الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الشيطان أتاه وأرشده إلى الأصنام التي كان الطوفان قد دفنها في الأرض بعد قوم نوح وأمره بأخذها ودعوة العرب إلى عبادتها ففعل. ومن ثم انتشر الشرك في العرب، وكانت لهم أصنام مشهورة كاللات والعزى ومناة، وكان لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها. ومن أعظم أصنامهم هبل الذي يعتزون ويقسمون به - إلى أن بعث الله نبينا محمدا خاتم النبيين فدعا إلى التوحيد ونهى عن الشرك وجاهد المشركين باليد واللسان حتى نصره الله عليهم وهدم أوثانهم وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، وواصل صحابته الكرام، وخلفاؤه العظام مسيرة الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها وفتحوا البلاد شرقا وغربا ونشروا فيها التوحيد وقضوا على مظاهر الشرك والوثنية حتى تحقق قول الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1).
(1) سورة التوبة الآية 33
ظهور الشرك في هذه الأمة:
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك:
(1)
أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم، قال صلى الله عليه وسلم:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسو له (1)» .
(2)
نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445)، صحيح مسلم الحدود (1691)، سنن الترمذي الحدود (1432)، سنن أبو داود الحدود (4418)، سنن ابن ماجه الحدود (2553)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56).
وتجصيصها والكتابة عليها؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى.
(3)
نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل.
(4)
نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين.
والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم.
(5)
نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى).
(6)
نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن.
(7)
نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، كقول:(ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم، وصانوها عن كل مناقض ومنقص.
ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من
الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه، فبنيت المساجد على القبور، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} (1). {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} (2).
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله:
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر،. . .
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه «عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (3)» ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت
(1) سورة الزمر الآية 3
(2)
سورة يونس الآية 18
(3)
صحيح مسلم الجنائز (969)، سنن الترمذي الجنائز (1049)، سنن النسائي الجنائز (2031)، سنن أبو داود الجنائز (3218)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 87).
ويعقدون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1)» ، «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها (2)» ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه (3)» وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره.
وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور. قال الإمام العلامة ابن القيم: وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر
(1) صحيح مسلم الجنائز (970)، سنن الترمذي الجنائز (1052)، سنن النسائي الجنائز (2027)، سنن أبو داود الجنائز (3225)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 339).
(2)
صحيح مسلم الجنائز (970)، سنن الترمذي الجنائز (1052)، سنن النسائي الجنائز (2028)، سنن أبو داود الجنائز (3225)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 339).
(3)
صحيح مسلم الجنائز (970)، سنن الترمذي الجنائز (1052)، سنن النسائي الجنائز (2028)، سنن أبو داود الجنائز (3225)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 339).
الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. . . .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم. . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه. ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي:
(1)
الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين.
(2)
تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين
المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية.
(3)
اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم.
وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم، وقد قال الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1).
(4)
إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين، والمبتدعة، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم.
(5)
نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة.
(6)
توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة.
صالح بن فوزان الفوزان
(1) سورة آل عمران الآية 103
صفحة فارغة
نفي تقول سخيف على الجناب المحمدي الشريف.
للشيخ عبد الله كنون.
مما تميزت به السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن سير إخوانه النبيين المبعوثين قبله، سلام الله عليهم جميعا، أنها استوعبت جميع أحواله وصفاته وأخباره قبل النبوءة وبعدها، وأخبار قومه وأسرته من قبل الأب والأم على السواء وولادته ورضاعه وتربيته ونشأته بعد وفاة أبيه وأمه في بيت جده عبد المطلب ثم في بيت عمه أبي طالب بعد وفاة جده وحركاته وتصرفاته في طور شبابه وهو مقيم ببلده مكة وأثناء رحلته إلى الشام أولا بمعية عمه وثانيا في تجارة خديجة ومعه غلامها ميسرة إلى تزوجه بها وولادة أولاده، وما شارك فيه من أعمال عمومية كحلف الفضول وتجديد بناء الكعبة إلى أن أوحي إليه وهو يتحنث في جبل حراء فاشتهر أمره وصارت أخباره على كل لسان، وهذه الفصول في سيرته كلها مما روي عنه أو عن معاصريه من قومه بطريق التواتر أو ما يقرب منه، ولم يرو لنا عن نبي غيره إلا القليل من هذه الأخبار، وبطريق تحتمل وتحتمل إلا ما ثبت منها في القرآن.
