الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أن العوض في الوعد الملزم معلوم عند الطرفين ابتداء، وأما ما تدفعه الشركة فهو مجهول لا يعلم لكل واحد من الطرفين إلا بعد وقوع الخطر؛ فلا يصح قياس مجهول على معلوم.
الثالث: الوعد الملزم لا يجب الوفاء به إلا إذا تسبب الموعود بالدخول في الأمر الموعود من أجله، وأما في التأمين فإن المستأمن لا يستحق شيئا إذا دخل بنفسه فأتلف المؤمن عليه قصدا، ويستحق ما سوى هذه الصورة من صور التأمين، فالصورتان مختلفتان في تحقيق المناط؛ فلا يصح القياس وبيان ذلك أنه في الوعد الملزم إذا تحقق الحكم الوضعي تحقق بعده الحكم التكليفي، وفي التأمين إذا انتفى الحكم الوضعي وهو تسبب المستأمن استحق المبلغ، وإذا ثبت الحكم الوضعي وهو التسبب من المستأمن انتفى الاستحقاق.
جـ -
قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:
نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام العلماء السابقين فيها، ثم نتبع ذلك بكلام العلماء المعاصرين.
أما كلام العلماء السابقين فقد قالوا في تعريف المضاربة: أن يدفع مالا إلى غيره ليتجر فيه ويكون الربح بينهما على ما شرطا، فيكون الربح لرب المال بسبب ماله؛ لأنه نماء ماله وللمضارب باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح. وأما بيان أنواعها وشروطها وأحكامها، فقال: السمرقندي: ثم هي نوعان مطلقة وخاصة، أما المطلقة: فأن يدفع المال إلى رجل ويقول: دفعت هذا المال إليك مضاربة على أن الربح بيننا نصفان (1).
(1) تحفة الفقهاء 3/ 23.
وقال أيضا: ومن شروط صحتها أن يكون الربح جزءا مشاعا في الجملة. ومنها إعلام قدر الربح؛ لأن الربح هو المقصود فجهالته توجب فساد العقد فكل شرط يؤدي إلى جهالة الربح يفسد المضاربة (1).
وقال أيضا: المضاربة تشتمل على أحكام مختلفة- إذا دفع المال إلى المضارب فهو أمانة في يده في حكم الوديعة؛ لأنه قبضه بأمر المالك لا على طريق البدل والوثيقة. فإذا اشترى به فهو وكالة؛ لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فإذا ربح صار شركة؛ لأنه ملك جزءا من المال بشرط العمل والباقي نماء مال المالك فهو له فكان مشتركا بينهما، فإذا فسدت المضاربة بوجه من الوجوه صارت إجارة؛ لأن الواجب فيها أجر المثل، وذلك يجب في الإجارات، فإن خالف المضارب صار غاصبا والمال مضمون عليه؛ لأنه تعدى في ملك غيره (2).
وجاء في مدونة الإمام مالك رحمه الله: قلت: أرأيت المقارضة على النصف أو الخمس أو السدس، أو أقل من ذلك أو أكثر؟ قال: فلا بأس بذلك عند مالك. . . قلت: أرأيت إن دفعت إلى أجل مالا قراضا ولم أسم له ثلثا ولا ربعا ولا نصفا، ولا أكثر من أن قلت له: خذ هذا المال قراضا، فعمل فربح، وتصادق رب المال والعامل على ذلك قال يرد إلى قراض مثله (3).
وقال ابن جزي: وإنما يجوز بستة شروط. . . الثاني: أن يكون
(1) تحفة الفقهاء 3/ 24.
(2)
تحفة الفقهاء 3/ 25 - 26 ويرجع أيضا إلى 6/ 86 - 87 وما بعدها من بدائع الصنائع.
(3)
المدونة 4/ 48.
