة وبين عقد لا يحس فيه كل من المتعاقدين بشيء من العاطفة الإنسانية والإخاء الإسلامي نحو الآخر ولا يتحسس كل منهما عن أحوال صاحبه إلا تحسسا تجاريا ليس لخالص مودة أو صدق إخاء، وإنما هو من خشية الإفلاس أو الغرامة عند

ص: 128

العطب، فطابع هذا العقد التكالب على المال، والحرص الممقوت على جمعه من طرق شعارها المخاطرة ودثارها المقامرة فكيف يقاس بعقد عماده الإحسان وإسداء المعروف.

والرابع: بأن هذا الاستدلال، على تقدير تسليمه لا يدل إلا على جواز فرع من فروع التأمين وصورة من صوره، وهي التأمين ضد المسئولية، والمدعي جواز التأمين مطلقا، فلا مطابقة بين الدليل والدعوى.

ب- استدلوا بقياس عقود التأمين على الوعد الملزم عند المالكية، وبيانه أن يعد إنسان غيره بقرض أو تحمل خسارة أو إعارة كتاب أو دابة ونحو ذلك مما ليس واجبا عليه في الأصل، ونقلوا عن المالكية في حكم المسألة أربعة أقوال:

الأول: لزوم الوفاء مطلقا فيقضي به.

والثاني: عدم اللزوم مطلقا فلا يقضي به.

الثالث: اللزوم إذا ذكر للعدة سبب وإن لم يباشر الموعود ما وعد من أجله.

الرابع: إذا ذكر لها سبب وباشر الموعود ما وعد من أجله، ونقلوا عنهم أن الراجح هو الرابع. قالوا: فيمكن قياس عقود التأمين على ذلك. فيقال: إن المؤمن قد التزم لكل مستأمن ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل أضرار الخطر المؤمن منه، كما لو التزم إنسان أن يعوض غيره عن خسارته في شيء قد أمره ببيعه فباعه بخسارة، فإنه يجب عليه الوفاء بما التزم عند المالكية؛ لأنه عدة على سبب باشره.

ونوقش بما يأتي:

الأول: أنه قياس على أصل مختلف فيه، وهو ممنوع لما تقدم بيانه.

والثاني: بأنه قياس مع الفارق، فإن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا أو

ص: 129

من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين؛ فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة أو الغرر، فشتان ما بين حقيقة العقدين، وما يقصد بكل منهما.

والثالث: أنه على القول الراجح مما تقدم إنما وجب الوفاء وقضي به؛ لأن الوعد هو الذي جرأ الموعود على الدخول في السبب ولولا وعده ما باشره، فإذا لم يف له بوعده كان مغررا به موقعا له في مشاكل ومضار كان في عافية منها، فالإلزام بالوفاء للتغرير بالموعود، لا لعوض بذل.

والرابع: أنه على تقدير أن تكون عقود التأمين وعودا، فالفارق بين الوعدين أن ما ذكره المالكية وعد بمعروف محض فكان الوفاء به واجبا، بخلاف الوعود المزعومة في عقود التأمين؛ فإنها التزامات منكرة لما تقدم، فكان التخلص منها واجبا والمضاء فيها حراما.

جـ - واستدلوا بأن عقود التأمين من عقود المضاربة أو في معناها، وبيانه أن المتعاقدين في المضاربة يتفقان على أن يدفع أحدهما مالا ليعمل فيه الآخر، على أن ما كان من ربح فهو بينهما، وهذا ينطبق على عقود التأمين، فإن المستأمن يدفع الأقساط مثلا، وشركة التأمين تستغل ما اجتمع لديها من الأقساط، والربح بينهما حسب التعاقد، وإذا كانت من عقود المضاربة أو في معناها فهي جائزة.