وعرف عن الرواية العربية أنها لا تهمل شيئا، وأنها تنقل الصحيح والباطل والمشتبه فيه، والسلبي والإيجابي وما هو في صالح القضية وصاحبها
وما هو بخلاف ذلك ضد عليها حتى ما كان متعلقا بالرسول صلى الله عليه وسلم وحياته إيثارا لأمانة الرواية وقداسة الخبر، واعتمادا على ما وضحه العلماء من قواعد للنقد وتمييز الصدق من الكذب وهو ما يسمى بالجرح والتعديل وعلم الرواية، ومن ثم نقل إلينا حديث الغرانيق والإلقاء في الأمنية وحديث طلاق زينب وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها وما دس فيه من سخافات وغيرهما مما اتخذه بعض المستشرقين سيئ النية وسيلة للطعن في سيرته صلى الله عليه وسلم والأمر لا يعدو أن يكون خبرا من الأخبار التي روجها المشركون، واليهود والمنافقون، ويرويها علماؤنا للتنبيه على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقاه من أعداء الدعوة وأعدائه هو شخصيا من الأذى والتقول والبهتان.
ويغفل بعض الباحثين عن هذه الحقيقة فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي بعامة، ويتعجبون من ابن خلدون، واضع فلسفة التاريخ كيف لم يطبق منهاجه النقدي على تاريخه هو، وسلك فيه سبيل المؤرخين قبله، من رواية الغث والسمين، وقد أغناه عن ذلك ما ضربه من الأمثلة في المقدمة إذ لو تتبع سقطات المؤرخين لما كفته المجلدات لتقصيها، فكان كمن يقوم بدراسة نص معين، فينبه على ما فيه من خطأ وصواب، ثم يقدمه كما هو من غير زيادة ولا نقصان.
ونخلص للموضوع الذي نحن بصدده، وهو الفرية التي جاءت في بعض الروايات من أنه صلى الله عليه وسلم سمى بعض أولاده من خديجة رضي الله عنها بأسماء شركية مما كان القرشيون في الجاهلية يتسمون به، وقد أخرج هذه الرواية الإمام البخاري في تاريخه الصغير بسنده إلى هشام بن عروة وهذا نصه:
(حدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن هشام بن عروة، قال: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة بمكة عبد العزى والقاسم وماتا قبل الإسلام.
وجاء في سيرة الحافظ مغلطاي عند ذكر ولده صلى الله عليه وسلم عبد الله الملقب بالطيب والطاهر ما يلي:
(وروى الهيثم بن عدي وهو متهم بالكذب أنه كان له - يعني للنبي صلى الله عليه وسلم ابن يقال له عبد العزى. وطهره الله منه وأعاذه).
وفي المواهب اللدنية للقسطلاني بعد ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم المتفق عليهم والمختلف فيهم، إشارة بصيغة التمريض إلى هذه الأسطورة، وهي هذه (وقيل ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف وعقب عليها الزرقاني في شرحه بقوله: " رواه الهيثم بن عدي، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى وعبد مناف والقاسم. قال في الميزان واللسان هذا من افتراء الهيثم على هشام
والهيثم كذبه البخاري وأبو داود، وآخرون، وقد قال الطحاوي والبيهقي وابن الجوزي وغيرهم: لم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام، قال ابن الجوزي: قال شيخنا ابن ناصر: لم يسم صلى الله عليه وسلم عبد مناف ولا عبد العزى قط.
وقال الحافظ قطب الدين الحلبي في المورد العذب: لا يجوز لأحد أن يقول هذه التسمية أي بالاسمين الذين زعمهما الهيثم، وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم (1)" لذلك يقول الزرقاني بعد سطور من هذا الكلام وعلى المؤلف - يعني القسطلاني - مؤاخذة، فإن مثل هذا لا يذكر مع السكوت عليه "(2) وذلك تطبيقا لما تقرر في علم الاصطلاح، قال العراقي في الألفية:
وكيف كان لم يجيزوا ذكره
…
لعالم ما لم يبين أمره
- 3 -
وننقل كلام كل من الحافظ الذهبي في الميزان، والحافظ ابن حجر في اللسان المشار إليه في تعقيب الزرقاني والمتعلق بالهيثم بن عدي الذي هو علة هذا الحديث، ونص الأول:
(الهيثم بن عدي الطائي أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي، قال البخاري: ليس بثقة كان يكذب، قال يعقوب بن محمد: حدثنا عبد الرحمن من أهل منبج، وأمه من سبي منبج (3) سكتوا عنه، وروى عباس، عن يحيى
(1) شرح الزرقاني على المواهب، ج 3 ص193 والتي بعدها، طبعة المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1325.
