الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما لماذا عمل الحنفية والمالكية بالمرسل ولم يعملوا بالحديث الصحيح، فلأن الحديث الصحيح لم يبلغهم من جهة أو أنه بلغهم لكنه لا يدل على عدم وجوب القضاء عندهم.
وسنجد عند ذكرنا للمسائل التطبيقية على القواعد الأصولية المختلف فيها أن بعض الأئمة قد يقول في مسألة بما يخالف الأصل المقرر عنده. وليس ذلك تناقضا أو تراجعا عن أصله، بل يكون قد ورد عدة أدلة جزئية رجحها الإمام على الأصل المقرر عنده في تلك المسألة.
خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس
.
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
الخلاف بين العلماء في حجية خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس الذي تكون علته مستنبطة من أصل قطعي، وليس القياس مطلقا (1).
وفيما يلي آراء العلماء في هذه المسألة:
1 -
ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور أئمة الحديث إلى ترجيح الخبر على القياس، سواء كان الراوي عالما فقيها أو لم يكن، بشرط أن يكون عدلا ضابطا (2).
2 -
وذهب الحنفية إلى أن خبر الواحد مقدم على القياس إذا كان راويه فقيها، أما إذا كان راويه غير فقيه فالقياس عندهم مقدم على خبر الواحد (3).
(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2/ 377.
(2)
الآمدي، الأحكام 2/ 118، ابن النجار، شرح الكوكب المنير 2/ 369.
(3)
عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2/ 377.
3 -
وذهب المالكية إلى أن القياس مقدم على خبر الواحد مطلقا (1). وقد نفى ابن السمعاني أن يكون مذهب الإمام مالك تقديم القياس على خبر الواحد، وقال بعد عزو هذا المذهب لمالك: " وهذا القول باطل سمج مستقبح وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول ولا يدري ثبوته.
والراجح في هذه المسألة تقديم خبر الواحد على القياس لما يأتي:
1 -
إن عمر بن الخطاب كان يقسم ديات الأصابع على قدر منافعها، ثم تراجع عن ذلك لحديث الرسول عليه السلام «هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام (2)» .
ولقوله عليه السلام: «الأصابع سواء عشرة عشرة من الإبل (3)» .
2 -
إن عمر بن الخطاب كان يرى أن الدية للعاقلة، وأن المرأة لا ترث من دية زوجها بناء على أن الخراج بالضمان، فكما أنها لا تسهم معه في دفع الدية إذا قتل غيره لا تأخذ من ديته إذا قتل، ثم ترك رأيه رضي الله عنه عندما أرسل إليه الضحاك بن سفيان الكلابي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنه من دية زوجها (4)» .
(1) القرافي، شرح تنقيح الفصول ص 387.
(2)
رواه البخاري في كتاب الديات، باب دية الأصابع 8/ 41. وأما الأثر الذي روي عن عمر في دية الأصابع فقد ذكره الشافعي في الرسالة ص 422.
(3)
رواه أبو داود في كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 4/ 188.
(4)
رواه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، وقال حديث حسن صحيح 4/ 245 - 426.
3 -
[وعندما سمع عمر بن الخطاب بحديث الرسول هذا قال: " الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا"](2).
أي لقضى رضي الله عنه بالمعقول ولقال: من يدفع الدية يأخذ التركة.
وقضاء عمر بما ثبت عن رسول الله بعد تراجعه عن رأيه وعدم إنكار ذلك من أحد من الصحابة يعد إجماعا منهم على تقديم الخبر الصحيح على المعقول والقياس.
4 -
الخبر يقين بأصله؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله، لا احتمال للخطأ فيه وإنما الشبهة في نقل هذا الخبر، أما القياس ففيه أكثر من شبهة، فهو أولا يعتمد على الخبر غالبا ويحتمل خطأ المجتهد في إلحاق الفرع بالأصل، ويحتمل خطأ المجتهد في معرفة العلة وغير ذلك.
وقد انبنى على الاختلاف في حجية خبر الواحد إذا خالف القياس عدة مسائل تطبيقية منها:
(1) رواه أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين 4/ 192 حديث رقم 4575.
(2)
رواه أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين 4/ 192 حديث رقم 4573.
1 -
مسألة المصراة:
المصراة: هي الناقة أو الشاة التي يترك صاحبها حلبها ليجتمع لبنها في ضرعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها.
ذهب جمهور. الفقهاء إلى ثبوت الخيار في بيع المصراة وإن المشتري له أن يرد المصراة وصاعا من تمر عوضا عن اللبن الذي حلبه، واستدلوا لذلك بما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذهب الحنفية إلى أن لا يرد بعيب التصرية ولم يعملوا بالحديث لمخالفته القياس، ولأن راويه غير فقيه.
قال في كشف الأسرار: " وعندنا التصرية ليست بعيب ولا يكون للمشتري ولاية الرد بسببها "(2).
وجه مخالفة الحديث القياس عند الحنفية:
الأصل أن يرد المشتري المصراة واللبن الذي حلبه، وإن شرب اللبن أو فسد عنده وجب عليه رد مثله أو قيمته؛ لأن الله يقول:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) أما قولنا يرد المشتري المصراة وصاع تمر فهذا مخالف للقياس.
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر 3/ 25، وقال الكرماني في شرحه للبخاري 10/ 30:(أن لا يحفل)، فإن قلت: هل يجب كون كلمة لا زائدة؟ قلت: لا؛ لاحتمال أن تكون مفسره، (ولا يحفل) بيانا للنهي.
(2)
عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2/ 381.
(3)
سورة البقرة الآية 194