ونوقش بمنع أن يكون عقد التأمين من عقود المضاربة، أو أن يكون فيه شبه منها، وذلك لوجوه: الأول: أن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسب ما يقضي به نظام التأمين. الثاني: أن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة

ص: 130

نظاما مبلغ التأمين، ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته. الثالث: أن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا، بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين، أو مبلغ غير محدود.

د- قياس عقود التأمين على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب. فيصح ضمان المؤمن لما التزم به للمستأمن عند وقوع الخطر ويجب عليه الوفاء به كما صح ضمان المجهول ووجب الوفاء به، وإن كان الملتزم به مجهولا فيهما.

ونوقش بأنه قياس مع الفارق لوجوه:

الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه، ولذا اغتفر في الضمان ما لم يغتفر في المعاوضات المالية كالجهالة.

الثاني: أن الضامن لا يأخذ عوضا عن الضمان، بل اشتراط ذلك يفسده بخلاف التأمين، فإن المؤمن يأخذ أقساط التأمين عوضا عن ضمانه.

الثالث: أن عقد التأمين فقد فيه ركن من أركان الضمان وهو المضمون له، فلا يجوز قياسه عليه اللهم إلا أن يقال: إن المضمون له هو المضمون عنه وهو المستأمن.

الرابع: أن الضمان يكون فيه الضامن فرعا عن المضمون، وعليه فليس لصاحب الحق الرجوع على الضامن إلا بعد العجز عن أخذ حقه

ص: 131

من المضمون، وعلى أشد الأحوال يكون صاحب الحق مخيرا بين الرجوع على الضامن، أو المضمون، وليس كذلك الحال في التأمين، فإن رجوع صاحب الحق على المؤمن من دون المستأمن.

الخامس: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس كذلك الحال في التأمين بكونه معاوضة لا ضمانا، وإذا ثبت الفرق بينهما في الحقيقة والآثار لم يصح قياس التأمين على الضمان.

هـ- واستدلوا بقياس عقود التأمين على ضمان خطر الطريق.

وبيان ذلك أنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن، فسلكه فأخذ ماله ضمن القائل، فكذا القول في عقود التأمين، فإن المؤمن ضمن للمستأمن مبلغا يدفعه له، أو عنه، أو للمستفيد بشروط تراضيا عليها، فإذا أجاز ضمان خطر الطريق مع وجود الجهالة ولزم الوفاء به عند حصول الحادث جازت عقود التأمين ولزم الوفاء بها، حيث لا فرق، ومن فرق بينهما كابن عابدين لو كان في عصرنا، وشاهد تزايد أسباب الأخطار، وعرفوا فكرة التأمين، ولمسوا الضرورة التي نلمسها لما ترددوا في مشروعية نظام التأمين.

ونوقش بأن بينهما فروقا.

الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به المعروف المحض، والتأمين عقد معاوضة مالية يقصد منها أولا الربح المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه، ولذا اغتفر في الضمان ما لا يغتفر في عقود المعاوضات المالية، وأفسده اشتراط العوض عن الضمان.

ص: 132

الثاني: أن تضمين خطر الطريق لا يكون إلا إذا كان الضامن مغررا بالمضمون، بأن كان عالما بخطر الطريق وأمره بسلوكه، وأخبره بأنه آمن، وكان السالك جاهلا بالخطر فالتضمين للتغرير لا لمجرد الضمان، وشركات التأمين تقرر التضمين مطلقا، ثم هي لا ترضى أن يلصق بها ولا يسرها أن يعرف عنها أنها تغرر بالمستأمنين.

الثالث: أنه على تقدير إلزام الضامن بالغرامة مطلقا، فإنما يكون ذلك بعد العجز عن تسليم الحق من المعتدي، أو المتسبب، أو عند اختيار صاحب الحق أخذها منه ابتداء وشركات التأمين تضمن الغرامة للمستأمن على كل حال دون المعتدي، أو المتسبب ما دام الخطر قد تحقق مع توفر الشروط المتفق عليها.

