الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاءت تسأله عن نصيبها في الميراث: [ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس، فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس].
وأما المعقول: فهو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس عدة فرائض مجملة لا يمكنهم امتثال أمره فيها إلا بعد أن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أو بفعله، وقد أعطى الله لرسوله عليه السلام سلطة التبيين، فقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1).
(1) سورة النحل الآية 44
منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة
(أي من حيث الاحتجاج بها والرجوع إليها)
اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الأول: إن السنة والقرآن في المرتبة سواء، وإذا تعارض خبر من الأخبار في الظاهر (1) مع آية من القرآن كان المتأخر ناسخا للمتقدم.
وهذا مذهب الحنفية (2)، والمالكية (3)، وابن حزم الظاهري (4)، إلا أن الحنفية والمالكية يشترطون أن يكون الحديث متواترا حتى ينسخ
(1) قلت: (في الظاهر)؛ لأنه يستحيل أن تتعارض آية مع حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
السرخسي، أصول السرخسي 2/ 67. عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 3/ 175
(3)
القرافي، شرح تنقيح الفصول ص 311.
(4)
ابن حزم، الإحكام 4/ 107
القرآن بخلاف ابن حزم، فإن خبر الآحاد والمتواتر عنده سواء في جواز نسخ الكتاب.
الثاني: إن السنة في المرتبة التالية للقرآن، أي أن السنة لا تنسخ القرآن، وإذا حصل تعارض ظاهري بين القرآن والسنة، ولم نستطع الجمع بينهما فلا يتعدى الأمر أحد الاحتمالات الأربعة التالية:
1 -
أن تكون الآية منسوخة بآية أخرى.
2 -
أن تكون السنة منسوخة.
3 -
أن يكون الحديث ضعيفا لا يحتج به.
4 -
أن يكون وجه الاستدلال في الآية أو الحديث ضعيفا (1).
وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي (2) وأحمد بن حنبل.
والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن ذكروا خمسة أحاديث ادعوا أنها ناسخة لآيات من القرآن، وبعد التأمل فيها يجد الباحث أنه لم ينسخ أي حديث منها آية من القرآن، بل غاية ما في الأمر أن هذه الأحاديث إما بيان لمجمل الآية أو تخصيص لعمومها.
وفيما يلي بيان ذلك:
الحديث الأول: «لا وصية لوارث (3)» .
(1) محمد الأشقر، أفعال الرسول 1/ 18.
(2)
الشافعي، الرسالة ص 106.
(3)
رواه أبو داود، في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث 3/ 114 عن أبي أمامة. وروى البخاري مثله بهذا المعنى في كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث 3/ 188، وقال الألباني في كتاب أحكام الجنائز ص7 (الهامش): إن هذا الحديث متواتر.
قالوا: إن هذا الحديث ناسخ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (1).
والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل الذي نسخها آيات المواريث، لكن لما احتمل أن آيات المواريث جاءت لتعطي للوالدين ومن يرث من الأقربين حظا آخر فيكون لكل منهم حق أثبتته آيات المواريث ووصية واجبة أيضا أثبتتها آية سورة البقرة، واحتمل أن آيات المواريث ناسخة لآية سورة البقرة التي توجب الوصية، جاء الحديث ليبين أن الاحتمال الثاني هو المراد وأن الوالدين والأقربين من الورثة لا حظ لهم إلا ما قررته آيات المواريث، ولولا الحديث - كما ترى - لاحتمل إمكانية الجمع للوارث بين الميراث والوصية الواجبة، فكان الحديث مبينا لا ناسخا.
الحديث الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (2)» .
قال الحنفية ومن وافقهم إن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (3).
(1) سورة البقرة الآية 180
(2)
رواه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى 3/ 1316.
(3)
سورة النساء الآية 15
والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل هو مبين للسبيل الذي ذكر في الآية.
الحديث الثالث:
قال الحنفية ومن وافقهم: إن «نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (1)» نسخ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل قصرها على بعض أفرادها أي خصصها.
الحديث الرابع:.
«قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن خطل: اقتلوه، ولو كان متعلقا بأستار الكعبة (3)» ، وقد قتله أبو برزة.
قال الحنفية ومن وافقهم: إن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} (4).
(1) الحديث رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 3/ 1554.
(2)
سورة الأنعام الآية 145
(3)
رواه مسلم في كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام 2/ 989 - 990، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: " اقتلوه ".
(4)
سورة البقرة الآية 191
والصحيح أن هذا الحديث خصص الآية ولم ينسخها فقصر عمومها على بعض أفرادها وأخرج منهم عبد الله بن خطل.
الحديث الخامس:
قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم (1). قال الحنفية ومن وافقهم إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (2).
والصحيح أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينسخ الآية، بل هو من باب رد العدوان فإن هوازن وثقيف هي المعتدية، وكانت بداية المعركة في شوال (3) قبل دخول الأشهر الحرم، والله سبحانه يقول:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (4).
(1) انظر تفصيل قتال الرسول عليه السلام لهوازن في ابن القيم، زاد المعاد 4/ 438. وما بعدها.
(2)
سورة البقرة الآية 217
(3)
انظر في ذلك البوطي، فقه السيرة ص 297.
(4)
سورة البقرة الآية 194