الجزء مسمى كالنصف ولا يجوز أن يكون مجهولا. . . السادس: أن لا يشترط أحدهما لنفسه شيئا ينفرد به من الربح، ويجوز أن يشترط العامل الربح كله خلافا للشافعي (1).
وقال أيضا: فروع سبعة- الفرع الأول: إذا وقع القراض فاسدا فسخ، فإن فات- بالعمل أعطي العمل قراض المثل عند أشهب، وقيل: أجرة المثل مطلقا وفاقا لهما، وقال ابن القاسم: أجرة المثل إلا في أربعة مواضع وهي قرض بعرض أو لأجل أو لضمان أو بحظ مجهول. . . الفرع الثالث: لا يفسخ القراض بموت أحد المتقارضين ولورثة العامل القيام به إن كانوا أمناء أو يأتون بأمين. . . إلخ (2).
وقال النووي: الركن الثالث: الربح، وله أربعة شروط. . . الشرط الثالث أن يكون معلوما، فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح شركا أو شركة أو نصيبا فسد. الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية لا من حيث التقدير، فلو قال: لك من الربح أو لي منه درهم أو مائة، والباقي بيننا نصفين فسد القراض (3). . .
وقال أيضا: إذا فسد القراض بتخلف بعض الشروط فله ثلاثة أحكام. أحدها تنفذ تصرفاته كنفوذها في القراض الصحيح لوجود الإذن كالوكالة الفاسدة. الثاني: سلامة الربح بكماله للمالك. الثالث: استحقاق العامل أجرة مثل عمله سواء كان في المال ربح أم لا، وهذه الأحكام مطردة في صور الفساد (4).
(1) القوانين الفقهية 309.
(2)
القوانين الفقهية 309 - 310.
(3)
الروضة 5/ 122 - 123.
(4)
الروضة 5/ 125.
وقال ابن قدامة: والشرط في المضاربة على ضربين؛ صحيح: مثل أن يشترط ألا يتجر إلا في نوع معين أو بلد معين، أو لا يعامل إلا شخصا معينا، وفاسد وهو على ضربين - أحدهما: أن يضاربه ولا يذكر الربح أو يشترط جزءا من الربح لأحدهما ولأجنبي، والباقي بينهما، أو يقول: خذه مضاربة والربح كله لك، أو كله لي وما أشبه هذا مما يعود بجهالة الربح، فإن المضاربة تفسد والربح كله لرب المال، وللمضارب الأجر، والثاني: أن يشترط عليه ضمان المال من الوديعة. فهل يبطل العقد بهذا على روايتين (1).
وقال الشيخ مرعي بن يوسف: والمضارب أمين بالقبض وكيل بالتصرف، شريك بالربح، أجير بالفساد، غاصب بالتعدي، مقترض باشتراط كل الربح له، مستبضع باشتراط كل الربح لرب المال (2).
(1) كتاب الهادي وعمدة الحازم 116.
(2)
غاية المنته 2/ 171.
وأما كلام العلماء المعاصرين:
فقال الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير بعد ذكره لفتوى الشيخ محمد عبده:
ثم جاء بعد الشيخ محمد عبده الأستاذ عبد الوهاب خلاف، وقال بجواز عقد التأمين على الحياة وأنه عقد مضاربة؛ لأن عقد المضاربة في الشريعة هو عقد شركة في الربح بمال من طرف وعمل من طرف آخر، وفي التأمين المال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط والعمل من جانب الشركة التي تستغل هذه الأموال، والربح للمشتركين وللشركة حسب التعاقد وقد أورد الأستاذ خلاف نفسه على هذا القياس اعتراضا هو أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعا بالنسبة، وفي التأمين يشترط للمشترك قدر معين في الربح = 3 % أو 4 % فالمضاربة غير صحيحة.