الرابع: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وشركات التأمين إنما ترجع على المعتدي، أو المتسبب بقيمة التالف، أو مثله.

الخامس: أنه لا يوجد في كثير من صور التأمين ما يمكن أن يعتبر مكفولا، فلا يصح قياسه على الكفالة لفقده ركنا من أركانها.

أما ما ذكره المستدل من أن ابن عابدين وأضرابه من العلماء لو كانوا معنا اليوم وشاهدوا تزايد أسباب الأخطار وعرفوا التأمين والضرورة إليه لأباحوه فمناقشته تأتي عند مناقشة استدلالهم بالضرورة.

واستدلوا بقياس عقود التأمين على نظام التقاعد.

وبيان ذلك أن نظام التقاعد عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل من مرتب الموظف شهريا بنسبة محدودة ليعطى هو أو من يستحق من أسرته مرتبا شهريا يتناسب مع مدة خدمته وآخر مرتب كان يتقاضاه، ويصرف ابتداء من نهاية عمل الموظف في وظيفته بشروط محددة، والتأمين عقد معاوضة بين المستأمن والمؤمن يعجل فيه مبلغ إلى

ص: 133

المؤمن ليعطي المستأمن عوضا عنه فيما بعد بشروط محددة، فكلاهما عقد عجل فيه أحد العوضين وأجل الآخر مع وحدة الجنس ووجود نوع من الجهالة أو المخاطرة، وقد شهدت جميع الدلائل الشرعية الإسلامية وفقهها بجواز التأمين التقاعدي بوجه عام، ودلت على ذلك دلالة لا تقوم معها شبهة توهم التحريم، وأقره علماء الشريعة الإسلامية، بل رأوا العمل به ضروريا في نظام وظائف الدولة، فإذا جاز تطبيق نظام التقاعد على الموظفين، لما فيه من المصلحة، ولأن الحاجة دعت إليه، واعتبر من باب التعاون فلم يوجب ما فيه من الجهالة والمخاطرة في العوضين، أو في زمنهما منعه، فكذلك الحال في التأمين الذي أبرم بين المستأمن والمؤمن باختيارهما ورضاهما.

ونوقش ذلك بما يأتي:

الأول: قول المستدل قد شهدت جميع دلائل الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد، مجرد دعوى مبالغ فيها لا يساندها دليل صحيح فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع، ومثل هذه الدعوى لا يعجز أحد عنها ولا عن مقابلتها بمثلها.

الثاني: دعوى أن علماء الإسلام أقروا ما عرف بنظام التقاعد دون أية شبهة دعوى يردها الواقع؛ فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء المعاصرين من يخالف في ذلك.

الثالث: على تقدير اتفاقهم على الجواز هل يعتبر اتفاقهما إجماعا شرعيا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهما بالتقليد.

الرابع: إن كان ما يدعي من التقاعد عوضا عما اقتطع من الموظفين شهريا فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمقامرة أشد، ولأن توزيعه يجري

ص: 134

على غير سنن المواريث شرعا، عطاء مستمرا، أو مؤقتا، أو حرمانا وإن كان ما يعطى من التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته، وراعى في صرفها ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع لها نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر مكافأة من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.

ز- واستدلوا بقياس نظام التأمين وعقوده على نظام العاقلة، فإن العاقلة تتحمل شرعا دية قتل الخطأ عن القاتل، وتخفيفا لأثر المصيبة عن الجاني المخطئ، وصيانة لدماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرا؛ لأن القاتل خطأ قد يعجز عن دفع الدية فتضيع، وشركات التأمين قد وضعت نظاما للتعاون على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب، وتفرج القرب وجعلته ملزما عن طريق الإرادة الحرة، كما جعل الشرع نظاما المعاملة إلزاميا دون تعاقد وكما ندب الشرع إلى التعاون في الشدائد، وحث على إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب فتوسعت الشركة في الإلزام في التعاون عن طريق التعاقد على ترميم سائر المخاطر، وقد قال ابن القيم: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط.