(2)
شرح الزرقاني على المواهب، ج 3 ص163 والتي بعدها، طبعة المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1325.
(3)
زاد البخاري في التاريخ الصغير هنا: وهو الهيثم.
ليس بثقة، كان يكذب، وقال أبو داود: كذاب، وقال النسائي وغيره: متروك الحديث.
قلت: كان إخباريا علامة، روى عن هشام بن عروة، وعبد الله بن عياش المنتوف، ومجالد، وقال ابن عدي: ما أقل ما له من المسند إنما هو صاحب أخبار، وقال ابن المديني: هو أوثق من الواقدي، ولا أرضاه في شيء ومن مناكيره، حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم مرفوعا:«إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه (1)» . داود بن رشيد حدثنا الهيثم بن عدي، عن أبي يعقوب، عن عبد الملك بن عمير قال: قال الحارث بن كلدة: من بلغ الخمسين فلا يقربن الحجامة، ولا يأخذ من الدواء إلا ما لا بد منه، إنه لا يصلح شيئا إلا أفسد غيره. أحمد بن عبيد بن ناصح حدثنا الهيثم، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القران وأن تفتش التمرة عما فيها». قال عباس الدوري: حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: كان مولاي يقوم كامل الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. مات الهيثم سنة سبع ومائتين عن ثلاث وسبعين، وحديثه يقع في جزء ابن الجهم) (2).
ونص الثاني، ويتميز بالإشارة إلى حديث الموضوع:
(الهيثم بن عدي الطائي أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي، قال البخاري: ليس بثقة كان يكذب).
ونقل الحافظ ابن حجر كل ما تقدم عند الذهبي إلى تاريخ موت الهيثم ثم زاد عليه ما يلي:
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3712).
(2)
الميزان ج 4 ص 384 طبعة عيسى البابي الحلبي - مصر.
وقال النسائي: الهيثم منكر الحديث والذي روى في تسمية أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم محال أن يصدر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ما قرأت على إبراهيم بن أحمد: أخبركم أحمد بن أبي مسعود أن عبد الله بن عمر أخبرهم، قال أبو الوقت: أنا أحمد بن مسعود، أنا ابن أبي سريع، أنا المنصور، ثنا العلاء بن موسى، حدثنا الهيثم بن عدي قال وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: فولدت له عبد العزى وعبد مناف والقاسم قلت لهشام: وأبا الطيب والطاهر؟ قال هذا ما وضعتم يا أهل العراق فأما أشياخنا فقالوا: عبد العزى وعبد مناف، والقاسم وذكر الحديث بطوله؛ فهذا من افتراء الهيثم على هشام والله أعلم.
وقال أبو حاتم: متروك الحديث محله محل الواقدي، وقال أبو زرعة ليس بشيء، وقال العجلي: كذاب وقد رأيته، وقال يعقوب بن شيبة: كانت له معرفة بأمور الناس وأخبارهم ولم يكن في الحديث بالقوي، ولا كانت له معرفة، وبعض الناس يحمل عليه في صدقه، وقال الساجي: سكن مكة وكان يكذب، وقال الإمام أحمد: صاحب أخبار وتدليس، وقال الحاكم والنقاش: حدث عن الثقات بأحاديث منكرة، زاد الحاكم: وذلك مع علمه ومحله وذكره ابن السكن وابن شاهين وابن الجارود والدارقطني في الضعفاء. . . وقال ابن يونس في تاريخ مصر: الهيثم غير موثوق، وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد ويحيى بن معين وأبو خيثمة، وقال أبو نعيم: يوجد في حديثه المناكير، وذكر المسعودي في مروج الذهب أنه مات سنة ست ومائتين (1).
(1) لسان الميزان ج 6 ص206، والتي تليها طبعة الأعلمي ببيروت تصويرا لطبعة الهند سنة 1331 هـ.