وأجاب عنه: أولا بما جاء في تفسير آيات الربا في سورة البقرة للشيخ محمد عبده وهو: لا يدخل في الربا المحرم بالنص الذي لا شك في تحريمه من يعطي آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظا معينا؛ لأن مخالفة أقوال الفقهاء في اشتراط أن يكون نسبيا لاقتضاء المصلحة ذلك لا شيء فيه وهذه المعاملة نافعة لرب المال والعامل معا. . .
ثانيا: بأن اشتراط أن يكون الربح نصيبا لا قدرا معينا خالف فيه بعض المجتهدين من الفقهاء وليس حكما مجمعا عليه (1).
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 454.
مناقشة هذا الدليل:
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ولا يجوز أن يكون العقد المذكور - أي عقد التأمين- عقد مضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم أن يكون المال من جانب المالك والعمل من المضارب والربح على ما اشترطاه والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية " الشركة " يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا؛ لأنه معلق على خطر؛ تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى (1).
وقال الأستاذ محمد كامل البناء: إن هناك فرقا واضحا يتعذر معه قياس عقد التأمين على المضاربة وهو أن رب المال يتحمل الخسارة وحده وليس الأمر كذلك في التأمين، كما أنه لو مات رب المال في المضاربة فليس لورثته إلا ما دفعه مورثهم لا يزيد شيئا، أما في التأمين فإنه لو مات المؤمن استحق صاحب منفعة التأمين مبلغا ضخما وهذه مخاطرة ينهى عنها الشارع؛ لأن ذلك لا ضابط له إلا الحظوظ والمصادفات (2).
وقال الأستاذ الدكتور مصطفى زيد: الواقع أن عقد التأمين كان يمكن أن يكون من عقود المضاربة لولا أمران: أولهما أن طبيعة المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح أو الخسارة، وليس في طبيعة عقد التأمين أي تعرض للخسارة، والثاني أنه من شروط المضاربة أن يكون الربح نسبيا غير محدد (3).
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 430.
(2)
التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه 79.
(3)
التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه 79.
وقال الصديق محمد الأمين الضرير: والذي أراه أنه ليست هناك صورة من صور عقد التأمين يمكن قياسها على عقد المضاربة، حتى لو تجاوزنا عن كون الربح في المضاربة يشترط فيه أن يكون قدرا شائعا بالنسبة، وذلك للأسباب الآتية:
1 -
المبلغ الذي يدفعه رب المال للعامل في المضاربة يظل ملكا لصاحبه ولا يدخل في ملك العامل، وذلك بخلاف التأمين فإن القسط يدخل في ملك الشركة تتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.
2 -
في حالة موت رب المال في عقد المضاربة يستحق ورثته المال الذي دفعه مع ربحه إن كان، أما في عقد التأمين على الحياة فإن الورثة يستحقون عند موت المؤمن له المبلغ الذي اتفق عليه من الشركة بالغا ما بلغ، فلو أن شخصا أمن على حياته بمبلغ ألف جنيه، ثم مات بعد أن دفع مبلغ مائة جنيه فقط للشركة فإن ورثته يستحقون الألف كاملة، فكيف يقاس هذا العقد على عقد المضاربة ولا يصح أن يقال: إن الشركة تتبرع بالزائد على ما دفعه المؤمن له؛ لأن من خصائص عقد التأمين أنه عقد معاوضة وهو عقد ملزم للطرفين، فالشركة ملزمة بدفع المبلغ المتفق عليه إذا وفى المؤمن له بالتزامه في دفع الأقساط.
3 -
في حال موت صاحب المال في عقد المضاربة يكون المبلغ الذي في يد المضارب " العامل " في ضمن تركة المتوفى يجري فيه ما يجري في سائر أموال التركة، أما في عقد التأمين فإن المال المستحق لا يذهب للورثة مطلقا، وذلك في حالة ما إذا عين المؤمن له مستفيدا- وهذا من حقه- فإن جميع المال يذهب لهذا المستفيد ولو لم يكن للمتوفى مال غيره ولا حق لورثته في الاعتراض (1).
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 455.