ص: 135

ونوقش بأن قياس عقود التأمين على نظام العاقلة في الإسلام قياس مع الفارق وبيانه من وجوه:

الأول: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ ما بينها وبين القاتل خطأ من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مادية محضة، لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.

الثاني: أن ما يتحمله أفراد العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر وتوسط بينهما، أما أعضاء شركة التأمين فيتحملون على السواء في خصوص مال الشركة سواء في هذا ذكورهم وإناثهم غنيهم ومتوسطهم، ولا ينظر في التحمل إلى ثروتهم الخاصة في تقدير ما يتحمله كل عضو، وهذا مما يبعدها عن قصد المعروف والإحسان، ويعين قصد أعضائها إلى التجارة واستغلال المستأمنين لإعانتهم على ترميم أخطارهم.

الثالث: أن صلة النسب والقرابة تقضي بأن يكون أهل النصرة من القبيلة مسئولين عن أفرادها في كثير من مشاكل الحياة ومطالبها، فعليهم حل مشاكلهم، والأخذ على يد مسيئهم، وحماية ضعيفهم من غوائل الزمن وأحداثه، وهذا المعنى مفقود في شركات التأمين؛ إذ لا رابطة روحية بينها وبين المستأمنين، ولا أواصر رحم تدعو إلى الإحسان ودفع الظلم والعدوان، أو تجعل لها سلطانا على المستأمنين يخول لها الأخذ على أيديهم وتقويم اعوجاجهم. وإذا كان الشبه بين العاقلة والتأمين في بواعث التحمل وآثاره مفقودا لم يصح أن يقاس أحدهما بالآخر.

ج- واستدلوا بقياس عقود التأمين على عقود الحراسة، وبيانه أن عقود الحراسة وإن كان الحارس فيه مستأجرا على عمل الحراسة، فالغاية

ص: 136

المقصودة منه هي الأمان، ونتيجته معنوية هي الاطمئنان على سلامة الشيء المحروس من العدوان، وليس كالمستأجر لنقل متاع، أو على خياطة ثوب مثلا مما نتيجته حسية، وعقود التأمين كذلك، فإن المستأمن كالمؤجر، كل منهما دفع جزءا من ماله لكسب الأمان، والسلامة من الخطر، والمؤمن كالحارس كل منهما أكسب صاحبه أمانا عوضا عما بذله من ماله.

ونوقش أولا: بأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.

وثانيا: أن الحارس بذل عملا يستحق عليه العوض، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن ليأخذ عليه عوضا، وإنما يبذل مالا عند وقوع الخطر، والربا فيه محقق، وربما لا يبذل شيئا إذا لم يقع الخطر، فيكون أخذه للأقساط أكلا للمال بلا مقابل في معاوضات تجارية، وهو باطل.

وثالثا: الحارس لا يضمن الشيء المحروس إلا إذا ثبت تفريطه، أو اعتداؤه، والمؤمن ضامن عند وقوع الخطر، ولو كان بسبب قهري لا يد لأحد فيه، وعلى هذا لا يصبح القياس لوجود فروق في حقيقة كل من العقدين وآثارهما تمنع من الإلحاق.

ط- قياس التأمين على الإيداع.

وبيانه أنه يجوز الإيداع بأجرة للأمين وعليه ضمان الوديعة إذا تلفت، فكذا يجوز أن يدفع المستأمن مبلغا لشركة التأمين على أن يؤمنه بعد خطر معين.

ص: 137

ونوقش بأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين، فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد. وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين، أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.

ونوقش أيضا بأن التضمين في صورة الإيداع قاصر على ما يمكن الاحتراز عنه من الأخطار بخلاف التأمين، فإن التضمين عام فيما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن.

ى- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة.