-4 -
تبينا مما تقدم بطلان رواية الهيثم في أسماء ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقد ارتبطت هذه الرواية بأدلة بطلانها أساسا عند مغلطاي وفي شرح المواهب بما صاحبها من أقوال أهل العلم بالحديث وطعونهم في مرتكب كبرها وهو الهيثم، ومنهم البخاري الذي اضطررنا لتأخير الكلام على حديثه لهذا السبب، مع تقديمنا له، فلنرجع إليه ولنقل كلمتنا فيه استنادا إلى ما حرر رجال الصناعة العارفون بعلل الروايات مبادرين إلى القول بأن علته من إسماعيل بن أبي أويس شيخ الإمام البخاري وهذا كلام الحافظ الذهبي عنه في الميزان:
(إسماعيل بن أبي أويس بن عبد الله بن أبي أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني، محدث مكثر فيه لين، روى عن خاله مالك وأخيه عبد الحميد وأبيه وأقدم من لقي عبد العزيز بن الماجشون وسلمة بن وردان وعنه صاحبا الصحيح وإسماعيل القاضي والكبار، قال أحمد: لا بأس به، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: صدوق ضعيف العقل ليس بذاك، وقال أبو حاتم: محله الصدق مغفل، وقال النسائي: ضعيف، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح، توفي سنة ست وعشرين ومائتين.
وقال ابن عدي: قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت ابن معين يقول: هو وأبوه يسرقان الحديث، وقال الدولابي في الضعفاء: سمعت النضر بن سلمة المروزي يقول: كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب، وقال العقيلي: حدثني أسامة الدقاق بعري، سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن أبي أويس لا يساوي فلسين.
قلت: وساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث، ثم قال: وروى عن خاله مالك غرائب لا يتابعه عليها أحد، وعن سليمان بن بلال، وروى عنه البخاري الكبير).
وقال عنه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب:
(إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس (1) بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه روى عن أبيه وأخيه أبي بكر (2) وخاله فأكثر)، ثم ذكر عنده أسماء ممن روى عنهم أو رووا عنه، وقول أحمد فيه وقول ابن أبي خيثمة السابق عن يحيى من أنه ليس بذلك وفسره بقوله يعني أنه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأ من غير كتابه، وقول معاوية بن صالح عنه هو وأبوه ضعيفان، وقول ابن معين فيه وفي أبيه وقول إبراهيم بن الجنيد عن يحيى فيه: مخلط يكذب ليس بشيء وقول ابن أبي حاتم: إنه مغفل، وقول النسائي عنه: ضعيف وغير ثقة، وقول اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره؛ لأن كلام هؤلاء كلهم يئول إلى أنه ضعيف ثم ذكر قول ابن عدي السابق، وقال:
أو قد حدث عنه الناس وأثنى عليه ابن معين وأحمد والبخاري يحدث عنه الكثير، وهو خير من أبي أويس) يعني أباه.
(1) كذا بحذف أبي في الأصل.
(2)
هذه كنيته واسمه عبد الحميد قال في الخلاصة: وثقة ابن معين وجماعة.
وذكر وفاته سنة 226 على ما تقدم أو 27 عن أبي حيان جازما بذلك، ثم نقل قول النضر، وسابق فيه، وقول ابن معين: إنه لا يساوي فلسين، وهو يخالف ما نسب إليه أيضا من ثنائه عليه، وقول الدارقطني السابق وذكر حادثة ارتشاء وقعت له من أحد التجار وقول الإسماعيلي عنه في المدخل كان ينسب في الخفة والطيش إلى ما أكره ذكره، وقول بعضهم فيه جانبناه للسنة ورواية لابن حزم أنه كان يضع الحديث، وحكاية عن سر تجريح النسائي له يفيد أنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم ثم عقب عليها بقوله:
(ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا نظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري. والله أعلم.
ويعتبر ما كتبه ابن حجر في مقدمته تلخيصا لما ذكر في تهذيب التهذيب مع زيادة بيان وهذا نصه.
(إسماعيل بن أبي أويس بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس، احتج به الشيخان إلا أنهما لم يكثرا من تخريج حديثه، ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين، وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري، وروى له الباقون سوى النسائي، فإنه أطلق القول بضعفه، وروى عن سلمة بن شبيب ما يوجب طرح روايته واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة لا
بأس به، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: كان يسرق الحديث هو وأبوه، وقال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلا، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح. (قلت): وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم له على ما يحدث به ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثه؛ لأنه كتب من أصوله وعلى هذا لا يحتج به من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدم فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر به (1).