وبيانه أن تجار البز اتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به؛ ليستعينوا بما اجتمع لديهم على ما يصيبهم من غرم، وحاول الحاكة منعهم بدعوى أن ذلك ينقص من ربحهم، فحكم الشيخ العقباني بإباحة ذلك بشرط ألا يجبر أحد من التجار على دفع الدرهم، فإذا جاز هذا جاز التأمين لما في كل منهما من التعاون على الغرم وترميم الأخطار.

ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الأول من التأمين التبادلي، وهو تعاون محض وما فيه البحث تأمين تجاري، وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.

ك- التأمين جرى به العمل، وتعارفه الناس فيما بينهما، فكان جائزا؛ لأن العرف من الأدلة الشرعية.

ونوقش بأن العرف ليس دليلا تثبت به الأحكام، ولا مصدرا من مصادر التشريع، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ

ص: 138

النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها.

ل- اشتدت حاجة الناس إلى التأمين في إقامة المشروعات المتنوعة وفي تحقيق مصالح لا بد لهم منها في حياتهم. وفي دفع مضار وترميم أخطار لا يقوى الفرد على النهوض بها وحده فكان جائزا؛ دفعا للمشقة والحرج عن الناس، وتيسيرا لطرق الحصول على ما تقوم به حياتهم وتنظم به أمورهم، وعلى ما تدفع به عنهم أحداث الزمان وغوائله.

ونوقش بأن الطرق المباحة لتحقيق المصالح وإقامة المشروعات كثيرة، ولم يضيق الله على عباده، فإن ما أباحه لهم من الطيبات وطرق كسبها أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين، وإنما هو إلف الكثير من الناس لما عهدوه وعكفوا عليه زمنا طويلا، وما عليهم إلا أن يحملوا أنفسهم على البعد عنه والفطام منه، وأن يختاروا طرقا أخرى مباحة لتكون بديلة عنه كالجمعيات التعاونية وشركات إنشاء المشروعات التي تقوم على رءوس أموال الأعضاء، والذي مكن لأعضاء شركات التأمين أن تقوم على قدم وساق بطريقة غير مشروعة يمكن لغيرها من القيام على سنن الشرع، بل نرى كثيرا من الأفراد قد وفق الله كلا منهم لإقامة مشروعات، ولا يحتاج هذا إلا لبذل النصح، والنشاط في الدعاية التي تبعث الطمأنينة إلى الطرق الأخرى المباحة، والعمل على إيجاد وعي إسلامي يحبب إلى النفوس استثمار الأموال في الوجوه المشروعة دون جبن، أو شدة خوف من شبح الخسارة تصد عن السعي والنشاط، ودون

ص: 139

طمع كاذب، أو زيادة حرص تدفع إلى أكل الأموال بالباطل م - واستدلوا بأن الأصل في عقود المعاملات الجواز ما دامت لا تعارض كتابا، ولا سنة، ولا مقصدا من مقاصد الشريعة، وأنها لا تنحصر فيما كان من أنواعها موجودا عند نزول الوحي، ولا فيما كان معهودا عند الناس في صدر الإسلام، فيجوز للناس أن يحدثوا من عقود المعاملات ما شاءوا مما لا يتنافى مع نص، أو مقصد شرعي، ومن ذلك عقود التأمين، فكانت جائزة.

ونوقش أولا: بعدم تسليم أن يكون الأصل في عقود المعاملات الجواز، بل الأصل فيها المنع حتى يقوم دليل على الجواز.

وثانيا: بأنه على تقدير أن يكون الأصل فيها الجواز فعقود التأمين قامت الأدلة على مناقضتها للكتاب والسنة، وعلى هذا لا تكون عقود التأمين داخلة في عموم أصل الجواز، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على أدلة التحريم مع المناقشة.

ن- واستدلوا بأن التأمين ضرب من ضروب التعاون المفيدة في تنمية الثروة، والصناعات والنهوض بالمجتمع في مختلف مجالاته ومشروعاته، وفي تفتيت الأخطار والتخلص من الأزمات، إلى غير هذا مما عرف من مزايا التأمين، وإذا تضمن مصلحة خاصة، أو راجحة كان جائزا، بل مأمورا به لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1)، ولأن تحقيق المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة، ومن رجع إلى وظائف التأمين ومزاياه تبين له ما فيه من جلب المنافع ودرء المفاسد والأخطار.

(1) سورة المائدة الآية 2

ص: 140

ونوقش أولا: بمنع رجحان ما في التأمين من المصلحة على ما فيه من مفسدة، بل مفسدته هي الراجحة، وعليه لا يكون من التعاون على البر والتقوى، بل من التعاون على الإثم والعدوان، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1).

وثانيا: بأن من المصالح ما شهدت له الشريعة بالاعتبار وهذه لا شك في أنها حجة، ومنها ما شهدت الشريعة بإلغائه فليس بحجة، ومنها ما لم تشهد الشريعة له باعتبار، ولا إلغاء، بل كان من المصالح المرسلة، فاختلفت في الاحتجاج أنظار المجتهدين، وعقود التأمين فيها جهالة وغرر وقمار، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لطغيان جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة، كما ألغت منافع الخمر والميسر لطغيان ما فيها من خطر وإثم على ما فيها من منافع.

3 -

أما القائلون بالتفصيل بين أنواع التأمين فمنهم من فرق بين التأمين على الحياة وما في معناها بقية أنواع التأمين التجاري فحرم الأول ومنع من الثاني، واستدل لما منعه بأدلة المانعين للتأمين مطلقا، ولما أجازه بأدلة المجيزين له مطلقا، وقد سبقت أدلة الطرفين مع مناقشتها.

ومنهم من فرق بين ما فيه من ربا وما خلا من الربا، فأباح من عقود التأمين ما خلا من الربا ومنع ما اشتمل منها على ربا إلا أنه رخص فيما هو قائم منها بالفعل مؤقتا للحاجة حتى تتاح الفرصة لوجود البديل وأوصى بالسعي الحثيث في إيجاد البديل للاستغناء به عن أنواع التأمين التي لا تخلو من الربا.

(1) سورة المائدة الآية 2

ص: 141

واستدل لصور المنع والجواز بما تقدم من أدلة المانعين مطلقا والمجيزين مطلقا، وقد سبق ذلك مع المناقشة.

ومن توقف لعدم بحثه، أو عدم انكشاف وجه الحق له بعد بحثه فتوقفه لا يعتبر حكما فلا يطالب بدليل، ولا توجه إليه مناقشة، ويشكر على نصيحته ببذل الجهد لحل المشكل بالوصول إلى نتيجة حاسمة. ونوقش ما قاله الدكتور السنهوري بما يأتي:

الأول: عقود التأمين عقود متعددة، وكل عقد منها مستقل عن الآخر فيما اشتمل عليه من إلزام والتزام، ونظير ذلك من جهة التعدد ما يقع في شركة العنان بين أعضائها مثلا وبين عدد من المشترين منهم، أو البائعين عليهم، فكل عقد بين رجال الشركة وكل طرف آخر باع عليهم، أو اشترى منهم عقد قائم بنفسه مستقل؛ ولذا لا يلزم من فساد عقد منها فساد الآخر، ولا من صحة عقد صحة الآخر، ولا من الإقالة في عقد الإقالة في الآخر. . . إلخ، وإن كان مال الشركة مختلطا يحمل ربحه خسارته، أو تقضي خسارته علما ربحه مثلا، ويسدد من مجموعه تبعات من تعامل معهم، فوجدت رأس مال الشركة ووحدة مسئولتيها أمام كل فرد، أو جماعة عاملتها لا يقضي بوحدة العقود التي أبرمتها مع كل من تعاقد معها بيعا أو شراء مثلا، وشركة التأمين مع كل مستأمن لا يختلف عن ذلك، وقد اعترف الدكتور بأن عقود التأمين لو نظر إليها هذه النظرة أي من جهة العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة ورهان، ويكون غير مشروع لا في الفقه الإسلامي، ولا في جميع القوانين التي تحرم القمار والرهان، إلا أنه حاول أن يلبس التأمين ثوبا جديدا بالنظر إلى العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم بحيث لا يكون إلا وسيطا ينظم لهم تعاونهم جميعا