وإذن فقد سقط ما رواه عنه البخاري في التاريخ الصغير المتعلق بتسمية ولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما أخرجه له في غير الصحيح، ولأنه اعتبر بما لغيره في الموضوع فلم يوافقه عليه أحد، بل خالفه الجميع، عدا ما رواه الهيثم وهو في الاعتبار من قبيل غسل دم بدم، وبالله التوفيق.
ذكر الزرقاني في شرح المواهب عند قول المؤلف في خديجة: " ثم تزوجها عتيق بن عابد المخزومي، يعني بعد زوجها الأول أبي هالة، فولدت له جارية اسمها هند " ما نصه: (وقال بعضهم: ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف وهندا)(2) وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول القطب الحلبي في المورد العذب عقب ما نقلناه عنه سابقا بواسطة الزرقاني في النقطة الثانية: " ولئن قيل أي على فرض الوجود: إنها أي التسمية وقعت، فتكون من بعض أهل خديجة، وغيرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد) (3) أي غير ما كان من تسمية شركية لولد خديجة من غيره عند زواجه
(1) مقدمة الفتح لابن حجر ج 2 ص 117 طبعة إدارة الطباعة الخيرية بمصر سنة 1347 هـ.
(2)
شرح الزرقاني على المواهب ج 3 ص220.
(3)
الزرقاني ج 3 ص 194.
بها لا لولده هو عليه السلام، فمن ذا الذي يجترئ على أن يسمى له أولاده وبأسماء شركية وهو صلى الله عليه وسلم كان الزوج المرغوب فيه المطلوب الذي لا يغيب في مناسبة مثل هذه وما ذكر الرواة الثقات وأجمعوا عليه وتواتر عند الخاص والعام من أسماء أولاده أي القاسم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر وبناته الأربع وكلهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية.
فيكون من روى أن لها ولدا باسم من هذه الأسماء المنبوذة، قد اختلط عليه الأمر فظنه للنبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه وطهره الله منه وأعاذه كما قال الحافظ مغلطاي فيما سبق عنه، وهذا إن ثبت قول من قال بذلك، وهو لا يثبت فإن ما عرف لها من أولاد على اختلاف الروايات من زوجيها السابقين هما هند وهالة وهما ذكران من أبي هالة وهند وهي جارية من عتيق.
-6 -
وأخيرا لا آخرا، فإن من المقرر الثابت بالأدلة القاطعة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الذنب قبل النبوة وبعدها ولا سيما الشرك الذي هو رأس الذنوب ولا نتعرض للمسألة بما أفاض فيه العلماء من الحجج والبراهين، ولكن نذكر الحديث الذي جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت أن الإيمان هو الأصل في كل مولود وهو قوله:«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1)» ، والفطرة هنا المراد بها الإيمان بدليل ما بعده، فإذا كان هذا هو ما يطبع عليه كل مولود فكيف بالأنبياء والرسل الذين أعدهم الله لهداية خلقه ودعوتهم الصراط المستقيم، ولا جرم أنه إذا كان لبعض الآباء سلطان على أبنائهم بتحويلهم من الإيمان إلى الكفر، فالأنبياء لا بد أن يكونوا مستثنين من
(1) صحيح البخاري الجنائز (1385)، صحيح مسلم القدر (2658)، سنن الترمذي القدر (2138)، سنن أبو داود السنة (4714)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 275)، موطأ مالك الجنائز (569).
هذا السلطان محفوظين منه، ولا سيما وأفضلهم وخاتمهم وصاحب الدعوة العامة إلى الناس كافة قد توفي والده وهو صبي فلم يكن لهما ولا لغيرهما تأثير عليه وأكبر شاهد على ذلك ما جاء في السيرة عند سفره مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو صبي من مناشدة الراهب بحيرا له باللات والعزى مختبرا له، فأجابه: لا تسلني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما وفيها كذلك عند سفره في تجارة خديجة برفقة غلامها ميسرة وأنه صلى الله عليه وسلم حضر سوق بصرى بالشام فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط، فقال له الرجل: القول قولك فها هو ذا ابن عشرة أعوام فدون يعلن عن بغضه لللات والعزى وفي عنفوان شبابه قبل زواجه بخديجة في الخامسة والعشرين من عمره يقول وهو الصادق الأمين: إنه ما حلف باللات والعزى قط ويكفينا هذا من تزييف ما نسب إليه من تلك الفرية السخيفة؛ لأنه في صميم الموضوع والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
عبد الله كنون.