ص: 142

على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل، والواقع أنه ليس وسيطا حقيقة وإنما هو أصيل في كل عقد بانفراده ملك به ما دفعه المستأمن إليه ملك التاجر لما بذل له من عوض يستثمره لمصلحته، وقد تقدم أن وحدة الشركة ووحدة مسئوليتها أمام المستأمنين، لا يستلزم وحدة العقود وصرف النظر عن اعتبار كل منها مستقلا عن الآخر، وعلى هذا يجب أن يراعى في الحكم على عقود التأمين كل عقد بانفراده.

الثاني: ذكر الدكتور أنه لا يصح التفريق بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي. . . إلخ، ويمكن أن يقال: إن هذا دفاع إلزامي لإسكات من يمنع التأمين الفردي، أو التجاري لا يثبت بمثله جواز التأمين الفردي وقد يرجع عن التفريق فيسوي بينهما في المنع، وبهذا يسقط الإلزام.

ويمكن أن يقال أيضا: إن بين الاجتماعي والفردي فرقا، فالاجتماعي القصد الأول فيه التعاون لا التجارة، فإن داخله شوائب تبعث الريبة في جوازه أمكن تخليصه منها، أما التأمين الفردي فالقصد الأول منه التجارة على غير السنن الشرعي، ولا ينفك عن الربا والغرر والقمار لقيام أركانه عليها، وعلى هذا لا يصح ما ذكر طريقا لإثبات جوازه.

الثالث: ذكر الدكتور أن عقد التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه، وليس من بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويمكن أن يسلم بأن عقد التأمين جديد باعتباره جزئيا له مقوماته وخصائصه لكن ليس بصحيح أن يقال: ليس من النظم التي عرفها الفقه الإسلامي، بل هو مندرج تحت القواعد العامة في الفقه الإسلامي، فيعرف حكمه من تطبيقها عليه، ومن مقاصد الشريعة التي بحثها الأصوليون والفقهاء بحثا كليا، ولا يمنع تمايزه عن العقود المسماة عند

ص: 143

الفقهاء التي عرفوها في بيئتهم أو عصرهم اندراجه تحت قاعدة فقهية عامة، أو تحقيقه لمقصد من مقاصد الشريعة، أو بقاءه عليه ليعرف حكمه كما عرف حكم العقود المسماة الخاصة التي وقعت في العصور السابقة، ولذا لم يكن بين العلماء إلا اختلاف النظر فيما يندرج تحته من كليات الشريعة وفقهها الإسلامي، أو ما يلحق به من عقود أخرى مسماة تتمايز عنه من جهة وتشبهه من جهة أخرى، فيحكم له بما غلب شبهه به. فنرى منهم من يدرجه تحت ما يقتضي تحريمه، أو يلحقه بجزئيات يقوى شبهه بها، ومنهم من يدرجه تحت كليات ومقاصد تقضي بجوازه، أو يلحقه بجزئيات تقضي بجوازه لقوة شبهه بها ومنهم من تردد فتوقف.

الرابع: ما ذكر من مناقشة كونه قمارا، أو تضمنه للربا، أو الغرر سبق بحثه ومناقشته من المجيزين والمانعين فلا نعيد الكلام خشية كثرة التكرار.

هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

عبد الله بن سليمان بن منيع

عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان

نائب الرئيس

رئيس اللجنة

عبد الرزاق عفيفي

إبراهيم بن محمد آل الشيخ

ص: 144